لقد فُرضت هذه الخارطة وفق منطق استراتيجي خارجي صرف، مُتجاهلة الأنسجة التاريخية والثقافية المتداخلة والحساسيات المحلية. الخطوط التي خُطّت بالمسطرة والقلم في مكاتب لندن وباريس أثمرت دولاً لم تكتمل، ومجتمعات مقسّمة، وولاءات مأزومة تتنازعها الهويات الطائفية والإثنية والقبلية.
وقد اختصر المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا وتركيا، توم برّاك، هذا التناقض الجوهري بقوله: “لا يوجد شرق أوسط، بل قبائل وقرى”. لقد أكد براك أن الدول القومية “قامت على يد البريطانيين والفرنسيين” الذين فرضوا قالباً جاهزاً بالقول: “سنأخذ ما يعرف بالإمبراطورية العثمانية وسنرسم خطوطاً مستقيمة حولها، وسنطلق عليها اسم الدول القومية”. هذا التصريح يوضح أن الدول وُلدت بـ عجز تأسيسي، لأن التسلسل العضوي للمجتمع يبدأ بالفرد ثم العائلة ثم القرية ثم القبيلة والمجتمع والدين، قبل أن يتكون أخيراً مفهوم الدولة.
الشرعية القانونية لهذه الكيانات الجديدة جاءت مكتسبة من الاستعمار. وعندما كشف الاتحاد السوفيتي بنود الاتفاقية السرية بعد الثورة البلشفية، أحدث ذلك صدمة كبرى لدى العرب الذين كانوا يظنون أن دعمهم للثورة ضد العثمانيين سيقودهم إلى الاستقلال، ليجدوا أنّ القوى الاستعمارية كانت قد تقاسمت المنطقة سلفاً، مما زرع بذور فقدان الثقة العميق في الدولة الحديثة.
صراع الهوية بين القومية وقوة العشيرة
أنتجت الحدود المفروضة – غير تلك التي رسمتها الشعوب – ما يُعرف بـ”الدولة القُطرية” التي وُلدت من رحم الاستعمار. هذه الكيانات، برغم أنها أُنشئت على النموذج الأوروبي للدولة، إلا أنها افتقرت إلى الأسس الاجتماعية والاقتصادية الصلبة. وهكذا، بُنيت السلطة السياسية في أغلبها على توازنات طائفية وإثنية هشة، ما جعل مشروع الدولة الوطنية يعيش أزمة بنيوية منذ بدايته.
في محاولة لتجاوز هذه الخطوط المصطنعة، نشأ الخطاب القومي العربي الذي سعى إلى تحقيق الوحدة. وقد حاول مفكرو القومية العربية، مثل ساطع الحصري زكي الأرسوزي وميشيل عفلق وقسطنطين زريق وياسين الحافظ وغيرهم، استخدام هذه الأيديولوجيا كوعاء لـ”السلام الأهلي” واستيعاب الاختلافات العقائدية والطائفية ضمن منظور الهوية القومية الجامعة.
لكن هذا المشروع اصطدم بالواقع، حيث ظلت الهويات القبلية والعشائرية أقوى من الهويات الوطنية. والثغرة الكبرى التي عانتها التجارب العربية كانت الفصل غير المبرر بين اعتبارات الهوية القومية (الحقوق الثقافية) واعتبارات المشاركة (الحقوق المدنية) في دائرة المواطنة. هذا الإخفاق في بناء عقد اجتماعي عادل قائم على المساواة أدى إلى تآكل فكرة المواطنة، وتحولت الولاءات إلى البنى الأولية (الطائفة والقبيلة) لتصبح “الملاذ الآمن” في مجتمعات غابت عنها العدالة المؤسسية، مثلما غابت عنها فكرة المراجعة، أي حرية الرأي.
من هزيمة 1967 إلى الشمولية الريعية
بعد الاستقلال الشكلي في منتصف القرن العشرين، حاولت الأنظمة القومية بناء “دولة الأمة”، لكن تلك المشاريع فشلت لعدة أسباب بنيوية عميقة يمكن تلخيصها في أربع نقاط مترابطة:
- الشرعية الموروثة من الاستعمار: حيث ورثت النخب الحاكمة حدودًا ومؤسسات صاغها المستعمِر، فبقيت الدولة أداة ضبط وسيطرة قمعية أكثر من كونها إطارًا للمواطنة.
- الاقتصاد الريعي: لم تنجح أغلب الدول العربية في بناء اقتصاد إنتاجي مستقل، وظلت رهينة النفط والمساعدات الخارجية. والاقتصاد الريعي يولد بطبيعته الاستبداد والتسلط، حيث يتحول الولاء إلى السلطة الموزعة للريع، مما يعيق أي تحول ديموقراطي حقيقي.
- غياب الديموقراطية: تحولت الأنظمة القومية إلى حكم شمولي قمعي، استبدل شعارات التحرر بسلطة الحزب الواحد والزعيم الأوحد. وغالباً ما كانت المظاهر الديموقراطية مجرد ديكور يحاكي النموذج الغربي لضمان استمرار العلاقات الدولية.
- الهوية الممزقة: في غياب مشروع وطني جامع، طغت الانتماءات الطائفية والقبلية، فتآكلت فكرة المواطنة.
لقد كانت نكبة 1948 ثم هزيمة 1967 محطتين فاصلتين في انهيار المشروع القومي العربي. فقد كشفت الحروب مع إسرائيل هشاشة الأنظمة العسكرية وعجزها عن تحقيق التحرير والوحدة، ما أدى إلى تحول جذري في الوعي العربي من الإيمان بالوحدة إلى الانكفاء القطري.
تزامن هذا الانهيار مع تراجع العدالة الاجتماعية، ما أفسح المجال أمام صعود الإسلام السياسي كبديل تعبوي. وقد حاولت هذه الحركات أن ترث حركة القومية العربية، مقدمة تفسيراً دينياً للهزيمة ووعداً بالعدالة عبر المرجعية الإسلامية لا القومية. وبرغم أن حلم إقامة “دولة إسلامية” بالقوة تبخر لاحقاً، إلا أن هذه التيارات نجحت في تأخير التجربة الديموقراطية بسبب خوف الحكومات القائمة منها، مما ضاعف من قوة أجهزة الأمن لمجابهة ما سُمي بـ”الخطر الأصولي”.
سايكس بيكو الثاني
بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، عاد مصطلح “سايكس بيكو جديدة” إلى التداول، في إشارة إلى تفكك الحدود القديمة وإعادة توزيع مناطق النفوذ بين قوى دولية وإقليمية؛ لكن التغيير الأهم لا يكمن في إعادة رسم الخرائط رسمياً، بل في تآكل السيادة الداخلية للدول. إن دولاً مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا ولبنان والسودان شهدت انهيارًا شبه كامل لمفهوم الدولة الوطنية، وصار الولاء للطائفة أو الإثنية أو القبيلة بديلاً عن الولاء للدولة. هذا التآكل يمثل تحللاً داخلياً مؤسسياً، وهو ما يُشار إليه بمصطلح “سايكس بيكو الثاني”.
إن كسر حدود سايكس بيكو الأول لا يعني تغيير خطوط رسمية معترف بها دولياً، بل يشير إلى عمليتين متداخلتين: تفكك الفاعلية الحصرية للدولة المركزية على الأرض، وبروز شبكات موازية (عسكرية، سياسية، قبلية) تتخطّى الحدود الوطنية.
وقد برزت ثلاثة نماذج رئيسية لهذا التآكل الميداني:
- تنظيم الدولة الإسلامية (داعش): الذي أعلن في 2014 علناً إسقاط «الحدود المصطنعة» على حدود كانت من أكثر المناطق خضوعاً للرقابة في المنطقة. لقد كان تحطيم التنظيم للحدود والمعابر فعلاً رمزياً وعملياً تحت راية “الدولة الإسلامية”، لحظة كان مُقدراً أنها لن تكتمل، لكن الأخطر منها تداعياتها التي ما زالت ماثلة حتى يومنا هذا.
- حزب الله نموذجاً للميليشيات العابرة للحدود: ساهم تدخل حزب الله الداعم للنظام السوري في إعادة تشكيل خرائط النفوذ على طول الحدود اللبنانية-السورية. وهكذا تحول الحزب من قوة لبنانية وازنة إلى قوة إقليمية شريكة في حماية أنظمة وإضعاف أخرى، وهذا الأمر يُقوّض السيادة الوظيفية للدولة المركزية.
- القبائل كمُشغل للحدود: عندما ضعفت الأجهزة الرسمية، تجاوزت الكثير من القبائل العربية في سوريا والعراق الروابط القومية، مستفيدة من روابطها التاريخية والاقتصادية الممتدة عبر الحدود. هذا السلوك العملي حوّل حدود سايكس-بيكو من خطوط تقليدية تفرض السيادة إلى “خطوط وظيفية مرنة” تُدار بمحركات قبلية ومحلية وإقليمية، تؤكد أنّ التغيير ليس في إلغاء الخريطة، بل في فعالية السيادة اليومية على الأرض.
إن “لعنة سايكس–بيكو” ما تزال تؤثر على المنطقة. واليوم، وبعد قرن، تُرسم خرائط “سايكس – بيكو الثاني” لا بالقوة العسكرية المباشرة، كما حدث في العام 1916، بل عبر ضعف النواة المركزية للدولة نفسها.
في المحصلة، لا بطولة هنا أو هناك من خلال إعادة رسم الخرائط بالقوة. البطولة تكمن في إعادة بناء “دولة المجتمع” التي تضمن لمواطنيها القدرة على العيش سوية وتحقيق الانسجام بينهم برغم الاختلافات، عبر تعددية سياسية وثقافية تتجاوز العرقية والطائفية والمذهبية الضيقة، وتُحوّل المواطنة إلى مرجعية تتحدد في ضوئها حقوق وواجبات المواطنين بلا أي تفرقة بينهم.
