طلال سلمان والدخول إلى “حوادث” ما بين.. القصرين (5)

في الحلقة السابقة، أوضحت كيف أن رئيس تحرير "الحوادث" سليم اللوزي، وعلى غير ما كنت أتوقع، إتصل بوالدي الدركي وطلب مني الإنضمام إلى أسرة المجلة البيروتية العريقة.

قصد الفتى العنوان الذي حدَّده سليم اللوزي بكلمات وجد فيها شيئًا من التشهير بريفيَّته وغربته عن المدينة:
ـ أتعرف القصر الجمهوري في القنطاري؟ مهلاً، أتعرف قصر هنري فرعون؟ هذا أسهل عليك لأنك، كما فهمتَ، كنتَ تغطي أخبار السرايا… هو فوق السرايا، ولكنه في السياسة تحت القصر الجمهوري. أمّا الشارع فباسم عبد الرحمن الحوت.

توقف الفتى أمام المبنى الذي تشغل «الحوادث» طابقه الأول. مسح عرقه بكفَّيه، وانتظر حتى انتظم تنفُّسه، وسوّى قميصه، ونفخ صدره، ثم رقى الدرجات ودخل من الباب المفتوح ليُواجَه بسؤال موظف الاستقبال:

نعم؟ من تريد؟
وقبل أن يجيب الفتى، أطلَّ سليم اللوزي من مكتبه وخاطبه بالنبرة الساخرة ذاتها:

يبدو أنك عرفت العنوان بيسر.. ألم أقل لك إننا «بين القصرين»! هل سمعتَ بنجيب محفوظ؟ هيا، ادخل!
ودخل ليتلقى الدرس الأول في المهنة التي قصدها بدافع الحاجة إلى عمل، والتي تتحول الآن إلى خيار سيرسم مسار حياته.

قال سليم اللوزي:

أما وأن لغتك جيدة، فلسوف تبدأ عملك في التصحيح! أطرق، وظلَّت خيبة الأمل وجهه، ثم سمع سليم اللوزي يقهقه، فرفع نظره إليه متسائلًا، فسمعه يقول: لم أكمل كلامي بعد. ستشارك في التصحيح لفترة تتعرّف خلالها إلى أساليب الكتابة، فكلٌّ منّا يكتب بأسلوبه الخاص المختلف حتمًا عن أسلوب غيره. ثم ستتولى إعداد بريد القرّاء، وسأمنحك فرصة أن تكتب خاطرة أو فكرة كزاوية ثابتة.

اجتماع التحرير.. وأنت تضحك!
حان موعد اجتماع التحرير، كما فهم الفتى لاحقًا، وسمح له أن يحضره. وهكذا توافدت تلك المجموعة من المحررين أو المساهمين في الكتابة: شفيق الحوت بصوته الجهوري ووجهه الذي يفيض حيوية، ونبيل خوري تسبقه قهقهته، ووجيه رضوان بعينيه التائهتين بين حلمين، ثم اقتحمت المكتب «فتاة» تطلّ الرغبة في الشغب من عينيها، سأعرف أن اسمها شكورة العظم. وحين يصل موكب «البيك» منح الصلح، سوف تتفجر النكات والضحكات والأفكار، بينما يتسلل رسّام الكاريكاتور نيازي جلول، فيقف عند الباب كأنه يستعد لأن يتوارى مع أول ملاحظة.

في الاجتماع، تبادلوا الأفكار والآراء في جوٍّ مبهج تتخلله النكات والقفشات و«تركيب المقلة». كانوا تشكيلة طريفة:

سليم اللوزي صحافي طرابلسي تربى بين إذاعة «الشرق الأدنى» أو القسم العربي في الإذاعة البريطانية في فلسطين، ثم مجلة «روز اليوسف» التي أسستها السيدة من أصول طرابلسية فاطمة اليوسف، ثم «المصور» في القاهرة، ومؤسسها لبناني هو من أنشأ دار الهلال في القاهرة، جرجي زيدان.

مثقف كبير وابن عائلة عريقة لها موقعها السامي في الحياة السياسية اللبنانية هو «البيك» منح الصلح، الذي كاد يكون رئيس تحرير لجريدة «النداء» تحت قيادة عمه كاظم الصلح بالشراكة مع أخيه تقي الدين، وهو في السادسة عشرة من عمره.

إعلامي فلسطيني الأصل يعمل لمحطة «صوت أميركا»، ولكنه يعشق الكتابة في الجنس، وهو ينشر رواية على شكل حلقات. ثم قائد جماهيري وخطيب التظاهرات في الجامعة، يملك مواهب قيادية، شفيق الحوت الفلسطيني المتحدر من عائلة بيروتية بدليل أن المكاتب تقع في شارع يحمل اسم أحد جدوده، عبد الرحمن الحوت، ويقيم في منزل هو بعض الأملاك التي أوقفها الراحل لذريته من بعده.

أما وجيه رضوان فيتابع الثقافة عمومًا، المسرح والسينما والغناء خصوصًا، من موقع القارئ أكثر منه من موقع النقاد. وأخيرًا: نيازي جلول الذي كان ينطق العربية كأرمني، فيكتفي بالمراقبة من خلف نظارتيه، وكلما حاول الاشتراك في النقاش تعثرت الكلمات، فرجع إلى قوقعة صمته سالمًا.

تبقى شكورة العظم التي سأعرف فيما بعد أنها دمشقية، فشل زواجها، ولم تشأ أن تنهي حياتها في أسر التقاليد المحافظة، فجاءت إلى بيروت مقرِّرة أن تبقى فيها، وأن تعمل في الصحافة حيث يمكنها توظيف حشريتها ومعرفتها بدواخل النساء، مفترضة أن الرجال سيتزاحمون على خدمتها، وقد صحَّ توقّعها.

طرحت أفكار عديدة، بعضها كاريكاتوري، وبعضها يستحيل تنفيذه، وبعض ثالث يتوزع على قضايا سياسية محلية وعربية، في حين سيكمل نبيل خوري كتابة الحلقة الرابعة من روايته الجديدة، وإن حذّره الحاضرون من أن القرّاء جميعًا يفهمون دلالة النقاط التي تغرق في بحورها الكلمات، فيستخلصون المعنى من المبنى المرتبك، إمّا بسبب النسيان، أو بسبب التيه في تفاصيل المغامرة التي ستعلّم الفتية فنون الانحراف.

موضوع الغلاف يأخذ الكثير من النقاش. تُطرح أفكار عديدة للتداول، ويصبح دور سليم اللوزي «استفزاز» السياسي في المفكر منح الصلح واستدرار ذاكرته التاريخية، وتتعالى الصيحات باقتراح عنوان الغلاف، وتهدر الضحكات قبل أن يحسم «البيك» النقاش بصياغة العنوان الذي يكاد يكون شعارًا. وحين يتدخل سليم اللوزي بسليقة «البياع» يقمعه منح الصلح على طريقة: معك حق، حبيبي، لكن ما تقترحه غلط فاضح ونقص في المعرفة بالتاريخ والجغرافيا وأحوال السياسة.
يضحك الجميع، في حين يقهقه سليم اللوزي، فقد نجح في إلزام «منح بيك» بكتابة موضوع الغلاف: أليس هو العارف؟

إقرأ على موقع 180  إسرائيل تطوي صفحة الموسوي.. جاءها زمن نصرالله (77)

النقابي الذي يُعلّم الصح..
تولى شفيق الحوت الفتى برعايته، فرتبته ـ آنذاك ـ سكرتير التحرير، أما مهامه فتشمل التحرير جميعًا، وإن ظلت مهنية سليم اللوزي تلعب دور الرقيب المتابع لكل تفاصيل التفاصيل.

وهكذا مشى الفتى خلف شفيق الحوت إلى الخندق الغميق، حيث كانت مطبعة «دار الغد» التي سيتولى العاملون فيها التنضيد والتركيب وسحب الصفحات ثم الطباعة، بعد إنهاء التصحيح والتدقيق الأخير الذي لا بد أن يتولاه سليم اللوزي شخصيًا.

كان مدير المطبعة مناضلًا نقابيًا له تاريخ مضيء في الحزب الشيوعي، الرفيق فؤاد ناصر الدين، أمّا صاحبها فطبيب غاية في الدماثة، يوصل شقيقته الرقيقة «هيفاء» كل صباح، ثم يأتي بعد الظهر لاصطحابها… وثمة بضعة من العمال، فيهم مركب الصفحات، وفيهم منضد الحروف، ثم هناك معلم الطباعة.

قدّم شفيق الحوت إليهم الفتى الوافد بتوصيف يوصي بأنه ـ مثله ـ منهم، وأنه قد جاء ليتعلم، وأنه يعتمد عليهم في تدريبه. وقد طمأنه المعلم فؤاد إلى أنه سيرعى هذا الطامح لولوج دنيا الصحافة شخصيًا. وهكذا ودّع شفيق الفتى وتركه في رعاية النقابي المثقف الذي يقرأ فيفهم، ويتحدث فينير عقول سامعيه، مع أنه ترك المدرسة وهو بالكاد «يفك الحرف».

كان لا بد من جلسة تحقيق، ليطمئن المعلم فؤاد، فسأل الفتى عن قريته وظروف العيش فيها، وعن عائلاتها وأحزابها… فلما عرف أن والده دركي، سأله بكثير من الريبة: هل هو جندي عادي، محترف، أم أنه مسيّس؟ وكان على الفتى أن يسرد تاريخ أبيه، ومخافر البلدات التي عمل فيها، وصداقاته مع بعض الشخصيات السياسية المعارضة. ثم روى له حكاية اللقاء مع سليم اللوزي في السجن.

كانت وقائع اللقاء بين الصحافي الأسير والسجّان بالإكراه المتمرد بإرادته المدخل إلى «علاقة مميزة» بين المدير النقابي المناضل والفتى الذي جاءت به حماسته لقضيته إلى المهنة التي رأوها قديمًا «مهنة المتاعب». ثم إن النقاش قد لفت النقابي المجرب والمثقف ميدانيًا إلى «خامة طيبة» في هذا الفتى المكلَّف تصحيح ما قد يخطئ في كتابته أصحاب أسماء كبيرة في عالم الصحافة. قال له مشجعًا: إياك أن تعتذر من المخطئ! أنت هنا سيد نفسك. ما دمت واثقًا من معرفتك باللغة فتصرف بمسؤولية. هم أكبر منك سنًا وقدرًا، هذا صحيح، ولكنك مسؤول عن تصحيح أخطائهم، إذًا صححها ولا تعتذر!

كان ذلك الدرس الأول في احترام الأصول: المعرفة هي الأساس.

Print Friendly, PDF & Email
طلال سلمان

رئيس تحرير جريدة السفير

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  "الواشنطن بوست" تنشر تفاصيل صادمة عن "هجمات البيجر"