منذ تأسيس الكيان اللبناني، قبل قرن من الزمن، لم تتطوّر الدّولة بوصفها مصدراً مركزيّاً للحماية والسّلطة، بل جاءت ضمن توازناتٍ طائفيّةٍ واجتماعيّةٍ حافظت على استقلاليّة البُنَى التّقليديّة للجماعات. ومع أنّ مؤسساتها أُنْشِئَتْ لتكون الإطار النّاظم للحياة السّياسيّة، إلا أنّ الجماعات اللبنانيّة استمرّت في بناء أمنها ورؤيتها للعالم من خلال الولاءات المحلّيّة والرّوابط الدّينيّة والامتدادات الإقليميّة. وهكذا، لم يُنْظَرْ إلى الدّولة باعتبارها المرجعيّة الوحيدة للأمان، بل كإحدى المرجعيّات، وربما الأضعف بينها في أوقات الأزمات.
هذا الواقع كان حاسماً في مرحلة مقاومة الاحتلال الإسرائيليّ. فقد نما حزب الله كقوّةٍ مسلّحةٍ في سياق عجز الدّولة عن حماية الحدود الجنوبيّة- وكان قد قد سبقه إلى ذلك أحزابٌ وتنظيماتٌ كان لها باعٌ طويلٌ في مقاومة الاحتلال- وتحوّل لاحقاً إلى فاعلٍ عسكريٍّ وسياسيٍّ يمتلك قدرة ردعٍ خارجيّةٍ. غير أنّ هذا الدّور ترافق تدريجياً مع بروز مفارقةٍ داخليّةٍ، فبينما أسهم الحزب في إنتاج حمايةٍ من الخارج، أدّى حضوره العسكريّ والسّياسيّ إلى تكريس نموذجٍ للحماية “من خارج الدولة”، ما أعاق تطوّر ها كمرجعٍ سياديٍّ موحّدٍ.
اليوم، مع طرح مشروع تفكيك الجهاز العسكريّ للحزب أو دمجه ضمن مؤسّسات الدّولة، لا يدور النّقاش فقط حول مسألةٍ عسكريّةٍ أو تقنيّةٍ، بل حول نقل شرعيّة الحماية نفسها. فالسّؤال لا يقتصر على “أين يجب أن يكون السّلاح”؟ بل يمتد إلى “من يملك حقّ تعريف الأمان والخطر”؟ و”من يقرّر متى تكون الحرب ومتى يكون السلم”؟. هذه الأسئلة تتجاوز ميزان القوى الحاليّ لتصل إلى جوهر تكوين المجتمع اللّبنانيّ.
ذلك أنّ الحماية في لبنان ليست وظيفةً عسكريّةً فحسب، بل هي وظيفةٌ رمزيّةٌ. إذ تملك كلّ جماعةٍ داخل المجتمع سرديّةً خاصّةً حول ما يُهدّدها وما يحميها، وما تعتبره خطراً أو ضمانةً. ومن هنا، يصبح أيّ تغييرٍ في مركز الحماية تغييراً في المخيال السّياسيّ والاجتماعيّ للجماعات، لا في توزيع السّلاح فقط. إنّ الانتقال إلى حمايةٍ موحّدةٍ عبر مؤسّسات الدّولة يفترض وجود ثقةٍ في تلك المؤسّسات، وثقةٌ كهذه لا تتكوّن عبر القوانين أو البيانات، بل عبر تاريخٍ من الأداء المتماسك والمتوازن، وهو ما لم يتحقّق بعد.
كما أنّ الجيش اللّبنانيّ، بالرغم من كونه المؤسّسة الأكثر قبولًا عبر المكوّنات المختلفة، ما يزال محكوماً بحدود الدّعم الخارجيّ الذي يعزّز قدرته في الدّاخل لكنّه لا يمنحه القدرة على الرّدع عبر الحدود. وهذا ما يجعل دوره مقبولاً كقوّة استقرارٍ داخليٍّ، لكنّه محدودٌ في أداء وظيفةٍ دفاعيّةٍ كاملةٍ. في المقابل، يُطْرَحُ سلاح حزب الله بوصفه عنصر ردعٍ إقليميٍّ، لكنّه في الوقت نفسه يثير مخاوف متعلّقة بوحدة قرار الدّولة وبقدرتها على إنتاج سياسةٍ خارجيّةٍ متّسقةٍ.
وبذلك، يظهر بوضوحٍ أنّ التّوتّر القائم لا يتعلّق بسلاحٍ بحدّ ذاته، بل بتعدّد الجماعات وتعدّد معاني الوطن داخل المجتمع الواحد. فلبنان ليس بلداً ينقسم حول مواقف سياسيّةٍ قابلةٍ للتّفاوض فقط، بل حول تعريفاتٍ مختلفةٍ للأمان والعدو والدّور الإقليميّ. وما لم تُعَالَجْ هذه الاختلافات على مستوى المعنى، ستبقى أيّ تسويةٍ أمنيّةٍ أو عسكريّةٍ هشّةٍ وقابلةٍ للانهيار عند أوّل أزمةٍ.
إنّ بناء سيادةٍ فعليّةٍ لا يتحقّق بمجرد الإعلان عن نقل السّلاح إلى الدّولة أو تعزيز جاذبيّة الجيش، بل يحتاج إلى عمليّةٍ أعمق تتعلّق بإعادة تشكيل العلاقة بين المواطنين والدّولة، بحيث تصبح الأخيرة الإطار الطّبيعيّ لحماية الجميع. وهذه العمليّة تتطلّب وقتاً وتوافقاً سياسيّاً واجتماعيّاً، كما تتطلّب إعادة توزيع السلطة وإعادة بناء مؤسّسات الدّولة بحيث لا تكون مجرّد إدارةٍ للصّراع، بل مرجعاً له.
وبناءً على ذلك، يمكن القول إنّ لبنان يقف اليوم أمام مفترقٍ حاسمٍ، إمّا أنْ ينجح في إعادة صياغة سرديّة حمايةٍ مشتركةٍ تجعل الدولة مصدر الأمن للجميع، وإمّا أنْ تستمرّ دورة الاعتماد على الحماية الموزّعة، ما يعني استمرار قابليّة البلاد لأن تتحوّل إلى ساحة تنافسٍ بين قوًى خارجيّةٍ كلما تبدّل ميزان القوى الإقليميّ.
إن استعادة السّيادة، بمعناها العميق، لا تبدأ من نزع السّلاح أو الإبقاء عليه، بل من القدرة على بناء مرجعيّةٍ وطنيّةٍ موحّدةٍ للأمان. فإذا أمكن إعادة مركز الحماية إلى الدّولة بوصفها الضّامن المشترك، تصبح السّيادة ممكنةً. أمّا إذا بقيت الحماية موزّعةً بين مراكز متعدّدةٍ، فإن الدّولة ستظلّ إطاراً بلا مركزٍ، وسيبقى لبنان يعيش في تماسٍ دائمٍ بين الدّاخل والخارج، بين ما يريد أنْ يكونه وما يُفْرَضُ عليه أنْ يكون.
