جورج عبدالله يُحيي القضية وهو على قيّد الحياة شهيدا

تعرض ملفه لأفظع ورشة تزوير قضائي وسياسي وإعلامي، على يد السلطات الفرنسيّة والقوى السياسية الفرنسيّة، ثم جاؤوا به أمام هيئة محلفين مغسول عقلها بالكامل، مسدودة آذانها من صراخ وعويل وبكاء ذوي ضحايا تفجيرات باريس الإرهابيّة عام 1986، وقالوا له: فلتقل هذه "العدالة" كلمتها وهي ملتزمة بشعار الجمهوريّة: "حرية، مساواة، أخوة". كان وضع جورج إبراهيم عبدالله أشبه ما يكون بوضع المسيحيين الأوائل الذين كانت السلطات الرومانية الإمبراطورية ترمي بهم في وسط ساحة مدرج كولوسيو لتنقض عليهم الوحوش المجوّعة فتفتك بهم.. وسط تصفيق وإعجاب المشاهدين.

اعتقلت السلطات الفرنسيّة جورج إبراهيم عبدالله عام 1984 على خلفية مقتل “دبلوماسيين”، أميركي وإسرائيلي، في باريس عام 1982: شارلز راي، مساعد الملحق العسكري الأميركي، والمستشار الثاني في السفارة الإسرائيلية يعقوب بارسيمنتوف.

لا علاقة لجورج إبراهيم عبدالله على الإطلاق بالحادثتين، شبه المتلازمتين، ومن البديهي أن ينكر أي مسؤولية له بهما. فهو لا يخجل بأي عمل يقوم به خصوصاً حين يتعلق الأمر بالمواقف المبدئية، أخلاقياً وسياسياً ونضالياً. وتبين، من خلال النقاشات التي جرت أثناء التحقيق، أن المحققين اكتشفوا في شخصية جورج نوعاً من الناس لم يسبق أن تعاطوا معهم. فهو شديد التهذيب، ليّن كالحرير لكنه صلب كالفولاذ. فلم يتأخّر، منذ بداية التحقيقات، ولم يتردّد، في القول للمحققين أنه يعتبر الحادثتين أمراً طبيعياً لكونهما في نظره من الأعمال النضالية المقاومة الشريفة. وكأنه يقول لهم: هذا شرف لا أدعيّه.. فيا ليتني كنت الفاعل.

هنا، وجد “حماة العدالة”، ومن خلفهم المسؤولون عنهم، ومن خلف هؤلاء وأولئك من يحركهم خلف الستار، أن لا بّد من القضاء على هذا النوع من الثوار الجذّابين الصادقين مع أنفسهم، ولا يكون ذلك إلا برمي القانون جانباً، ومعه العدالة، وإلصاق التهم بهذا الكائن الغريب عليهم ورميه في غياهب السجون حتى الموت، وليكن درساً للآخرين. فهو غير قابل للترويض. أدركوا شيئاً واحداً عنده: أدركوا أنه يعرفهم بقدر ما هم يجهلونه، لا بل أكثر. فتكونت في داخلهم عقد نقصٍ تجاهه، عقدة تزداد تعقيداً مع تألّق وضوحه وصلابة عزيمته ورقّة أحاسيسه. هو فعلاً كائن غريب عجيب قالوا.

وتوالت التفجيرات في باريس. إنه العام 1986. قالوا لا بدّ لهذا الرجل من أن يكون له علاقة معينة بالتنظيم الثوري الذي ارتكب هذه التفجيرات الإرهابيّة.. فإن لم يثبت ذلك عليه فلا مانع من إلصاق التهمة به وبطريقة احتيال على القانون تَحُول دون نفاذ عبدالله من مخالب الصهيونية. فالقانون، وحده، لا يكفل ذلك. لا بدّ من دَوْس القانون.

هكذا جرى خلط الملفات بعضها ببعض في أدمغة الناس المغسولة. وصار جورج إبراهيم عبدالله في قلب الملفات كلّها، في قلب الحلبة، وبدأت الملاحقات البوليسيّة والمضايقات والاتهامات تخنق الناس العاديين من الأجانب على قاعدة لون البشرة. وظهر فرز عنصري فاضح، في الشوراع والأماكن العامة، وساد الإرهاب المنظم، الرسمي، ودخلت الأوساط السياسية، بشخصياتها وقيادات أحزابها وجمعياتها، في سباق المزايدات الرخيصة، والرخيصة جداً، وصار الشاطر من يوجه أكثر من غيره أصابع الاتهام الى “عدوّ البشرية” جورج إبراهيم عبدالله.

تعرض جورج إبراهيم عبدالله لأفظع عملية تزوير قضائي لتبرير الحكم عليه بالمؤبد إثر تفجيرات باريس عامي 1985-1986 وهو بريء منها وأمضى في السجون الإنفرادية 41 عاماً بتهمة ارتكاب جرائم هو منها براء بالمطلق

جورج عدو البشرية

للتذكير، يومها كانت الخطوط الحمر بين المعسكرين الشرقي والغربي قد بدأت تتساقط، وكان الاتحاد السوفياتي قد دخل مرحلة الاضطراب الكبير مع وصول ميخائيل غورباتشوف الى الأمانة العامة للحزب الشيوعي السوفياتي وإطلاقه لورشة “الإصلاح” الكبرى في النظام والقاضية بإعادة تكوين بنية النظام، من القمة الى القاعدة، وبالعكس، حَمَلَتْ اسم “بريسترويكا” مع إدخال الشفافية الى بنية هذا النظام المتجدد إن لم نقل الجديد. وأطلق على هذه العملية تسمية “غلاسنوست”، وتعني “الشفافية” باللغة الروسية. والمعروف أن هذه الورشة انتهت بانهيار الاتحاد السوفياتي ومنظوماته الدولية كافة.

ويومها أيضاً كانت الحروب على أشدها:

في أفغانستان حيث كان الغرب يدعم بقوة حركات المجاهدين الأفغان ضد الجيش السوفياتي الذي كان قد اجتاح أفغانستان في الأسبوع الأخير من شهر كانون الأول/ديسمبر من العام 1979.. وكانت الصناديق العربيّة تموّل المجهود الحربي لتحرير أفغانستان.. وكان الإعلام الغربي كلّه يدعم حركات المجاهدين الأفغان ويطلق عليها “المقاتلون من أجل الحرية”.. وكانت قبعات قادة المجاهدين مصدر وحي لمصممي الأزياء الباريسية حيث كان “القائد مسعود” الملقب بـ”أسد باتشير” بمثابة فتى أحلام الحسناوات الفرنسيات.. ولم تكن ديانة المجاهدين الأفغان الإسلامية تشكل أي حرجٍ عند الغربيين، وخصوصاً منهم الفرنسيين، لمجرد أن الدعوة الى الجهاد موجهة ضد الاتحاد السوفياتي وليس ضد الغرب.

وبالتزامن مع حرب أفغانستان، كانت الحرب العراقية الإيرنية على أشدها قد انطلقت عام 1980 بهجوم واسع قاده الرئيس العراقي صدام حسين على الأراضي الإيرانية لاحتلالها وإسقاط النظام الإسلامي فيها. الغرب كلّه كان معه، محرّضاً ومسلحاً ومشرفاً، وكذلك إعلام الغرب، وجعل صناديق الخليج تدعم الحرب على إيران التي ارتكبت خطيئة لا تغتفر إذ قطعت علاقتها مع إسرائيل وانتقلت الى زعامة معسكر العداء لها، وأقفلت سفارة إسرائيل في طهران وحولتها الى سفارة فلسطين.. فكان لا بدّ من معاقبتها.. فكانت حملة “القادسيّة”. وفي سياق “القادسيّة” هذه أشعل “السكسون”، محور لندن – واشنطن، فتيل الحرب الأهلية الإسلامية الداخلية، فتيل الصراع بين السنة والشيعة، والذي يعود الى 1400 سنة فقط لا غير.. وله مستقبل زاهر باهر، وهذا ما تثبته أيامنا الصعبة اليوم.

شتم الغرب ثقافياً والتبعية للغرب سياسياً

هكذا صار لكل حرب جهادها ومجاهديها، والجهاد يقوم على ركيزتين، متناقضتين – متلازمتين في آن، هما العداء الثقافي للغرب بالتلازم مع التبعيّة السياسية للغرب!.. الأمل يرضي شعوب “المجاهدين”، خصوصاً في ميادين الزواج والطلاق وهيمنة الذكور على الإناث.. والثاني يرضي محور لندن – واشنطن استراتيجياً ويفترض، أول ما يفترض، عمل كل ما يلزم لشطب فلسطين من الحساب.

وبالتزامن مع حربي أفغانستان والخليج، انطلقت إسرائيل في حربها على لبنان (1982) ووصلت الى بيروت، ما أدى الى ولادة مقاومةٍ في وجه الاحتلال. فظهرت “جمول” (جبهة المقاومة الوطنية اللبنانيّة)، ثم ظهر حزب الله من رحم حركة “أمل” التي انقض العرب عليها وأخفوا مؤسسها الإمام السيد موسى الصدر.. وصارت المقاومة اللبنانيّة التي أفرزها حزب الله من أقوى المقاومات في العالم والأكثر قربى من إيران..

جورج إبراهيم عبدالله هو عصارة هذه المناخات كلها، المتداخلة ببعضها البعض، وعمودها الفقري هي فلسطين.

في المقابل، أتت التفجيرات العنيفة في قلب العاصمة باريس لتظهر بشكل أكثر وضوحاً صورة معبّرة عن دور الوسط السياسي الفرنسي في “لعبة الموت” الدائرة وبالتالي المحاولات الجارية لتوظيف هذه الأزمة الأمنية الكبرى في إطار الصراع على السلطة بين اليمين الفرنسي، بمفهومه العريض، واليسار المتمثل في الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي يتفوق على باقي القوى السياسيّة في ولائه المطلق لإسرائيل.

السلطات الفرنسية عملت في البدء على استخدام اسم “إبرهيم عبدالله”، وحذف جورج، للإيحاء أمام الشعب بأن باريس تواجه “إرهاباً إسلامياً”

في ذلك التاريخ كان الرئيس فرنسوا ميتران في ولايته الرئاسية الأولى قد قطع أكثر من ولايته الدستوريّة (مدتها كانت سبع سنوات) والتي بدأت مع فوزه على فاليري جيسكار ديستان عام 1981. لكن السلطة الإجرائية في الدولة الفرنسية كانت قد انتقلت الى اليمين نتيجة خسارة الحزبين الاشتراكي والشيوعي للأكثرية البرلمانية إثر الانتخابات التشريعية التي جرت في ربيع 1986، فكان أن عاد جاك شيراك الى رئاسة الحكومة، للمرة الثانية بعد أن تبوأ هذا المنصب أولاً في حكومة عهد جيسكار ديستان عام 1974.

هنا، بدأت فرنسا رحلة اختبار ما أطلق عليه تسمية “المساكنة”، أي أن يكون رئيس الجمهورية من لون سياسي معين و”الوزير الأول” من المعارضة، أي من لون آخر قد يكون شديد العداء لرئيس الجمهورية كما هو حال جاك شيراك بالنسبة الى فرنسوا ميتران. وبما أن دستور “الجمهورية الخامسة” يعطي السلطة الفعلية للوزير الأول فإن دور الرئيس ميتران بات شبه معدوم في معظم ملفّات السياسة الداخلية الفرنسيّة. تأثير الرئيس ينحصر فعلياً في ملفّي الخارجية والدفاع، بالاشتراك مع الوزير الأول. ولقد جرت حياكة هذا الدستور على قياس الجنرال شارك ديغول الذي عاد الى السلطة عام 1958 بإجماع أعضاء البرلمان كخشبة خلاص لفرنسا من التمزق الداخلي الذي راح يفتك بها في عهد الجمهورية الرابعة الممتدة من تاريخ تحرير فرنسا 1945 لغاية 1958. لكن ديغول إنسان، وهو غير خالد، بدليل مفاجأة “المساكنة” التي عادت وتكررت مع جاك شيراك كرئيس للجمهورية هذه المرة حين أصبح ليونيل جوسبان، أمين عام الحزب الاشتراكي، وزيراً أول إثر فوز حزبه في الانتخابات التشريعيّة، فتكررت “المساكنة” ولكن بالمقلوب.

“المساكنة” التي أشرنا إليها عام 1986 أسهمت في حدوثها تفجيرات كانون أول/ديسمبر 1985 والتي تشكل بداية سلسلة التفجيرات الباريسية التي بلغت أوجها في شهر أيلول/سبتمبر 1986. يعني أن الملف الأمني الأكثر تاثيراً بالتوازنات السياسية الفرنسية هو الملف المتعلق بمسلسل التفجيرات التي بدأت أواخر 1985. وأبرز اهتمامات كل من ميتران وشيراك هو الفوز في الانتخابات الرئاسية التي ستجري في ربيع العام 1988، وخلفهما شبكات من المصالح، وشركات وبيوت مال، وعلاقات شخصيةٍ تم نسجها مع حكام دولٍ أجنبيةٍ، منها عربيّة، تموّل هذا وذاك من المتسابقين على السلطة.. فمعركة 1988 الرئاسية الفرنسية أضحت في صلب كل الصراعات السياسية الداخليّة وهي ستكون معركة كسر عظام، وبكل معنى الكلمة، بين رئيس الجمهورية ورئيس حكومته.

الحكومة الفرنسية كلفت رئيس جهاز الأمن الداخلي إيف بونيّه أن يعقد صفقة مع نظيره الجزائري، لكحل عياط، لحل قضية البريء جورج، لكنه فوجىء لدى عودته بأن حكومته إنسحبت من الإتفاق، فجن جنون الجزائريين

جورج مادة للمزايدات

صار ملف جورج إبراهيم عبدالله في صلب السجالات والمزايدات السياسية الفرنسية لكونه مادة توظيف سياسي لهذا الفريق أو ذاك. وفي الحالتين، كانت الكتلة الضاغطة الصهيونية، التي تتحكم بمفاصل السياسة والقرار في فرنسا، والخاضعة لنفوذ أسرة روتشليد السلطويّة، تعمل متجاوزةً الفواصل والفوارق السياسية بين الفرنسيين. والثابث في جدول أعمال المنظمة الصهيونية في فرنسا. جعل المجتمع الفرنسي مستنفراً بشكل متواصلٍ ضد فلسطين وضد من يتعاطف من قريب أو من بعيد مع فلسطين. كيف لا والسلطة الفعلية في فرنسا انتقلت من زمانٍ – زمان، من المؤسسات الدستورية الى بيوت المال وذلك من خلال الانقلاب الصامت، الهادئ، الذي حصل في فرنسا في شهر كانون الثاني/يناير 1973 حين مرّر الرئيس جورج بومبيدو ووزير ماليته جيسكار ديستان بهدوء غير عادي (وهو بالمناسبة أحد أنسباء جورج بيكو) قانوناً استثنائياً بموجبه يمنع على مصرف فرنسا المركزي، منعاً باتاً، الاستمرار في إصدار العملة الوطنيّة، وتحول هذه الصلاحية الى مجموعة من البنوك الخاصّة أبرزها بنك روتشليد، وذلك على غرار الانقلاب الذي حدث في الولايات المتحد الأميركية عام 1913. أطلق العارفون بخفايا الأمور، وهم لا يزالون لغاية يومنا هذا قلة قليلة جداً من النخب الحاكمة، أطلقوا عليه اسم “قانون بومبيدو – جيسكار ديستان – روتشليد”. حسبنا الإشارة الى أن بومبيدو كان مديراً لبنك روتشليد في أربعينيات القرن الماضي مثلما كان الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون قد عمل فترة كموظف في بنك روتشليد قبل أن يصل إلى الأليزيه.

جورج إبراهيم عبدالله بات يجسد، في نظر الأوساط الصهيونية الحاكمة، كلّ ما له علاقة بفلسطين المطلوب غربياً شطبها عن الوجود من أساسها. وصار من الصعب جداً، لا بل من المستحيل، لأي كان أن يدعو الى تحكيم لغة العقل والقانون لوضع حدٍّ لحملات التهييج الهستيري للشارع الفرنسي من خلال ما تطلقه أجهزة الإعلام الصهيونيةِ الولاء من تحريض عنصري بحجة البحث عن المتورطين بالعمليات الإرهابية بين الأجانب بشكل حصري، وفي مقدمتهم المسلمين. فعاد الزمن الى حقبة الوشايات التي بَرَعَ بها الفرنسيون في عهد حكومة فيشي الموالية للاحتلال النازي لفرنسا. حتى أن بعض اليهود، المعادين للصهيونية، واجهوا صعوبات جمّة لتمرير بعض الكتابات التي تشبه سلوك الدولة الفرنسيّة بسلوك حكومة فيشي، وملاحقات البوليس الفرنسي اليوم للأجانب الأبرياء بملاحقات الأجهزة الأمنية الفرنسية – الألمانية المشتركة بحق اليهود الرافضين للصهيونية. و.. فتح باب المزايدات السياسية على مصراعيه وظهر بوضوح أن خطاب الاشتراكيين كان باستمرار يصب الزيت على النار بقصد إفشال الحكومة اليمينية وتأمين ظروف الفوز في الانتخابات الرئاسيّة لفرنسوا ميتران ولشبكة المصالح المرتبطة به وبحزبه، في الداخل وفي الخارج.

توسلت حكومة شيراك من المطران هيلاريون كبوجي عام 1986 أن يتوسط لدى حافظ الأسد فأجاب المطران: إذهبوا أنتم إليه، فلا شيء يضمن لي أن تصدقوا هذه المرة

الاستعانة بالمطران كبوجي

إقرأ على موقع 180  من جورج فلويد إلى خيري علقم.. ازدواجية معايير الغرب

هنا، وجد شيراك وجهازه السياسي، في ضوء تقارير أجهزة الأمن، أن الأوضاع الأمنية قد تسجل انفلاتاً يصعب تطويقه وأن هذا الانفلات سيقضي على الحكومة وسيّدمر آمالها بالفوز في الاستحقاق الرئاسي الذي كان سيجري بعد أقلّ من سنة ونصف السنة، وبالتالي لا بد لشيراك من أن يستعين بالخارج، الخارج الذي تناصبه فرنسا العداء، وهو الذي تعتبره الأجهزة الأمنية بأنه الوحيد القادر على لجم معظم المنظمات الوارد ذكرها في التقارير: إنه “الخارج السوري”. وبما أن العلاقات بين باريس ودمشق كانت تمر بمرحلة من أسوأ المراحل منذ معركة الاستقلال في أربعينيات القرن الماضي، فلا بد من الاستعانة بوسيط موثوق محترم من الجميع ويعمل على التقارب وليس التنافر بين سوريا والغرب، فجرى بحث سريع وجدي عن الشخصيات المؤهلة للقيام بهذه المهمة، ووقع الخيار على الاستعانة بمطران القدس المنفي هيلاريون كبوجي كشخصيةٍ جامعةٍ بين العرب يتمتع باحترام كبير في إيران وفي المغرب العربي ناهيك عن وساطة سابقة له تكللت بالنجاح حين تسلم جثث الأميركيين من إيران وسلمهم للصليب الأحمر الدولي في جنيف بالإضافة الى مساعيه لإطلاق سراح رهائن السفارة الأميركية في طهران مقابل وعد لم تلتزم به واشنطن كان يقضي بدعوة ياسر عرفات إلى البيت الأبيض والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي قضية مركبة لا مجال لاستعراض حيثياتها وخلفياتها في موضوعنا اليوم..

… وفجأة يرن جرس الهاتف في شقة المطران كبوجي الصغيرة المتواضعة، والمتواضعة جداً، في روما، فيعّرف المتصل عن نفسه: أنا روبير بوندرو، وزير الأمن في الحكومة الفرنسيّة. وبعد دقائق من حديث التقدير والاحترام واللياقات، المتعارف عليها، يدخل الوزير الفرنسي في صلب الموضوع: تفجيرات باريس، الاغتيالات، جورج إبراهيم عبدالله كصيد ثمين، وتوقع كوارث إضافية، مع رغبةٍ بوضع حدٍّ للعبة الموت هذه ورهان على شخصية المطران كبوجي، مع إلحاح شديد للموافقة على إسداء هذه الخدمة الكبرى باسم “الإنسانية” جمعاء..الخ..

كبوجي لوزير الأمن روبير بوندرو: لا يمكنكم أن تطلبوا مساعدة سوريا بالسر وأن تشتموها في العلن

المطران أعطى موافقته فوراً، واتصل بنا (صديقي ورفيقي وأخي الأستاذ سركيس أبوزيد، والعبد الفقير): عندي زيارة طارئة لباريس. غداً الساعة 13 من بعد الظهر تصل طائرتي الى مطار شارل ديغول. التفاصيل غداً.

في الساعة المحددة كنّا على المطار. لكن المطران لم يخرج مع المسافرين. فانتظرنا لأكثر من ساعة، وإذا برجلٍ من الأمن يتقدم نحونا ويقول: تنتظران مونسينيور، أليس كذلك؟.. إنه في باريس وسيتصل بكما.

وهكذا كان واتصل المطران بنا بحدود الساعة الثامنة مساءً، وسرعان ما أوصلته المراسم الى البيت بعد أن اعتذر عن قبول الدعوة الرسمية للإقامة في مكان مخصص لضيوف الشرف. وأطلعنا على التفاصيل، وقال: “نحن الثلاثة فريق عمل واحد وغداً سأطلب من وزير الداخلية شارل باسكوا، وشريكه في الملف روبير بوندرو أن يؤمن لي فرصة لزيارة جورج إبراهيم عبدالله في السجن كشرط أساسي لبدء الوساطة بين باريس ودمشق. فبعد تجربتي في ملف الرهائن الأميركيين لم أعد أثق على الإطلاق بالوعود والالتزامات الكلامية”.

ولكن، في ذلك اللقاء الأول نقل الوزير بوندرو للمطران اعتذاراً شديداً عن عدم تمكن زميله باسكوا من الحضور “لانشغاله بأمور الدولة”. وراح يكيل الانتقادات لـ”المعارضة الرئاسية”، المتمثلة بالحزب الاشتراكي الفرنسي وحلفائه، بسبب ما وصفه بـ”تصرفاتهم غير المسؤولة” وقوله أنهم يغلبون بشكل وقحٍ مصالهم السياسيّة على أمن المجتمع ومنعة الأمة.. وتمنّى، بإلحاح شديد الحفاظ على سريّة الزيارة وسريّة اللقاءات لضمان نجاح المهمة.

وفي اليوم التالي كرّر بوندرو اعتذاره عن تغيب الوزير باسكوا، للسبب نفسه، أي “لظروف قاهرة جداً ذات صلة بأمور الدولة العليا”. والحقيقة هي أن الوزير باسكوا كان قد أطلق وعداً قاطعاً أمام الفرنسيين بأن حكومته “لا يمكن أن تتفاوض مع الإرهابيين، لا مباشرةً ولا بشكل غير مباشر”، والاشتراكيون يرصدون أي نفس له خصوصاً أنه كان هو الوزير الأقوى في حكومة شيراك، وأي نكسة سياسيّة يتعرض لها تنعكس سلباً على الحكومة ككل وتؤثر في الانتخابات الرئاسية المنتظرة والتي باتت تتحكم بالأداء السياسي للقوى المتنافسة على السلطة حيث كلٍّ من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة يعمل على طحن عظام خصمه بلا رأفة.

المطران كبوجي بعد لقائه جورج إبراهيم عبدالله في السجن: إنه بريء بريء بريء

كان خبر وصول المطران الى باريس قد تسرب الى الإعلام الصهيوني من أوساط السلطة فدبّ الذعر بفريق جاك شيراك، وراحت الحملة ضد الحكومة تتصاعد، واستخدم الاشتراكيون أبواقه الأكثر شراسة وصهيونيةً للتجريح بالطاقم الحاكم وذلك بدعم من الرئيس فرنسوا ميتران الذي عمل على استغلال القضيّة استغلالاً كاملاً. لقد صوروا الأمر على النحو الآتي: بدأت الحكومة اليمينية تتفاوض مع الأوساط الإرهابية المسؤولة عن سفك دماء الفرنسيين والمتورطة بجرائم ضد الساميّة حتى وصل بها الأمر الى التنسيق في الخفاء مع “الأسقف الإرهابي هيلاريون كبوجي”.. الى ما هنالك من موجات دعائيةٍ خبيثة بلغت حدّ الشتائم، هذا منذ اليوم الثاني لبدء المهمة. فاضطرّ الوزير بوندرو لتلبيّة شرط المطران الاجتماع بجورج إبراهيم عبدالله في السجن. وهكذا كان، وحضرت المراسم لنقل المطران من البيت الى سجن “لاسانتيه” الواقع على بعد 150 متراً من الشقة المتواضعة في شارع “أراغو”، في الدائرة 14 من باريس.

هنا حدث أمر مضحك، لكنه مفتعل بقصد ضرب الحكومة في الصميم والتأكيد للشعب الفرنسي بأن ما تقوله “المعارضة الرئاسيّة” صحيح جداً وأن الثنائي، شيراك – باسكوا، يكذب على الفرنسيين وأن سوء إدارته مسؤولة عن التفجيرات وعن سفك دماء الناس الأبرياء. لقد حدث الأمر التالي: وصلت سيارتا المراسم والأمن الى مبنى الشقة المتواضعة، وهو يقع في مجمّع سكني حديث مكون من أبنيةٍ عدّة تسكنها عائلات بورجوازيّة، وفي الطابق الأرضي تقع مكاتب وكالة “غامّا” للصور، وكانت في ذلك الوقت من أهم الوكالات في العالم، وقبل بضعة أسابيع كان قد افتتح فيها قسم للتلفزيون “غاما تيلي” ومكاتب الوكالة تطلّ على بهوٍ داخليٍّ تسمح لمن هم في “غاما” رؤية كل ما يجري في مدخل المجمع. وصودف أن الشقة تقع في المبنى رقم واحد. لكن سيارتّي المراسم وصلتا مع صفارات الإنذار المدوية بحيث لفتتا أنظار كل أفراد طاقم الوكالة وهم بالعشرات، وشاهدوا المطران بأمّ أعينهم وهو يدخل الى السيارة. لم يكن هذا الخطأ بريئاً على الإطلاق. فالصهاينة العاملين داخل محور الوزيرين، باسكوا – بوندرو، هم الذين تسببوا بهذه “الثغرة الأمنية” التي فضحت كل شيء وسكبت الزيت على النار فاشتعلت المزايدات السياسيّة فيما الرئيس ميتران الذي كان قد أصبح هو الزعيم الفعلي للمعارضة من داخل قصره الرئاسي، يالغرابة الموقف، يتأمل بالمشهد ويبتسم بسادية، اشتهر بها، وهو يتأمل بنيران الأحداث تحرق أجزاء من خصمه قبل موعد المنازلة.

المحامي جاك فيرجيس المدافع عن جورج عبدالله قال لنا: إنتبهوا، نحن أمام عصابات ولسنا أمام حكومات

كبوجي وفيرجس يقعان في جاذبية جورج

وكان اللقاء داخل السجن، بين مناضلين في قضيةٍ واحدة: فلسطين. تبادلا عباراتٍ مكتوبةً قبل اللقاء بدقائق، ثم التقيا. فحرص المطران أن يكون الحوار بالهمس لسببين: الأول وجود أجهزة تنصتٍ متطورةٍ جداً، والثاني لوجود آلات تصوير قادرة على معرفة ما دار من حديث من خلال حركة الشفاه. وكان المطران قد تعلم ذلك من لقاء البابا يوحنا بولس الثاني مع محمد علي أقجا داخل سجن الأخير في روما.

خرج المطران من الاجتماع مقتنعاً تماماً ببراءة جورج من كل التفجيرات الحاصلة، مسحوراً بشخصيته الفذّة، وقال لنا: جورج من أهم الشخصيات التي عرفتها في حياتي وأثرت بي. وعاد الى محاوره الحكومي وبادره بالقول: جورج إبراهيم عبدالله برئٌ برئٌ برئ.

كان الثنائي (شيراك – باسكوا) يشعر بأن الأرض تميد من تحته وأنه دخل في نفق مظلم يصعب الخروج منه سالماً.

هنالك مثل يفرض نفسه في ذلك الوقت يتلخّص بموقف وزير الخارجيّة السابق رولان دوما ويعطي فكرة عن تنكر الناس لصداقاتها المحترمة. كان رولان دوما صديقاً مقرباً جداً من المطران كبوجي، وسبق أن شارك في الدفاع عنه حين محاكمته أمام المحاكم الإسرائيلية. كما أنّه كان صديقاً للمحامي جاك فيرجيس، أقوى محامي جزاء في الغرب كلّه. ونصير المناضلين والمستضعفين في العالم، وهو غني عن التعريف، ودخل الى المشهد كمحامي دفاع عن جورج إبراهيم عبدالله. لكن دوما وضع صداقته جانباً، ومعها ضميره ووجدانه، وصار همّه مناصرة صديقه ميتران للفوز بالرئاسة، فيعود هو الى وزارة الخارجية.

كل ذلك كان يلقي بثقله على ملف جورج إبراهيم عبدالله، لكنه لم ينل من صموده وصبره وعزيمة هذا المقاتل المميز. فوقع جاك فيرجيس تحت تأثير جاذبية جورج إبراهيم عبدالله، تماماً كالمطران كبوجي.

فيرجيس: المعارضة الإشتراكية تريد تفجير حمامات الدماء في شوارع باريس وتبحث عن كبش للمحرقة

تلغيم المبعوث الفرنسي الى حافظ الأسد

كان السياسيون الفرنسيون يتصرفون كما لو أن مصلحة فرنسا لا تعنيهم. فلقد حاولت الحكومة الفرنسية إقناع المطران كبوجي بالذهاب الى دمشق والطلب من الرئيس حافظ الأسد المساعدة في “لجم المنظمات المتطرفة” ذات الصلة المباشرة بالقضية الفلسطينية. فرفض المطران تلبية هذا الطلب رفضاً قاطعاً وقال للوزير باندرو: ما هي الضمانة بأنكم ستلتزمون بتعهداتكم تجاه الأسد في حال قدم لكم يد المساعدة. لقد تعلمت من تجربتي مع الأميركيين حين قدموا لي كل التعهدات المطلوبة مقابل أن أتدخل لدى الإمام الخميني في طهران لحلّ أزمة الرهائن في السفارة الأميركية، وإذا بالأميركيين يكذبون عليّ وينكثون بوعدهم على الرغم من بادرة حسن النية التي أظهرها الإيرانيون من خلال تسليمي جثث الجنود الأميركيين في حادثة “طبس”. عليكم أنتم كفرنسيين أن تذهبوا الى دمشق. وأن تتوقفوا عن شتمها في العلن ومحاولة التقرب منها في السرّ. ويجب أن يكون موفدكم برتبة وزير بارزٍ ومؤثر.

وإذا بأيدٍ خفية تتدخل وتقترح على المطران كبوجي أن يكون الوزير ميشال أورياك، وزير التعاون هو الموفد. بذلك تكون النتيجة معروفة سلفاً إذ أن الأسد سيسأل مساعديه ماذا يعني وزير التعاون في فرنسا؟ فيقولون له: إنه الوزير المسؤول عن المستعمرات السابقة فيجنّ جنونه وتخرب الأمور بالكامل بدلاً من إصلاحها.

“الصهاينة موجودون في مفاصل الدولة الفرنسية” قال لنا جاك فيرجيس ذلك خلال جلسة وجدانية لتبادل الرأي على مائدة العشاء. كنا وحدنا: المطران كبوجي وسركيس والعبد الفقير وفيرجيس. فبعد أن أُسهب في وصف إعجابه بشخصية جورج ورقيّه ونقائه وصلابته قال لنا: إننا نواجه عصابات وليس حكومات أو مؤسسات، وتابع قائلاً بالحرف: “لا مانع عند المعارضة الرئاسية من تفجير براكين الدماء في الشوارع إن كان ذلك يخدم مصالحها الوضيعة”.

أحداث عدّة أظهرت صحة هذا القول. فلقد روى لي الصديق الأستاذ بسام القنطار أن السيدّ إيف بونيه، المدير السابق للاستخبارات الداخلية الفرنسيّة، أكد له أنه في تلك المرحلة كان قد توصل الى إتفاق مع نظيره الجزائري، لكحل عيّاط، على إطلاق سراح جورج إبراهيم عبدالله، فعاد الى باريس وأطلع رؤساءه على الموضوع الذي، من أجله أرسلوه الى الجزائر، فإذا بالمفاجأة تسقط عليه كالصاعقة: لا. لا. انتهى الأمر. هذا الاتفاق لم يعد وارداً عندنا!.

كل ذلك يعطي فكرة عن الملابسات التي طغت على ملف جورج إبراهيم عبدالله الذي عشقه كل من تعرّف إليه. الحديث عنه لا ينتهي. لذا لا تستغربن ما كان يحدث طيلة السنوات الخمس والعشرين التي كانت تتدخل فيها الخارجية الأميركية لتعطيل مفعول السلطة القضائية في “فرنسا أُمّ الفنون والسلاح والشرائع” كما يتغنون.

جورج إبراهيم عبدالله دفع ويدفع ثمن الحفاظ على الكرامة الإنسانية ورمزها فلسطين فارتقى كبعض أترابه الى مستوى الشهداء،

يحيي القضية في مواقف عزّه وهو على قيد الحياة شهيدا.

(*) تنشر بالتزامن مع مجلة “تحولات”.

Print Friendly, PDF & Email
حسن حماده

كاتب؛ عضو المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع، لبنان

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  اللامركزية VS الزبائنية.. "سيرة وإنفتحت"