تحوّلات السّياسة السّورية تجاه لبنان.. بين المُضْمَر والمُعْلَن

التّصريحات السّياسيّة في القاعات المكيّفة شيءٌ، وحقائق التّاريخ بين دمشق وبيروت شيءٌ آخر. ذلك الإرث الثّقيل من التّداخل والتّبعيّة الذي استمرّ حوالي ثلث قرنٍ (1976 – 2005)، لم يكن مجرّد وجودٍ عسكريٍّ سوريٍّ على الأرض اللبنانيّة فقط، بل كان مشروعاً سياسيّاً متكاملاً لإعادة صياغة الهويّة اللّبنانية وفق الرّؤية السّورية. خلال تلك العقود تحوّل لبنان إلى ساحةٍ خلفيّةٍ للصّراع الإقليميّ، وورقةً تفاوضيّةً بيد النّظام السّوري، والأخطر من ذلك أن جيلاً كاملاً من السّياسيّين اللّبنانيّين ترعرع على ثقافة "التّبعيّة المدروسة"!  

ما يزال صدى هذا التاريخ الثقيل يرنّ في أروقة القصور الرسمية وفي نفوس النّاس على جانبي الحدود. فذاكرة اللّبنانيّين تحتفظ بصور الجنود السّوريين على الحواجز، وبالقرارات التي كانت تُتّخذ في دمشق لِتُنِفَّذَ في بيروت. بينما تربّى جيلٌ من السّوريين على خطابٍ سياسيٍّ يصوّر لبنان كحديقةٍ خلفيّةٍ لسوريا، وككيانٍ لا يستقيم أمره إلا بالوصاية السّورية. هذه الذّاكرة المشتركة المثقلة بالألم والكبرياء الجريح تشكّل خلفيّةً لا يمكن تجاوزها عند قراءة أيّ تصريحٍ سياسيٍّ، مهما بلغت درجة وضوحه.

في ظل هذا المشهد المعقّد، يطلّ الرئيس السّوري المؤقّت أحمد الشّرع بتصريحه الذي يصف علاقة التّبعيّة بأنّها “خطأٌ كبيرٌ”، داعياً إلى علاقةٍ “من دولةٍ إلى دولةٍ”. لكنّ الشّرع، في حقيقته، ليس بيروقراطيّاً قادماً من ماكينة النّظام القديم أو وزيراً سابقاً للإعلام أو رئيس وزراء، بل هو قائدٌ جهاديٌّ وعسكريٌّ سابقٌ، وزعيم “هيئة تحرير الشّام”. وإنّ مرونته التّكتيكيّة في التّعامل مع الملفّ اللّبنانيّ تنمّ عن إدراكه بأنّ سوريا في مرحلةٍ انتقاليّةٍ تحتاج إلى إعادة بناء ذاتها وتحالفاتها الإقليميّة، وأنّ الاعتراف بلبنان قد يكون “تكلفةً ضروريّةً” لتحقيق مكاسب أكبر في العلاقات العربيّة والغربيّة، في سياقٍ يهدف إلى “استعادة هويّة سوريا المفقودة” و”بناء سوريا المستقبل”، وخير دليل على ذلك تلك النظرة الدونية التي تحدث فيها عن دولتي جوار عربيتين هما مصر والعراق بلغة دونية في معرض المقارنة بينهما وبين تركيا ودول الخليج العربي “الناجحة”.

لكنّ قراءةً أعمق لشخصيّة الشّرع وخلفيّته تكشف عن تحوّلٍ معقّدٍ، فهو من جهةٍ يمثّل القطيعة الجذريّة مع النّظام القائم وإرثه التوسّعيّ، ومن جهةٍ أخرى يُدْرِكُ أنّ سوريا ما بعد الحرب لم تعد كما كانت قبلها. فقد شهدت تحوّلاتٍ جيوسياسيّةٍ عميقةٍ، واضطرت إلى إعادة تعريف تحالفاتها وعلاقاتها مع الجوار. في هذا السّياق، يمكن فهم تصريحات الشّرع كجزءٍ من عمليّة إعادة تعريفٍ ذاتيٍّ لسوريا في محيطها الإقليميّ، بعيداً عن أيديولوجيّة “سوريا الكبرى”، وهو تحوّلٌ مطلوبٌ لكسب الشّرعية الإقليميّة والدّوليّة، حتى لو اضطر لإدانة دولة كالعراق احتضنت تجربته الجهادية أو مصر التي تمكنت من خنق التجربة الإخوانية في مهدها!

هذا الارتباك الممزوج بمرونة نسبية يبقى ضمن الدّائرة الحمراء للمصالح السّورية العليا. فحين يُهدّد الشّرع باتّخاذ إجراءاتٍ تصعيديّةٍ ضدّ لبنان حول قضية الموقوفين السّوريين في السّجون اللّبنانيّة، فإنّه يكشف عن أنّ الاعتراف يبقى مشروطاً بتحقيق المصالح، وليس مبدأً ثابتاً. هذا التّناقض بين الخطاب والممارسة يُذكّرنا بأن الاعتراف بين الدّول يشبه الثّقة بين الأفراد – تُبنى بالسّلوك اليوميّ، لا بالتّصريحات الظّرفيّة. إنّه يحتاج إلى تحوّل على مستوياتٍ متعدّدةٍ من الاعتراف الدّبلوماسيّ المتمثّل في تبادل السّفراء وفتح القنصليّات، إلى الاعتراف القانونيّ بترسيم الحدود واحترام السّيادة ، مروراً بالاعتراف الشّعبيّ عبر بناء ثقافة الاحترام المتبادل، وصولاً إلى الاعتراف الأمنيّ بإنهاء سياسة “البوّابة المفتوحة” للتدخّل في الشّؤون اللّبنانيّة.

وهنا تبرز المعضلة الحقيقيّة، إذ هل يمكن لنظامٍ سياسيٍ مبنيّ على خلفيّةٍ جهاديّةٍ، بنى جزءاً كبيراً من هويّته الانتقاليّة على أساس القطيعة مع الماضي، أن يتخلى عن “الدّور القيادي” لـ”سوريا الكبرى” بسهولةٍ أو عن فكرة الدولة – الأمة؟

التّاريخ يشير إلى أنّ التّحوّلات الجذريّة في السّياسة الخارجية تحتاج إلى تحوّلاتٍ مماثلةٍ في البنيّة الدّاخليّة. فالنّظام السوري الجديد يحمل في جيناته السّياسية مفهوم “إعادة بناء سوريا المفقودة”، وهذا يتطلّب الانصراف عن المشاريع الإقليميّة التوسّعيّة. هذه الإشكاليّة تجعل من الاعتراف الكامل باستقلال لبنان تحدّيّاً وجوديّاً للهويّة الجديدة التي تسعى سوريا لتشكيلها.

ولتحويل هذا الاعتراف من تصريحٍ إعلاميٍّ إلى واقعٍ ملموسٍ، فإنّ الطّريق ما يزال طويلاً وشائكاً. فهو يبدأ بتحويل الخطاب إلى سياساتٍ ملموسةٍ عبر سحب أيّ وجودٍ عسكريٍّ، واحترام الحدود، ووقف التدخّل في الشّؤون اللّبنانيّة. ويستمرّ بمعالجة الملفّات العالقة بشفافيّةٍ، وبخاصةً قضيّة الموقوفين السّوريين في لبنان والمعتقلين والمفقودين، والتعويض عن سنوات الحرب. كما يتطلّب بناء علاقات ٍاقتصاديّةٍ متوازنةٍ تقوم على المنفعة المتبادلة، لا على التّبعية والهيمنة. ولا ننسى أهمية ترسيم الحدود البحريّة والبريّة بالكامل. والأهمّ هو تغيير الخطاب الإعلاميّ والتعليميّ الذي يُصوّر لبنان كجزءٍ طبيعيٍّ من النّطاق السّوريّ.

وتبقى المسألة اللّبنانيّة الدّاخلية عاملاً حاسماً في هذه المعادلة. فلبنان نفسه يعاني من انقساماتٍ عميقةٍ حول العلاقة مع سوريا، حيث هناك قوى سياسيّة لبنانية تنظر إلى دمشق كحليفٍ استراتيجيٍّ، بينما تعتبرها قوى أخرى عدواً. هذا الانقسام يضعف الموقف التّفاوضيّ اللّبنانيّ، ويجعل من السّهل على النّظام السوري (الجديد) الاستمرار في سياسة “فرّق تسد” والسعي لحكم لبنان من دمشق.

في النّهاية، وبرغم كل هذه التصريحات، يبقى السّؤال الأعمق معلّقاً إلى حين، إذ هل يمكن لنظامٍ سياسيٍّ أنْ يعترف باستقلال جاره، وهو لم يعترف بعد بالكامل بحق مواطنيه في الحرّيّة والاختيار؟ ربما هذه هي المعادلة الحقيقيّة التي ستحدّد مصير الاعتراف السوريّ بلبنان – ليس في قاعات السياسة والمؤتمرات الاقتصادية، بل في شوارع دمشق وبيروت، حيث تبدأ الحرية وتنتهي عند حدود إرادة الشعوب. فالتصريحات تظلّ مجرّد أمنياتٍ تتلحّن على وتر السّياسة، أما الاعتراف الحقيقيّ فيبدأ عندما تتحوّل الأقوال إلى أفعالٍ، والأفعال إلى واقعٍ دائمٍ. والطّريق إلى ذلك لا يمرّ عبر القصور الرّئاسية، وما وراء القصور الرئاسيّة من شبكات مصالح إقليميّةٍ وأفكارٍ تخبو حينًا ثم لا تلبث أنّ تعود حين يحين أوان تحقيقها.

إقرأ على موقع 180  عقوبات أميركا.. إنكشاف قوة لم تعد عظمى!

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  عقوبات أميركا.. إنكشاف قوة لم تعد عظمى!