قال سليم اللوزي، مفتتحاً اجتماع التحرير بلهجة تطفح زهواً: «الحوادث» الآن هي المجلة الأولى في لبنان، بلا منازع والطلب شديد عليها في البلاد العربية.
قهقّه نبيل خوري، ثم قال بصوته ذي الدوي: هذا بفضل روايتي… القراء شعب من المكبوتين، وأكثر ما يشدهم الحديث في الجنس وعنه!
قال شفيق الحوت: من حقك أن تنال زيادة على راتبك تُعادل الزيادة في التوزيع.
كان وجيه رضوان يهوم مع أخيلته في فضاء القصة القصيرة التي بدأها ثم عجز عن إيجاد الخاتمة الملائمة، في حين شغل نيازي جلول نفسه بإنجاز كاريكاتور لنبيل خوري وهو يهرب عارياً تطارده قافلة من النساء بالمكانس.
همست شكورة للفتى الذي اعترفت به الآن زميلاً: بل إن تحقيقاتنا هي سبب النجاح. إننا نتابع هموم الناس، وهذا ما يريدون.

ابتسم الفتى بينما كان «البيك» يصدر الحكم: «الحوادث» هي أول مجلة سياسية في لبنان، إنها سياسية من صفحتها الأولى وحتى آخر صفحة، ولها وجهة نظر في ما يكتب وينشر فيها. قبلها كانت المجلات أشبه بنشرات شخصية، تتحزب لزعيم وفريقه وتنسى الآخرين. ثم أنها، عموماً، كانت محلية جداً. «الحوادث» مجلة عربية، وهذا بين أسباب النجاح.
استعرضوا «الأوضاع». كانت سوريا تعيش حالة صراع مفتوح بين الأحزاب والسياسيين من جهة والعسكر من جهة أخرى. وكان الكل يلجأ، بل يهرب إلى جمال عبد الناصر في القاهرة، ثم صار الهرب طلباً للنجدة، وأخيراً تبلور على شكل اصرار على «الوحدة الفورية». وكان بين الذرائع التهديدات التركية لسوريا، التي كانت تستبطن تهديداً غربياً لحركة القومية العربية الناهضة، كما رأى العروبيون آنذاك. وكانت مصر قد استجابت فأرسلت بعض الكتائب العسكرية لتشارك في مواجهة الضغوط التي تمارسها دول حلف بغداد الذي أقيم لمواجهة العروبة التي باتت لها الآن ترجمة سياسية واضحة، ممثلة في نهج عدم الانحياز ودعم حركات التحرر في أفريقيا أساساً ثم في آسيا وأميركا اللاتينية، انطلاقاً من القاهرة ومعها.
وكان يحلو لمنح الصلح أن يستعيد لقاءه بين الحين والآخر، مع الرئيس جمال عبد الناصر، على هامش مؤتمر باندونغ للتضامن الآسيوي ـ الافريقي، بصحبة عمه تقي الدين وحميد فرنجية.. ولعله لم يجد في ذلك القائد المصري، الشاب، آنذاك، ما يُبرّر التسليم بزعامته للأمة.
في 22 شباط/فبراير 1958 قامت «الجمهورية العربية المتحدة» نتيجة اندماج مصر وسوريا تحت قيادة جمال عبد الناصر، والتهب الوطن العربي حماسة، ونزلت الجماهير في مختلف الأقطار إلى الشارع ولم تغادره.. وعاشت بيروت ومعها طرابلس وصيدا وصور والبقاع والجنوب ومعظم الجبل أيام عيد مفتوحة، قبل أن يزحف اللبنانيون إلى دمشق التي جاءها عبد الناصر أول مرة فعاشت معه أياماً أسطورية، سرعان ما تمددت إلى مختلف أنحاء سوريا. كانت الجماهير، فعلاً، رمل البحر وصخر الجبل وغابات متصلة من البشر، رجالاً، شيوخاً وشباناً وفتية ونساء.
وعاشت «الحوادث» فرحة هذا العيد القومي العظيم، وكتب الجميع عن الإنجاز التاريخي، وعن عودة العرب إلى الحياة، وإلى الإمساك بقرارهم وصنع غدهم.. وهكذا سمح للفتى ان يكتب في السياسة، لأول مرة.

وكالعادة انقسم اللبنانيون حزبين: أكثرية شعبية مع عبد الناصر، وأقلية فاعلة ومؤثرة تعارضه يتزعمها رئيس الجمهورية، آنذاك، كميل شمعون، الذي لم يكن يخفي قربه من الغرب ورغبته في ضم لبنان إلى بعض أحلافه. وبلغ الانقسام حد إدانة من يتعاون مع شمعون في الحكومة وتوقيع الحرم عليه واعتباره «منبوذاً».
بالمقابل، كان ثمة اعتقاد عند الطبقة السياسية أن كميل شمعون يسعى إلى ولاية رئاسية ثانية، بدليل أنه ابتدع قانوناً جديداً للانتخابات يضمن له أن يأتي بأكثرية عددية وازنة، ثم تشكيل حكومة لا تعرف أن تقول «لا» له او للغرب عموماً وللأميركيين منه بشكل خاص.
نزل الانقسام إلى الشارع، وتوترت الأجواء، وتباعدت المناطق بحسب ألوانها الطائفية، وصار «حزب الكتائب» الركيزة الشعبية لكميل شمعون، وخرج جناح متلبنن من الحزب السوري القومي الإجتماعي، وأنشأت السلطة «ميليشيا رسمية» تحت مسمى «الأنصار»، في حين تكتلت المعارضة في جبهة اتحاد وطني جمعت إلى صائب سلام حميد فرنجية وكمال جنبلاط وصبري حمادة وأحمد الأسعد وأحزاباً بينها الحزب الشيوعي والحزب التقدمي الاشتراكي والحزب القومي السوري (الأصل) وشخصيات لها وزنها في مختلف المناطق.
في 14 تموز/يوليو 1958، لعلعت صيحات الفرح في الدنيا العربية: قام عبد الكريم قاسم ومعه عبد السلام عارف بانقلاب عسكري في العراق أودى بعرش الملك فيصل الثاني وحياته ومعه خاله الوصي على العرش عبد الإله، ونوري السعيد وكثير من أركان العهد الملكي.. ودخلت القاموس السياسي كلمة «السحل»، بعدما مورست هذه العملية الوحشية على العديد من أركان العهد الملكي.
… والتهبت بيروت: تظاهرات شبه يومية تهتف ضد شمعون وأميركا والغرب، تحيي عبد الناصر وثورة العراق، وفي صفوفها من يهتف للوحدة مطالباً بانضمام لبنان إلى دولتها، خصوصاً وقد انتعشت الآمال باندماج العراق فيها.

نزلت قوات من الأسطول السادس (المارينز) على شواطئ بيروت (في خلدة والمطار أساساً)، وكان القرار بإنزال الجيش إلى الشوارع، كقوة فصل، بعدما رفض قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب أن يستخدم الجيش طرفاً في النزاع الأهلي.
بات على الفتى أن يمر بعدد من الحواجز العسكرية وهو يمشي من خلف قصر فرعون، مروراً بساحة رياض الصلح، صعوداً في الخندق الغميق حتى مطبعة دار الغد.. وكانت المشكلة تزداد تعقيداً إذا ما تأخر في عمله حتى ما بعد الغروب.
توالت التهديدات على «الحوادث» بشخص صاحبها، فقرر سليم اللوزي أن يغيب عن الأنظار ولبعض الوقت، خصوصاً أن طريقه اليومية تمر بمحاذاة القصر الجمهوري في القنطاري. وهكذا صحب عائلته إلى دمشق، فانزلها في فندق “سميراميس” حيث كانت تنتظره مأساة مفجعة، إذ سقط ولده الوحيد (ربيع) من فوق شرفة عالية فقضى نحبه.
فرغت «الحوادث» من معظم أركانها، ولم يتبقَ فيها إلا شفيق الحوت الذي بات المدير العام ورئيس التحرير وأمين الصندوق، والمحرر السياسي، في حين بات الفتى ـ بالاضطرارـ معاوناً له، يحاول ملء الصفحات غير السياسية بإعادة كتابة بعض القديم المخبوء، ويلخص المواقف والتطورات «الميدانية» مضيفاً إليها بطبيعة الحال، عواطفه الشخصية.
كان على شفيق الحوت أن يقصد يومياً منزل صائب سلام في المصيطبة ليتابع حركة الاتصالات والمشاورات والميدانيات، خصوصاً ان «الشباب» قرروا إنشاء تنظيم مسلح يواجه «الأنصار»، ويؤمن «الأحياء الوطنية»، مستقدمين ما تيسر من سلاح (خفيف طبعا) من سوريا.. وهكذا نشأت «المقاومة الشعبية» بقيادة شهاب الدين.
وكان «البيك» يأتي، بين الحين والآخر، فيكتب أو يملي بعض مقالاته، ويساعد من يجده في المكتب بالأفكار أو بالنصوص أحياناً..
أما الفتى فكان يتلقى الاتصالات، ويتابع أخبار المناطق، ويُلخّص البيانات والتصريحات، ثم «يُخربش» مشاريع اقتراحات للغلاف والعنوان الرئيس.
