اشتهرت قطر في لبنان بدورها في إعادة الإعمار بعد حرب تموز(يوليو) ٢٠٠٦ وفي الوساطة بين الأطراف السياسية لا سيّما في العام ٢٠٠٨ مع توقيع “اتفاق الدوحة” بعد أحداث ٧ أيار(مايو) وصولاً إلى دعم الجيش اللبناني المستمرّ منذ سنوات عدّة. غير أن معظم اللبنانيين لا يعلمون بأن قطر تساهم بدعم لبنان منذ تسعينيات القرن الماضي بعد انتهاء الحرب الأهلية، وهو ما كنت قد تناولته بالتفصيل في مقال سابق لي نشر في صحيفة “العربي الجديد” بعنوان “قطر في لبنان.. عقود من الدعم والإسناد السياسي والاقتصادي“.
وما يُثير الاهتمام والتساؤل ويفتح الباب على ضرورة المساءلة، هو أن الدولة اللبنانية لم تتجاوب بالشكل المطلوب مع معظم المشاريع والخطط التنموية والاقتصادية التي قدّمتها الدوحة منذ انتهاء الحرب الأهلية وصولاً إلى يومنا هذا، والتي من الممكن أن تشكّل مشروعاً نهضويّاً متكاملاً في لبنان.
مرفأ طرابلس
مع انتخاب رئيس الجمهورية جوزاف عون وتشكيل حكومة نواف سلام، أعادت قطر تفعيل عدد من الملفات التي كانت تعمل عليها، كما أنها أعادت طرح عدد من المشاريع التي كانت قد قدّمتها منذ عقود والتي عرقلتها الدولة اللبنانية لأسباب تتنوّع بين غياب الإرادة والقرار السياسيين من جهة، والانقسام السياسي والصراع بين الأحزاب السياسية الممثلة في الدولة على هوية وتقاسم الحصص في المشاريع المقدّمة من الجهات العربية المانحة، ومنها قطر، من جهة ثانية. فما هي المشاريع التي قدّمتها قطر في عهد الحكومة الحالية وأين وصلت المداولات في شأنها؟
بداية، لا بدّ من التذكير بالدور القطري المستمرّ في تقديم الدعم المادي للجيش اللبناني، والذي التزمت به القيادة القطرية منذ سنوات عدة وبخاصة بعد أزمة الانهيار المالي التي يعاني منها لبنان. أيضاً، تُعرف قطر بتقديمها مساعدات عينية صحية واجتماعية واقتصادية لعدد من المؤسسات وذلك عبر مؤسسات قطرية عدة أبرزها صندوق قطر للتنمية والذي افتتح مؤخراً مكتباً إقليمياً دائماً له في بيروت.
ومع تشكيل الحكومة الجديدة، أعادت قطر مبادرتها في قطاع الغاز والطاقة. وبالفعل، فقد اجتمعت الدوائر المعنية في الدوحة بوزير الطاقة اللبناني جو صدّي. وبحسب المعلومات، قدّمت قطر هبة لوزارة الطاقة والمياه بقيمة ٤٠ مليون دولار لتمويل مشروع للغاز في لبنان بطلب من الوزير صدّي، كما تقدّمت بمشروع عقد استثماري في القطاع، وهو عبارة عن إنشاء أنبوب لاستقبال الغاز القطري، انطلاقاً من سياسة جديدة تعتمدها القيادة القطرية بالتقليل من الهبات والاتجاه إلى الاستثمارات وذلك لضمان استمرارية المشاريع المنفذة ومأسستها وحمايتها من الزبائنية السياسية.
للمفارقة، وعلى الرغم من حاجة لبنان في هذا القطاع، تشير بعض المصادر إلى وجود صعوبات في تعامل القطريين مع الحكومة اللبنانية في ما يخص مشروع الغاز لإنتاج الطاقة. هنا، تحضر الإشكالية المزمنة في النظام الحالي والتي تتعلّق بالزبائنية وغياب الشفافية والاعتبارات الطائفية والسياسية بين الأحزاب السياسية الممثلة في الإدارات والمؤسسات الرسمية اللبنانية.
وعلى الرغم من الصعوبات والعراقيل، تشير المعلومات إلى أن دولة قطر تنفّذ حالياً أعمال ترميم وتطوير بسيطة في ميناء طرابلس لاستقبال الناقلات القطرية (بمثابة دعم في حال حدوث أي طارئ على الأنابيب). ويعود اختيار الميناء لأسباب عدة منها:
أولاً؛ مساحته وقدرته التشغيلية وجهوزية العمل به ذلك أنه لا يحتاج إلى أعمال ترميم كبيرة.
ثانياً؛ الموقع الجغرافي للميناء وتحديداً بسبب بعده عن الإستهدافات الإسرائيلية. ولا بدّ من التوضيح بأن لبنان يعتمد على أنبوب الغاز في سوريا. في هذا الإطار، تستفيد كل من سوريا والأردن من أنبوب الغاز القطري الذي نفّذته قطر بالشراكة مع الحكومتين السورية والأردنية، وهو الخطّ الذي يعتمد عليه لبنان.
قطاعات الصحة والنقل والتعليم
وتشير مصادر قطرية إلى أن الحكومة القطرية تُحضّر لتنفيذ مشاريع كثيرة في قطاعات النقل والصحة والتعليم، حيث تأمل بمشاركة الدول الخليجية لا سيّما السعودية والإمارات للاستفادة من دورهما الفاعل والأساسي في لبنان.
بالنسبة للمشاريع القطرية التي من المتوقّع أن يتمّ الإعلان عنها قريباً، أبرمت قطر مع وزير الأشغال اللبناني فايز رسامني الذي زار الدوحة منذ مدّة اتفاقية تقضي بتقدم هبة قطرية لقطاع النقل وهي عبارة عن ٣٠ باصاً مجهّزاً من المتوقّع أن تتسلّمهم الوزارة في مدّة زمنية قريبة.
أما على المستوى الصحي، فقد كشفت مصادر خاصة أن قطر وضعت مشروعاً لترميم وتطوير مستشفى الكرنتينا الحكومي حيث من المتوقّع أن يُنجز في كانون الثاني/يناير ٢٠٢٧، كما ستباشر قريباً بتطوير وتحديث مستشفى رفيق الحريري الحكومي. هذان المشروعان بحسب المعنيين، هما هديّة مقدّمة من الحكومة القطرية إلى حكومة الرئيس نواف سلام.
وفي قطاع التعليم، تُقدّم الحكومة القطرية منحة أميرية قيّمة لتغطية تعليم أكثر من ٣٥٠ طالباً في جامعات لبنانية مختلفة. كما تقدّم منحاً تعليمية لـ٩٩ طالباً في الجامعة الأميركية في بيروت بالإضافة إلى هبة مالية ستقدّمها للجامعة.
وساطة قطرية بين لبنان وإسرائيل؟
على المستوى السياسي، لطالما لعبت قطر دور الوسيط الفاعل في الملف اللبناني كما ذكرت في بداية المقال، وهي تتمتّع بعلاقات جيدة مع جميع الأطراف اللبنانية. ولعلّ الخطة التي تسعى قطر حالياً لانجازها، في سياق استراتيجيتها في لبنان، تتمثّل بالعمل على إعادة ٤٠٠ ألف لاجئ سوري إلى بلدهم بمبادرة من برنامج الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. في هذا الإطار، تغطّي قطر الرسوم المالية لإتمام هذه الخطة ومنها رصد مبلغ بقيمة ٣٠٠ مليون دولار لتقديمها للعائلات السورية العائدة من خلال صندوق قطر للتنمية. ويتمّ ذلك بالتنسيق مع الحكومتين اللبنانية والسورية وذلك بعد حلّ عدد من الملفات العالقة بين البلدين والتي تساهم قطر في تسويتها.
وفي ظلّ الضغوطات الأميركية والإسرائيلية على لبنان حالياً للسير باتجاه إبرام اتفاق أمني-سياسي، وعلى الرغم من دور قطر في اللجنة الخماسية وفي التنسيق مع مصر والسعودية والولايات المتحدة في ما يخص معالجة الأزمة اللبنانية، إلا أن المصادر تشير إلى أن السلطات القطرية تنتظر اللحظة المناسبة للدخول في وساطة مباشرة في الملف اللبناني – الإسرائيلي في حال طلبت الحكومة اللبنانية ذلك.
منذ عقود إلى يومنا هذا، ثمّة ما يشبه التعتيم أو الغموض على الدور القطري في لبنان لا سيّما في ما يخص المشاريع الإنمائية والاقتصادية. في هذا الإطار، يُعبّر القطريون عند السؤال عن محبّتهم ودعمهم الدائم للبنان استناداً إلى تاريخ طويل ومستمرّ من المساعدات والمشاريع على الرغم من عرقلة عدد منها من قبل الحكومات المتعاقبة. وثمّة سياسة يعتمدها القطريون، تقوم على عدم استغلال المساعدات التي تقدّمها للبنان لأسباب عدة منها ما هو مرتبط بالثقافة القطرية وأخرى لما يمكن تسميتها عدم إحراج أو الضغط على الحكومات التي يتمّ التعاون معها، بل ترك الخيار للحكومة المعنية بالإعلان للرأي العام عن هذه المساهمات والمشاريع كوسيلة لتكريس وتمتين العلاقات الثنائية بين البلدين، وانطلاقاً من مبدأ الشفافية أمام الرأي العام اللبناني. فهل ستتجاوب الحكومة اللبنانية هذه المرة؟
