في ركنٍ من بِدفورد-ستايفسانت، قُرِعَت الطّبول على إيقاع سالسا يتسلّل من نافذة مطبخٍ. في جاكسون هايتس، تعانقت زغاريدٌ عربيّةٌ مع صفير مترو مارّ. فوق جسر ويليامزبرغ، أضاءت درّاجات التّوصيل النّهر مثل سرب نجومٍ متأخّرٍ. قالت معلّمةّ ابتدائيّةٌ تحمل حقيبةً ممتلئةً بالأوراق: لم نفُز بانتخاباتٍ، لقد استعدنا قطعةً من أنفسنا. على الوجوه التي تجمّعت على الأرصفة، كانت الأنثروبولوجيا في الداخل ترى ما يتجاوز الفرح؛ ترى طقساً جماعيّاً لإعادة تعريف الهويّة الحَضَرِيّة، لحظةً، يتراجع فيها الدنيويّ الاقتصاديّ أمام عودة المقدّس الاجتماعيّ إلى ساحة المدينة.
وبينما انشغلت وسائل الإعلام بالأرقام وموازين القوى، كانت نيويورك تفعل ما تجيده: تُنْتِجُ معنًى ما، معنًى مُميزًا جدًا. على أبواب المقاهي الشّعبية التي نجت من موجات التّطهير العمرانيّ، ظهرت لافتاتٌ كُتِبَتْ بخطّ اليد: القهوة على حسابنا للممرّضات وعُمّال المترو. بدت تلك اللّافتات كتعويذاتٍ صغيرةٍ تتحدّى لاهوت السّوق، وكأنّ المدينة تقول: لسنا مجرّد وحدات استهلاكٍ؛ نحن جماعةٌ.
لكن فلنتذكّر أي كوزمولوجيا خرجنا من عباءتها. كانت نيويورك، كما وصفتها ساسكيا ساسن، تُجسّد نقاء الرّأسمالية العالميّة. وول ستريت ليست عنواناً، بل معبداً عصرياً؛ أجراس افتتاح البورصة وإغلاقها تنظّم زمن المدينة كما كانت أجراس الكنائس تنظّم زمن القرى. شاشات الأسعار تتحوّل إلى ألواحٍ طوطميّةٍ، تُقْرَأُ، يُتَفاءَلُ بها ويُتَشاءَمُ، وكأنها تكشف إرادة كائنٍ أعلى اسمه السّوق. هناك، لا يعود المال مجرّد وسيلةٍ، بل يصير مقياساً للوجود. من يملك يُرَى، ومن لا يملك يُمْحَى. وعلى هامش هذا اللّاهوت، صُنِّفَتْ أحياءٌ بكاملها مساحاتٍ «دَنِسَة» ينبغي تطهيرها، فيما وُقِّتَتْ نوافير أحياء أخرى لتتدّفق على إيقاع مؤشر داو جونز.
تحت هذه السّماء، كانت المدينة تتحرّك كجسدٍ يعاني اختلالاً مزمناً. تضخّم الرّأس الماليّ في مانهاتن حتى بات يبتلع الأوكسيجين، فيما تُرِكَتِ الأطراف، من برونكس إلى أطراف كوينز، تعاني نقص التّروية. تذكّرنا ماري دوغلاس أنّ الجسد رمز المجتمع، جروحٌ هامشيّةٌ في الظّاهر، لكنّها في العمق نزيفٌ في الوجود الاجتماعي كلّه. في قطار (F) المتّجه إلى بروكلين، جلس شابٌّ يحمل حقيبة توصيلٍ، غفا بين محطّتين، واستيقظ على إعلانٍ عن بطاقة ائتمانٍ «تُسهّل حياتك». ابتسم بمرارةٍ. هنا يتجلّى ما سمّاه بورديو «العنف الرّمزيّ»: حين تتحوّل اللّغة – لغة الإعلانات والعقود والتّقييمات الائتمانيّة – إلى سكّينٍ يقطع الفرد عن حقّه في أنْ يكون مواطناً قبل أنْ يكون زبوناً.
قبل أشهرٍ من الفوز، كانت أمينة، معلّمة العلوم في مدرسةٍ عامّة، تحاول إقناع صاحبة المبنى بعدم رفع الإيجار إلى أربعة آلاف دولارٍ، محتجّةً بقولها “أنا أعلّم أطفالكم”. إلا أنّ المرأة أجابتها بابتسامةٍ مموّهةٍ بالقانون: “السّوق يُقرّر”.
هذا المشهد، المكرّر آلاف المرّات، هو بعينه سيرة الجنترة (Gentrification) التي وصفها نيل سميث بأنّها استعمارٌ حضريٌّ؛ فهي خطابٌ يقول إنّ الحيّ «متدهورٌ» ويحتاج «تطويراً» يغسل الذّاكرة من مقاهي الشّطرنج وأصوات الأطفال، ويجلب طاولاتٍ مصقولةً تحمل أسماء أنواع من القهوة لا تُلْفَظُ بلا تدريبٍ. وتجسيداً لهذا التحوّل، التقط فنان شوارعٍ في هارلم الصّورة على جدارٍ، رسم فيه بورتريه لِجَدَّةٍ تُمْسِكُ مفتاحاً صدئاً، وخلفها عبارةٌ مدويّةٌ: “من قال إنّ الحضارة لا تُطْرَدُ”؟
في تلك الفَسْحَةِ بين الطّرد والتّجذّر، راحت الطبقة الوسطى تؤدّي دور القربان. معلّمون، ممرّضاتٌ، مهندسون؛ يتنقّلون بين دوامٍ مُرْهِقٍ ودَفعات قرضٍ طلّابيٍّ لا تنتهي على وعدٍ قديمٍ بأنّ الجهد سيُكافأ. لكنّ الوعد تبخّر في هواءٍ باردٍ، حياةٌ تُنْفَقُ لتسديد ديونٍ تَعِدُ بالحرّيّة ولا تمنحها.
وعلى مائدة مطبخٍ صغيرٍ في أستوريا، وضعت أمينة كشف راتبها إلى جوار فاتورة الإيجار، وبدأت تجمع أرقاماً تعرف أنّها لن تجتمع. التقطت هاتفها ورأت مقطعاً لخطاب ممداني، بعض الأشياء لا ينبغي أن تُباع. شعرت، للمرة الأولى منذ سنواتٍ، أنّ أحداً أهال تُراباً على مذبح القرابين.
ثم جاءت الحملة لتُعيدَ كتابة الأسطورة المؤسِّسة للمدينة. بدلاً من حكاية «إنْ نجحت هنا ستنجح في أيّ مكانٍ»، عاد صدى حكايةٍ أقدم: هنا صنع العمّال والمهاجرون الجسور والمترو والموانئ، وصنعت النّقابات الكرامة، وصنعت «الصّفقة الجديدة» (New Deal) فكرة أنّ الدولة ليست خصماً. في مسيرةٍ نحو “سيتي هول”، حمل رجلٌ لاتينيٌّ لافتةً كتب عليها: أبي بنى هذا الخط من المترو، وأنا أطالب بحقّي فيه. كانت السّردية المضادّة تولد في الشارع: ليست مدينة الفرص المجرّدة، بل مدينة الحقّ في الفرصة، لا صدفة السّوق.
في قلب الرّأسماليّة العالميّة، تتعلّم المدينة القديمة جديدها. تتذكّر أنّ النّاس لا يعيشون بالخبز وحده، وأنّ الخبز نفسه يحتاج إلى كرامةٍ كي يُؤْكَلَ. تتذكّر أنّ الجسد لا يُشْفَى بإنكار الألم، بل بتسمية المرض، ووصف الدّواء، ومرافقة النّقاهة. ومن على أرصفة بروكلين إلى جسور مانهاتن، ومن محطات برونكس إلى حدائق كوينز، يتحرّك هذا الجسد ببطءٍ، لكنه يتحرّك
الانتخابات، هكذا فهمناها ونحن نمشي بين اللّافتات، بدت طقسَ عبورٍ لا أقلّ. على حدّ تعبير فيكتور تيرنر، دخلت نيويورك “حالة العتبة” (Liminality)، خفّت الحدود بين الهويّات؛ فالممرّض الذي كان يمرّ دون أن يُرى صار يتبادل القصص مع مهندسةٍ تبحث عن حضانةٍ مُيَسَّرة، وامرأةٌ مهاجرةٌ تتبرّع بالقهوة للجميع دون أن تسأل عمّن يستحق. تشكّلت “روح المجتمع” (Communitas) عابرة للتّراتبيّات في تجمّعات المترو، وعلى الأرصفة، وفي طوابير التّسجيل المبكّر للانتخابات. وحين أُعلن الفوز، اكتمل الطّقس الأوّل؛ لكن الجميع كان يدرك أنّ المرحلة الأصعب تبدأ دائماً بعد الاحتفال، إذ كيف نُثبّت الحالة الجديدة في نسيجٍ يوميٍّ مقاومٍ للارتداد؟
هنا تخرج الإثنوغرافيا من الكتب إلى الأزقّة. في بنايةٍ قديمة في براونزفيل، تأسّست جمعية مستأجرين علّقت على باب المصعد إعلاناً قالت فيه: إذا أطفأ المالك التّدفئة، نتّصل جميعاً بالخطّ السّاخن في اللحظة نفسها. في حديقةٍ مجتمعيّةٍ ببروكلين، وقف مسنٌّ يزرع الخسّ ويشرح لطفلةٍ كيف تُعادُ الأرض إلى سكّانها ببطءٍ، شتلةً بعد شتلةٍ. في مطبخٍ تعاونيٍّ بفلاتبوش، تقاسم طهاةٌ أجراً واحداً بطريقةٍ لا تترك أحداً ينتظر بقيّة يومه على إكرامياتٍ متقلّبةٍ. وعلى جدارٍ قرب شارع 125، خطّ فنّان الجرافيتي، عبارةً صغيرةً: أسلحة الضّعفاء ليست ضعيفة حين تتراكم. كان جيمس سكوت يبتسم في مكانٍ ما.
كلّ زاويةٍ في المدينة صارت ساحة معركةٍ رمزيّةٍ. مقعدٌ في حديقةٍ عامّةٍ، هل يجلس عليه شخصٌ بلا مأوى أم يُزَخْرَفُ لالتقاط صور الزوّار؟ رصيف شارعٍ، لبائعٍ متجوّلٍ ينادي على الذّرة المشويّة أمْ لطاولات مطعمٍ فاخرٍ تمتدّ إلى حافّة الطّريق باسم «تنشيط الحيّ»؟ محطة المترو، خدمةٌ عامّةٌ تُموَّل كحقٍّ أمْ مشروعٌ يجب أنْ «يُحقّق أرباحاً»؟ كان هنري لوفيفر يهمس خلف المشهد: الحقّ في المدينة ليس حقّ المرور، بل حقّ الإنتاج. وهكذا بدا شعار الحملة- «نيويورك للنّيويوركيّين»- أكثر من هتافٍ؛ كان إعادة مطالبةٍ بالسّلطة على تصميم الحياة اليوميّة نفسها.
وفي قلب هذا الصراع، ظل الطّوطم ماثلاً: المال. عند تمثال الثّور البرونزي، توقّفت حافلة سياحٍ، مسّوا قرنيه لأجل الصورة، كأنّ اللّمعان سينتقل من المعدن إلى راحة اليد. على بُعْدِ أمتارٍ، كانت شاشةٌ إلكترونيّةٌ تلد أرقاماً بلا توقّفٍ. في ذلك الصباح، وقف ممداني وقال: السّوق لا يحلّ أزمة الإسكان، وبعض الأشياء لا ينبغي أنْ تكون للبيع؛ السّرير في غرفة الطوارئ؛ مقعدٌ في صفٍّ أوّل ابتدائيٍّ؛ سقفٌ فوق رأسك. بدا قوله هرطقةً في لاهوت الرّبح؛ لكنّها كانت هرطقةً ضروريّةً كي يتزعزع الإيمان القديم. يذكّرنا إميل دوركهايم أنّ الطّواطم تحكم لأنها تختصر الجماعة في رمزٍ، لكنها تسقط حين لا تعود تلائم تجربتها المُعَاشَةُ.
لم يكن هذا التحوّل وليد ليلةٍ. كانت المدينة، لسنواتٍ، تراكم بُنًى مضادّةً للهيمنة على مهلٍ، كما عند غرامشي، نوادٍ صغيرةٍ للقراءة في الأكشاك، وغرف معيشةٍ تحوّلت أيام الأحد إلى مراكز قانونيّةٍ للهجرة، وجماعات حيٍّ تنظّم دوريات أمانٍ بذراعين عاريتين وصفّارة. وحين اشتعلت الحملة، وجدت هذه الشّبكات نفسها؛ لم تبدأ من الصفر، بل من أرشيفٍ عاطفيٍّ عميقٍ.
ومثل كلّ أجسادٍ تتعلّم من أَلَمِهَا، بدأت نيويورك تعيد توزيع دمها. صعدت أمينة إلى صفّها في صباحٍ باردٍ، رفعت رأسها نحو نافذةٍ تطلّ على غابة أبراجٍ بعيدةٍ، وفكّرت أنّ الجسد يحتاج إلى رأسٍ يرى وأطرافٍ تُعين، لا رأس يلتهم. في المترو، تبادل عامل التّذاكر ابتسامةً مع امرأةٍ تحمل لافتةً كتبت عليها: ليس كلّ شيءٍ للبيع. مرّ قطارٌ، انزلقت عيناه إلى شاشةٍ صغيرةٍ تبثّ نشرةً اقتصاديّةً، انخفض المؤشّر نصف نقطةٍ. فكّر لحظةً أنّ الجرس في البورصة سيظلّ يرنّ، لكن أجراساً أخرى بدأت تُسْمَعُ، أجراس صفوفٍ دراسيّةٍ دافئةٍ، وأبوابٍ تُفْتَحُ لجيرانٍ عائدين، ومطابخَ يعود إليها الطّعام الطّازج لا الائتمان المؤجّل.
الآن، وقد اسْتُعِيدَتْ قطعةٌ من المعنى، يلوح السّؤال الصعب: كيف يُتَرْجَمُ هذا الفوز إلى سياسة إسكانٍ لا تُسَاوِمُ على الحقّ، وإلى مترو يُمَوَّلُ كعمودٍ فقريٍّ لا كمشروعٍ ربحيٍّ، وإلى أرصفةٍ تُصَمَّمُ لمن يمشون لا لمن يملكون؟ الأنثروبولوجيا لا تقدّم وصفاتٍ جاهزة، لكنّها تعرف أنّ السّحر يمكن أنْ يعود حين نُعِيدُ تعريف المقدّس، ليس الأرقام على الشّاشة، بل العلاقات التي تحفظ حياةً كريمةً. إعادة السّحر لا تعني إنكار العقل، بل تحريره من قفص كفاءةٍ بلا عدالة.
في قلب الرّأسماليّة العالميّة، تتعلّم المدينة القديمة جديدها. تتذكّر أنّ النّاس لا يعيشون بالخبز وحده، وأنّ الخبز نفسه يحتاج إلى كرامةٍ كي يُؤْكَلَ. تتذكّر أنّ الجسد لا يُشْفَى بإنكار الألم، بل بتسمية المرض، ووصف الدّواء، ومرافقة النّقاهة. ومن على أرصفة بروكلين إلى جسور مانهاتن، ومن محطات برونكس إلى حدائق كوينز، يتحرّك هذا الجسد ببطءٍ، لكنه يتحرّك.
فوز زهران ممداني ليس خاتمةً، بل افتتاحيّةً. افتتاحيّةٌ في سجلٍّ طويلٍ عنوانه الأمل المُمَأسَسُ؛ أنْ تتحوّل الهرطقة إلى سياسة، والسّياسة إلى ممارسةٍ يوميّةٍ، والممارسة إلى ذاكرةٍ جديدةٍ تقول لأطفال المدينة، هذه مدينتكم، لا طقساً للسّوق بل مشتركاً للعيش. وحين يُقَالُ بعد سنواتٍ إنّ نيويورك أعادت اختراع نفسها، سَيُرْوَى الأمر لا كمعجزةٍ، بل كحكاية بشرٍ تعلّموا أن يعيدوا ترتيب ما هو مقدّسٌ وما هو دنيويٌّ – وأن يكتبوا، بأيديهم، كوزمولوجيا أكثر عدلًا للحياة المشتركة.
