إنّهُ لسؤالٌ لا يزالُ يحيّرُ أغلبَ أهل التّديّن والسّير والسّلوك والتّنسّك حول العالم: هل نسيرُ إلي-هِ (أو إلى.. “الله”) داخل الحياة الدّنيا أم خارجها؟
هل التّنسّكُ يتمُّ من خلال مواجهة الحياة إلى جانب أهل الدّنيا، أم من خلال العزلة والانزواء و”الهروب إلى الله”؟
لا ينبغي لنا، برأيي، الاستهانةُ بهذا السّؤال بتاتاً، فالقرارُ صعبٌ ودونَهُ معارك نفسيّةٌ وفكريّةٌ داخليّةٌ لا نهايةَ لها.
***
فلننظرْ معاً إلى حالِ أهل الدّنيا على طريقةِ أستاذِنا الحبيبِ نصري الصّايغ (مؤخّراً فقط.. ولهذا التّطوّر في حال وفكر الأستاذ الحبيب نصري موعدٌ وحديثٌ ونقاشٌ آخر إن شاء الله):
المعاناةُ تكادُ تكونُ سيّدةَ الموقفِ على هذا الكوكب: “الفقدُ” يسود.. فقدُ العدل، وفقدُ العقل (بمعنى فقد الحكمة)، وفقدُ المحبّة، وفقدُ الفرح.
أميرُ الحجاب ـ الذي يُسمّى أحياناً بأمير “الشّرّ” ـ Lucifer (أو الشّيطان وإبليس عند اليَعرُبيّين وأبناء عمّهم من السّاميّين.. والعياذ بالله) لا يزالُ “سيّدَ العالمِ” بامتياز. On est chez lui Molana!، كما سبقَ وعبّرنا في مقالاتٍ سابقة، وكما عبّر أمامنا سالكٌ مغاربيٌّ عجيب (التقينا به يوماً في أحد الشّوارع الباطنيّة لمدينة باريس..).
ما فتئَ الوَسواسُ الخنّاسُ يسيطرُ على لعبة السّلطة والسّياسة والاقتصاد والاعلام والفنّ حيثما ذهبتَ وحيثما سارتْ ركابُك، حتّى داخل الأنظمة اليساريّة أو الدّينيّة. إنّهُ لَسيّدُ هذا العالمِ الظّاهرِ، ليس فقط على Netflix، وإنّما أيضاً داخل ما يسمّيه البعضُ: بالواقع الخارجي الموضوعي!
يتحكّمُ بلعبة الأحزاب والجمعيّات: هو الرئيس الفعليّ لأغلب الأنظمة والحركات السّياسيّة (لا سيّما في لبنان). إذا ما حاولَ البعضُ الالتفافَ عليه ـ من خلال نهضةٍ فلسفيّة أو أخلاقيّة أو دينيّة أو فنّيّة ما.. أو ما شابَه ذلكمْ ـ يعودُ ويدخلُ مع جندِهِ وأوليائهِ متلطِّفاً ومموِّهاً.
يستخدمُ سيّدُ عالمِ الحجابِ هذا أسلحةً نفسيّةً فتّاكةً، وعلى رأسها “الأنا”. يستعملُها في لعبة السّياسة والسّلطة خصوصاً، لكن أيضاً في لعبة التّجارة والمال والإعلام والفنّ. هو سيّد “الأنا” كما أشرنا، ومهمّتهُ تكريسُ “الضدّ” كقاعدة لهذا العالم الذي نعيش فيه (ظاهراً). ينفّذُ Lucifer مهمَّتهُ منذ ظهور الوعي الإنساني على هذه الأرض التي نسكنها. ويبدو أنّه ينجحُ بامتياز في حين أنّ أغلبَ البشر مستمرّون في الفشل بامتيازٍ أيضاً.
***
ما فتئَ الوَسواسُ الخنّاسُ يسيطرُ على لعبة السّلطة والسّياسة والاقتصاد والاعلام والفنّ حيثما ذهبتَ وحيثما سارتْ ركابُك، حتّى داخل الأنظمة اليساريّة أو الدّينيّة. إنّهُ لَسيّدُ هذا العالمِ الظّاهرِ، ليس فقط على Netflix، وإنّما أيضاً داخل ما يسمّيه البعضُ: بالواقع الخارجي الموضوعي!
باختصار: إذا ما نظرَنا بعينِ الظّاهر، العينِ التي يحبّها Lucifer، فالوضع مزرٍ.. ومُزرٍ جدّاً. اليأسُ يغطّي المشهَد الدّاخلي طبعاً، والمشهدُ الخارجيُّ ما هو إلّا ظُلُماتٌ في ظُلُمات.
في السّياسة، يتغلّبُ “معاويةُ بن أبي سفيان” على “عليّ بن أبي طالب” في كلّ السّاحات والبلاد والأحزاب (الظّاهريّة طبعاً)..
على مستوى العلاقات الاجتماعيّة، يُوَسوَسُ للنّاس، من عُربٍ ومن عجَمٍ، ومن جِنّةٍ ومن ناس، أنّ: الغايةَ تبرّرُ الوسيلة. الغايةُ تبرّر الوسيلة حيثما سارت قافلتك: في لبنان، وفي العالمين العربي والإسلامي، وفي الصّين، وفي روسيا، وفي فرنسا، وفي أوروبا الغربيّة، وفي أميركا بالتّحديد طبعاً.
دائماً: لا تغضبْ هنا مولانا ولا تحزنْ، فالغايةُ تبرّرُ الوسيلة! دائماً: لا تخفْ، عندنا غايةٌ أكبر.. لا تغضبْ على فعلنا غير الأخلاقي هذا، واتركْ المجالَ أمام ظهور غايَتِنا الموعودة.
على مستوى التّبادل الاقتصادي والمالي والنّقدي، الأنانيّةُ الشّيطانيّةُ سيّدةُ الموقف في أغلب الأحيان (بالطّبع!). الثّريُّ يستغلُّ الفقير، وعندما يستطيع، يسرقُه. تجّار معبد إيليّا الذين طردهم المسيح، وتجّار قريش (الذين حاول الرّسول محمّد أن يستوعبهم داخل الإسلام، فاستوعبوا الإسلام الظّاهر إلى يومنا هذا).. لم ينفكّوا عن سيادة “السّوق” حيثما ذهبتَ مولانا.
الشّيطانُ سيّدُ التّجارةِ والأعمالِ الحقيقيّ.. وفي الأعم الأغلب. الأنانيّةُ تكاد تكون القانون الاقتصاديَّ الحقيقيَّ الوحيد، إلى جانب الاستئثار والجشع والطّمع والكذب والبَغي.
في الإعلام، حدّثْ ولا حرج. حبّ الظّهور المتولّد من الإنّيّة والأنانيّة هو أيضاً سيّد الموقف. “يتناتشُ” الإعلاميّون أوقات الظّهور والصّدارة “تناتشَ” الحيوانات في ما بينَها للفريسة. التّلفيقُ والافتراءُ والكذبُ والنّفاقُ والفتنةُ والتّغريرُ واصطناعُ الرّأي العام.. هي أيضاً القوانين السّائدة في عالم الإعلام وفي أغلب الأحيان.
وعالم الفنّ، بالطّبع، ليس ببعيدٍ عن هذا الواقع الشّيطانيّ العام. عداوةٌ وبغضاءٌ وأنانيّةٌ ونميمةٌ وأكلٌ لأموال النّاس بالباطل.. إلى آخر القائمة. وذلك كُلُّهُ: دونَ ذكرِ الفواحش على أنواعها، والتّشديد على تهييج الغرائز الدّونيّة للإنسان. بدلاً من أن يكونَ عالم الفنّ هو الرّافعة إلى المراتب الأعلى من الرّقي والسّمو، يصبح الزّوبعةَ التي تجرّ الوعيَ الإنسانيَّ إلى الدّرك الأسفل من “النّار”.. وبئسَ المصير!
وضعُ هذا العالمِ صعبٌ ومرير. ووضعُ هذه الدّنيا قبيحٌ وميؤوسٌ منه. لذلك، إذا ما نظرنا إلى هذه الدّنيا بعين الظّاهر لا بدّ أن نصيحَ فوراً: مملكتُنا ـ واللهِ ـ ليست من هذا العالم أبداً! من الواضحِ أنّ النّظرَ بالعينِ الباصرةِ الظّاهرةِ يدفعُ دفعاً نحو الهروب من الحياة الدّنيا، وسريعاً! فالإنسانُ ميؤوسٌ منهُ، واجتماعُهُ لا أملَ يُرتجى فيه.. فلنمُت سريعاً قبل أن نموت!
نتيجةُ النّظرِ بعين الظّاهر لا لُبسَ فيها: هذه الدّنيا ليست للقومِ الصّالحين، بل هيَ مأوى الفساد ودارُ القومِ الفاسدين. لكن، هل يعني ذلك بالضّرورة لزومَ الفرار والعزلة.. و”التّنسّك خارج الحياة” على حدّ تعبير ماكس فيبر؟ هل هذا “الحلّ” ضرورةً؟
هيّا إلى الجبال النّائية على طريقة رهبان الهيمالايا، أو إلى مغارات جبال بلادنا على طريقة بعض النّسّاك والقدّيسين.. كما تحكي أسطورة السّلطان المغاربي الموحِّد مثلاً، “السّلطان يعقوب”، الذي أعطى اسمَه ـ على ما يُحكى ـ لقريةٍ مشهورةٍ في البقاع الغربي اللّبناني. كم أتأمّل في تلّة السّلطان يعقوب من على شرفة منزل عائلتي في شتورا البقاعيّة، وأقول: متى نفرُّ من الله.. إلى الله؟
نعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيّئاتِ أعمالنا.. اللهمّ أخرجنا من هذه القرى الظّالمِ أهلها، إليك المفرُّ وإليك الملجأُ وإليكَ نُنيب!
***
إذن، فنتيجةُ النّظرِ بعين الظّاهر لا لُبسَ فيها: هذه الدّنيا ليست للقومِ الصّالحين، بل هيَ مأوى الفساد ودارُ القومِ الفاسدين. لكن، هل يعني ذلك بالضّرورة لزومَ الفرار والعزلة.. و”التّنسّك خارج الحياة” على حدّ تعبير ماكس فيبر؟ هل هذا “الحلّ” ضرورةً؟
في الحقيقة، لستُ مقتنعاً بأنّ “الله” أو “الوعي الكوني” أو “وعيُ هذا الكون”.. يريدُنا أن نذهب في هذا الاتّجاه. لم أقتنع بعدُ بضرورة التّنسّك من هذا النّوع، وذلك لاعتبارات متعدّدة، نتركها للجزء الثّاني من هذا المقال حيثُ سنرى أنّ هناك عيناً باطنيّةً بصيرةً ترى ما لا تراه العينُ الظّاهريّة الباصرة، وتُحدّثنا بأسرار هذا الوجود الحقيقيّة.. لكن من خلف حجاب وبكلماتٍ وصفها الحسينُ بن منصور (الحلّاج) كما يلي:
كلماتٍ: من غيرِ شكلٍ ولا نَقطٍ..
ولا مثلِ نغمةِ الأصواتِ!
أمّا في ما يخصُّ “هُو- يّةَ” المتكلّمِ، فيقول الحسين بن منصور، المصلوب المسلم:
حاضِرٌ غائِبٌ، قَريبٌ بَعيدٌ
وَهُوَ: لَم تَحوِهِ رُسومُ الصِفاتِ
هُوَ: أدنى من الضّميرِ إلى الوهمِ
وأخفى من لائح الخَطَراتِ!