فرنسا و”دولة القانون”.. الأسطورة كجهاز محاكاة

حين تُعلن فرنسا عن نفسها كموطن أول لـ"دولة القانون"، فهي لا تكتفي بالحديث عن مؤسسات قضائية وأحكام صادرة بحق رؤسائها، بل تبني صورةً متخيَّلة تُستهلك كرمز جماعي. هذه الصورة أقوى من الوقائع نفسها: القانون هنا لا يُمارس وحسب، بل يُعرض، يُقدَّم كفرجة وطنية، حيث يتحول الرئيس المدان أو الملاحَق إلى بطل في مسرح قضائي جماهيري. وبذلك يصبح السؤال: هل تحاكم فرنسا رؤساءها حقاً، أم أنّها تُعيد إنتاج أسطورة الجمهورية العادلة عبر عرضٍ متواصل؟

ميتران: التنصّت كشبح مستمر

في قضية التنصّت في الإليزيه (1983–1986)، أنشأ قصر الرئاسة وحدةً خاصة للتنصت على صحافيين وشخصيات عامة. بعد وفاة ميتران عام 1996، جرت محاكمات أفضت عام 2005 إلى إدانة بعض معاونيه، بينما اعتُبر الرئيس “المسؤول الأول” عن النظام، من دون أن تطاله يد العدالة بحكم الوفاة. القانون هنا بدا كأنه يطارد شبحًا أكثر مما يطارد شخصًا حيًا: الأصل غاب، وبقي انعكاسه. فالمحاكمة رسّخت صورة الجمهورية القادرة على محاسبة من كانوا حول الرئيس، حتى لو ظلّ الرأس بمنأى عن أي عقوبة مباشرة.

شيراك: الإدانة كتذكار معروض

جاك شيراك دخل التاريخ كأول رئيس للجمهورية الخامسة يُدان جنائياً. ففي 2011، حكمت محكمة باريس عليه بسنتين مع وقف التنفيذ، في قضية الوظائف الوهمية في بلدية باريس. لم يدخل السجن فعليًا، لكن الحكم حمل قيمة رمزية كبرى: القانون “لا يستثني أحدًا”. في الذاكرة العامة، لم يكن الأمر مجرد ملف مالي قديم، بل لحظة عرضية محاكاة: رئيس يقف أمام المحكمة، صورة متخيلة تُستهلك أكثر مما تُنفَّذ كعقوبة فعلية.

هولاند: الشفافية كإيماءة سياسية

فرنسوا هولاند لم يُدن، لكن عهده اهتزّ بفضيحة وزير الميزانية جيروم كاهوزاك، الذي اعترف بامتلاك حسابات سرية غير مصرّح عنها. تحت ضغط الفضيحة، استقال الوزير، وأنشأت الحكومة عام 2013 “الهيئة العليا للشفافية في الحياة العامة”. لم يُترجم الأمر إلى إدانة لرأس الدولة، بل إلى إنتاج رمز جديد: آلية مؤسساتية تسوّق صورة فرنسا كجمهورية قادرة على التجدّد الذاتي. هنا القانون يتجسد كإيماءة إصلاحية، أكثر منه كعقوبة جزائية.

ليست فرنسا “دولة القانون” بقدر ما هي دولة الأسطورة القضائية. جمهورية تحتاج أن تُدين أو تُعرّي بعض رؤسائها لتُثبت لنفسها وللعالم أنها وفية لصورتها المؤسسة: الجمهورية التي تحاكم ذاتها. لكن هذه المحاكمة لا تتم دائماً في أروقة المحاكم، بقدر ما تتم في فضاء الصور والإعلام. هنا تكمن المفارقة: القانون الفرنسي ليس فقط حقيقة تُمارَس، بل صورة تُستهلك، نسخة متجددة من محاكاة لا تنتهي

ساركوزي: حين تنهار الصورة

مع نيكولا ساركوزي تصل المشهدية إلى الذروة. تورط في ملفات متتالية: قضية “التنصّت/بيسموث”، فضيحة “Bygmalion”، وأخيرًا التمويل الليبي. في 25 أيلول/سبتمبر 2025، صدر الحكم الأثقل: خمس سنوات مع التنفيذ بتهمة “التآمر الجنائي” في تمويل حملته الانتخابية عام 2007 من أموال معمر القذافي. وللمرة الأولى، يقف رئيس سابق أمام احتمال السجن الحقيقي. المفارقة أنّ ساركوزي نفسه كان قد شارك عام 2011 في الحرب التي أطاحت بالقذافي، وكأن التاريخ يعيد إنتاج أثرٍ لم يُمحَ. ومع ذلك، حتى هذا السقوط الفعلي تحوّل إلى عرض: الكاميرات تلاحق عائلته، التسريبات تُسوّق كسلعة، وساركوزي يتقمّص دور الضحية، مستدعيًا استعارات تاريخية مثل قضية دريفوس وزولا.

القانون كعرض مستمر

ما تكشفه هذه السلسلة هو أن “دولة القانون” الفرنسية تعمل كجهاز محاكاة: كل رئيس يدخلها يُعاد تمثيله داخل مشهدية وطنية. ميتران ظل شبحًا، شيراك صار تذكارًا، هولاند إيماءة، وساركوزي عرضًا دراميًا. وفي كل مرة، يتغذى النظام من الصور أكثر مما يتغذى من العقوبات نفسها. القانون يبرهن وجوده عبر الرموز والشفافية والفرجة، لا فقط عبر التنفيذ.

جمهورية تحاكم ذاتها كي تبرر ذاتها

ليست فرنسا “دولة القانون” بقدر ما هي دولة الأسطورة القضائية. جمهورية تحتاج أن تُدين أو تُعرّي بعض رؤسائها لتُثبت لنفسها وللعالم أنها وفية لصورتها المؤسسة: الجمهورية التي تحاكم ذاتها. لكن هذه المحاكمة لا تتم دائماً في أروقة المحاكم، بقدر ما تتم في فضاء الصور والإعلام. هنا تكمن المفارقة: القانون الفرنسي ليس فقط حقيقة تُمارَس، بل صورة تُستهلك، نسخة متجددة من محاكاة لا تنتهي.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  معركة غزة.. الحرب وفن القيادة
عبد الحليم حمود

رئيس تحرير مجلة "بوليتيكا"؛ روائي وفنان تشكيلي لبناني

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  ربع قرن من الخيبات.. هل الآتي أعظم!