منذ انتهاء مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتسريع استعمار أراضي الضفة الغربية، تناولت المنتديات أو التحليلات بشكل خفي وتحت مسميات متعددة نفس الهدف وكانت في نفس الاتجاه: «أنقذوا إسرائيل من نفسها!».
انطلقت هذه الحركة لإنقاذ الدولة العبرية منذ حوالي عقدين في الولايات المتحدة تحت تسمية «جي ستريت» (JStreet)، وهي مجموعة تُعرّف نفسها بأنها «الذراع السياسية للحركة من أجل إسرائيل والسلام»، وهي جماعة ضغط تأسست في نيسان/ أبريل 2008، وربطت أهدافها بالسعي لتعزيز حكم أميركي يجب أن يساهم في إنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
في نهاية هذا العام 2008، تم انتخاب باراك أوباما، فحاول هذا الأخير ركوب الموجة: فكان «خطاب القاهرة» الذي ألقاه في جامعة الأزهر في 4 حزيران/يونيو 2009، وهو خطاب اعتبر بمثابة معلم جديد يشير إلى تغيير نوعي، إذ أنه يقارب الصراع العربي الإسرائيلي بمصطلحات جديدة للغاية مقارنة بخطابات القادة الأميركيين حتى ذلك الحين. وعلاوة على ذلك، أظهرت سنوات حكم أوباما الأولى تصاعداً ملموساً في التوتر بين واشنطن وتل أبيب، وهو التوتر الذي دار حول قضية الإستيطان والمستوطنات.
وفي هذا السياق، تم إطلاق حركة «جي كول» (JCall) في 3 أيار/مايو 2010 في البرلمان الأوروبي في بروكسل. هذه الحركة، وعلى عكس «جي ستريت»، ليست موجهة مباشرة إلى حكومات أوروبا، بل هي تستهدف يهود أوروبا لأن هذا الاسم المختصر يلخص «دعوة اليهود الأوروبيين للعقل». ووصفها جان دانيال مدير تحرير مجلة «نوفيل أوبسرفاتور» وأحد كبار المدافعين عن حق إسرائيل، بأنها «صرخة إنذار مصحوبة بإعلان حب وإخلاص».
تمثل هاتان الحركتان لمحة عن النضالات داخل الجاليات اليهودية وبين أصدقاء إسرائيل في أوروبا والولايات المتحدة. كل هذه التيارات تهدف إلى «إنقاذ إسرائيل»… ولكن سنرى أن التناقض كان في دعم إسرائيل سياسياً ومالياً وعسكرياً بشكل يناقض ما سنراه في هذه الدراسة.
كانت سنوات أوباما أكثر السنوات كرماً للمساعدات التي منحتها واشنطن لإسرائيل. آخر عمل للرئيس أوباما قبل مغادرته البيت الأبيض هو تقديم 38 مليار دولار (34 مليار يورو) لإسرائيل، وهو مبلغ سمح للدولة العبرية بتعزيز تفوقها العسكري في المنطقة.
وفي تناقض فاضح، عارض أوباما، وكذلك الحركتان المذكورتان أعلاه والجمعيات «المؤيدة للسلام» سياسات الحكومة اليمينية في إسرائيل، وكان هذا في الواقع دفاعاً عن الشعب الإسرائيلي وإنقاذه من براثن يمين متطرف متهور. وكان يجب دائماً مراعاة تيار دعم إسرائيل في العالم الغربي، وهو ما يفسر امتناع الولايات المتحدة عن التصويت على «استعمار أراضي الضفة الغربية» في مجلس الأمن في 23 كانون الأول/ديسمبر عام 2016.
ولكن السؤال قبل وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وإمعانه في دفع إسرائيل نحو تصلب يميني كان: ما هي الأخطار التي تنتظر هذه الدولة حتى يجتمع هؤلاء «الأصدقاء المقربون» ليوفروا لها سبل الإنقاذ، فيما هم يعيدون في الوقت ذاته تأكيد التزامهم بأمنها؟
يتفق المجتمع الدولي على أن السلام في الشرق الأوسط يتطلب إقامة دولة فلسطينية، أي حل الدولتين، وبالتالي إنهاء الاحتلال.
ملخص هذه المواقف، ومن دون الخوض في اعتبارات سياسية أو أخلاقية، هو أن الخطر الذي يواجه إسرائيل بنظر مؤيدي الدولة العبرية هو دوام الاحتلال.
النموذج الاستعماري
إحدى النظريات التي ظهرت في الدراسات العديدة حول الاستعمار تتناول مبدأ الهيمنة والقدرة على الهيمنة من خلال تحليل مؤشر القوة (iP) (Power Index- Indice de Puissance).
وهنا يطرح سؤال تهرب معظم الأوساط من طرحه وهو :«هل يمكن اعتبار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مسألة وضع استعماري؟». الصهيونية انطلقت في بداياتها كـ«مشروع وطني» يهدف إلى إنشاء دولة ذات سيادة للشعب اليهودي، على أرض ذات أهمية تاريخية ودينية بالنسبة لمؤسسي الحركة في نهاية القرن التاسع عشر. ولم يتم تعريفه على أنه مشروع استعماري يسعى إلى السيطرة و «جلب حضارة» للسكان الأصليين واستغلال هذه الأرض ومواردها الطبيعية.
لذلك لم توجد فكرة إنشاء «مستعمرة» في بداية انطلاق عمليات تهويد الأراضي الفلسطينية عبر هجرة يهود أوروبا الذين عانوا من اللاسامية في القرن التاسع عشر وبلغت قمة اضطهادهم في عهد النازية الألمانية والأنظمة الاوروبية المتواطئة. لذا غابت أية مقارنة ممكنة مع الإمبراطوريات الاستعمارية الفرنسية أو البريطانية.
ولكن منذ عام 1967 واحتلال فلسطين بأكملها، تحقق النموذج الاستعماري في هذه الأرض المحتلة حيث يعيش سكان فلسطينيون. في الضفة الغربية، وهي ليست أرضاً خالية (Terra nullius)، هناك شعب تقول «قوات الاحتلال الإسرائيلي» إنها لا تريد قتله وفي آنٍ واحد لا تريد دمجه. إذاً يوجد شعبان يعيشان جنباً إلى جنب ويسيطر أحدهما على الآخر.
مؤشر القوة والقدرة على الهيمنة
لذلك يطرح الاحتلال – بشكل عام – مسألة «مؤشر القوة بين شعبين» يتعايشان على هذه الأرض. ومن هنا يطرح مبدأ القدرة على الهيمنة أي مقارنة مؤشر القوة (IP) لكل من هذين الشعبين المتواجهين.
مؤشر القوة (IP) (لشعب ما أو دولة أو مجموعة) هو نتاج عملية حسابية معقدة نختصرها بالاستعانة بمقياس ديموغرافيته (D = عدد السكان) في علاقة حسابية مباشرة مع عامل قدرته على ترشيد أعماله المتعددة والواسعة: أي وضعية الركائز الأساسية لهيكلية المجتمع مثل المستوى العلمي والاقتصادي والتكنولوجي والصحي إلخ.. والقوة العسكرية والمالية وقوة العلاقات الدولية والتأثير الحضاري والحداثة إلخ.. وهو ما يسمى بـ«مؤشر الترشيد» أو iR (indice de Rationalité) – efficiency index.
من هنا نصل إلى هذه المعادلة : IP = D * iR
إنها قدرة شعب (أو دولة أو مجموعة) على السيطرة على شعب آخر (أو دولة أخرى أو مجموعة أخرى).
إذا كان لدى شعبين وزن ديموغرافي متكافئ (D1 = D2)، فإن مؤشر الترشيد يحدد الهيمنة في المعادلة (IP = D * iR).
إذا كان من السهل قياس العامل الديموغرافي (D) في نزاع (مثل ما هو حاصل بين الصين وتايوان على سبيل المثال)، فإن عامل مؤشر العقلانية (iR) هو الذي يمثل العامل الكمي المؤثر.
الصراع بين إسرائيل
كيف يمكن تطبيق هذه النظرية على الصراع بين إسرائيل والدول العربية (أو حتى أي دولة عربية)؟
من الناحية التاريخية، فإن التنظيم الاجتماعي وبنية الدولة بشكل عام هو مفتاح الطريق أمام التقدم بالمعنى الواسع. هذا التنظيم الاجتماعي (الزراعة وتدجين الحيوانات والتحضر)، إلى جانب اختراع الأدوات الأولى (استخدام الحديد، دبابات الحرب، إلخ…) سيحدد هيمنة شعوب معينة على حساب الآخرين.
في عصر العولمة السابقة (أي انتشار المعارف بين الشعوب) يأخذ التقدم أشكالًا أخرى، بالاعتماد على أسس أخرى أكثر تطوراً: تعميم التعليم، والتصنيع، والتنمية الاقتصادية، والبنية التحتية، وتنظيم هيئات الحكم، إلخ… ولقياس درجة الترشيد (بكل بساطة بعيداً عن المعادلات الرياضية المعقدة)، هناك اتفاق عام على النظر في عاملين يولدان في الواقع عوامل أخرى بشكل غير مباشر: معدل الاستفادة من القراءة والكتابة (تطوير الذات) ومستوى الناتج المحلي الإجمالي (التطوير الاقتصادي). من الطبيعي أن يعكس معدل معرفة القراءة والكتابة مستوى التعليم (المتوسط) للناس وبالتالي وصوله إلى التقدم (من جميع النواحي: التنظيم الاجتماعي، واستخدام التقنيات المتقدمة، وبالتالي الأسلحة ووسائل الاتصال، إلخ …)؛ بينما يشير الناتج المحلي الإجمالي إلى التطور الاقتصادي الذي يسمح بتخصيص العناصر الفنية المذكورة أعلاه، وتثبيت التقدم.
في جنوب إفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري كانت لدى الشعوب البيضاء كثافة ديموغرافية ضعيفة مقارنة مع الأفارقة، ولكن نسبة مؤشر الترشيد (iR) كانت مرتفعة جداً، ومن هنا كانت الهيمنة على المجتمعات الأخرى، حتى اليوم الذي أثر فيه مستوى التنمية الاقتصادية للسود، دون الوصول إلى مستوى البيض، على المعادلة (iP = DX iR) وأعطت كل ثقلها للعامل الديموغرافي (وهو ليس العامل الوحيد كما يحب أولئك الذين يتحدثون عن السلاح الديموغرافي التفكير به).
وفي كل مرة انعكست الهيمنة بين كتلتين ثبت أن انقلاب مؤشر القوة (iP) هو المحول الفاعل الأكبر. ويمكن إثبات هذا المعادلة في كل حالات الهيمنة.
حالة إسرائيل وفلسطين
في العام 1948، كانت أكثرية سكان إسرائيل من أصول أوروبية وبالطبع كان مؤشر الترشيد لدى المهاجرين اليهود الفارين من النازية ومن أوروبا أعلى من مؤشر ترشيد الفلسطينيين القابعين تحت نير الاحتلال البريطاني. وبالتالي فقد كانوا قادرين على إقامة دولة مهيمنة معتمدين على نموذج مؤشر قوة أعلى من مؤشر قوة المواطنين في أرض فلسطين، وهو ما سمح لهم بالانتصار وتهجير قسم كبير من السكان الأصليين. فقط أقلية من الفلسطينيين لم تهاجر هرباً من التنكيل وبقيت داخل حدود الدولة الفتية.
استندت قوة هذه الدولة المبنية حديثاٍ على هذه العلاقة: الكتلة السكانية اليهودية أقل الكتلة السكانية الفلسطينية، إلا أن مؤشر الترشيد كان أعلى بكثير. فحصلت الهيمنة وتوسعت الدولة اليهودية إلى خارج حدود قرار مجلس الأمن، على الرغم من تحشيد الجيوش العربية التي انطلقت من دول ذات مؤشرات قوة أقل بكثير من الكتلة اليهودية التي تمسكت بالأرض.
كان من الممكن أن يستمر هذا ما يقرب من قرن إن لم يكن أكثر، لأنه حتى لو تم دمج فلسطينيي 1948 (دون أن يتم استيعابهم كما هي الحال الآن تقريباً) في المجتمع الإسرائيلي، فإن مؤشر الترشيد لدى تلك الأقلية سيرتفع من دون أن يصل إلى مرتبة مؤشر الترشيد الإسرائيلي بسبب سياسة الاضطهاد ومعاملتها كمواطنين من درجة ثانية، ناهيك عن أن العامل الديموغرافي ليس في صالح فلسطينيي 1948. وبالتالي كان مؤشر قوة الكتلة الاسرائيلية أعلى من مؤشر قوة تلك الأقلية ومن هنا الهيمنة.
حرب حزيران 1967
توسعت إسرائيل بعد انتصارها في حرب الأيام الستة، وزادت مساحتها كما زاد عدد السكان القابعين تحت نير الاحتلال (غزة والضفة والجولان وسيناء).
وقاد ذلك إلى: ارتفاع نسبة السكان العرب ولكن ظلت أقل من نسبة السكان اليهود. وفي المقابل، دخلت إسرائيل في معادلة النموذج الاستعماري خصوصاً مع اتساع مصادرة الأراضي لبناء مستوطنات وتوطين يهود قادمين إما من الخارج أو من داخل أراضي العام 1948. إذاً انزلق النموذج الإسرائيلي الذي كان قومياً إلى نموذج استعماري، وبات يمكن تطبيق نظرية مؤشر القوة ومتابعة تطور المؤشرات المتداخلة ضمنها.
عامل الديموغرافيا D
وفقًا للبيانات الإسرائيلية (حسب دراسة للجامعة العبرية في القدس – أعمال Sergio Della Pergola)، يتم اعتبار أربع مجموعات سكانية بمعدلات خصوبة ضمن الكيان الإسرائيلي الفلسطيني لخمسين سنة (2000 – 2050)، وهي:
1 – اليهود الإسرائيليون: 2.6
2 – عرب اسرائيل: 4
3 – الفلسطينيون في الضفة الغربية: 5.4
4 – الفلسطينيون في غزة: 7.4
ملاحظات مبنية على النظام الذي تطبقه الأمم المتحدة لتوقعاتها الديموغرافية:
إن معدل الخصوبة للإسرائيليين مرتفع بالفعل مقارنة بالمجتمعات الغربية التي لديها نفس المستوى من التقدم.
بدأ الفلسطينيون في «التحول الديموغرافي» حيث بدأ معدل الخصوبة في الانخفاض، ويرى علماء الديموغرافيا أنه سيكون بحلول عام 2050 حوالي 3.8 (لكنه سيظل أعلى من معدل الخصوبة عند الإسرائيليين).
على الرغم من ذلك يميل التوازن الديموغرافي للجانب الفلسطيني.
ومن خلال تطبيق معادلة مؤشر القوة IP في توقعات على مدى 50 عاماً، سنرى أن الخلل لصالح الفلسطينيين سيكون أكثر قوة.
عامل مؤشر العقلانية (iR)
يلعب الناتج المحلي الإجمالي دوراً مؤثراً كما رأينا أعلاه، وهو الأكثر تمثيلا وتأثيراً على مؤشر العقلانية.
تشير الدراسات إلى أن الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي بشكل تطور خطي (linear progression)، لأن الاقتصاد الإسرائيلي الذي بلغ مرحلة النضج يسير على نفس مسار الاقتصادات الغربية المتقدمة: يتباطأ بشكل دوري ولكنه يحتفظ بإمكانيات نمو محدودة.
الاقتصاد الفلسطيني ضعيف للغاية، بسبب السياسات الاسرائيلية من عام 1967 حتى السنوات التي تلت اتفاق أوسلو عام 1993. بدأ يخطو بدايات تحسن بعد توقيع اتفاق وايت ريفر عام 1996 بشكل ملموس حتى ولو كان من الصعب وصف هذا الانطلاق البسيط بأنه نمو اقتصادي ولكنه ينطلق من «صفر تقريبي».
غير أنه في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأ هذا النمو يظهر بشكل ملموس نتيجة تدفق مساعدات من الهيئات الدولية من 10.4 مليار عام 2011 إلى 14.6 عام 2019.
في إسقاط حسابي لتطور الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني المحسوب في عام 2020 يجعل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي حوالي 5000 دولار بحدود عام 2050. وتظهر البيانات أن تطور الناتج المحلي الفلسطيني يمكن أن يكون له نفس ميل تطور الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي.
إن مقارنة رسم بيان التركيبة السكانية ومؤشر العقلانية لكلا الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي يشير إلى أن مؤشر القوة يعطي رسمًا بيانيًا واضحاً: سيكون للفلسطينيين مؤشر قوة نسبي (iP) أكبر من مؤشر قوة الإسرائيليين، وسيكون لديهم القدرة على السيطرة على كل فلسطين الانتدابية.
وتقع «نقطة الانهيار» (breaking point) هذه وفقًا للرسم البياني بين عامي 2040 و 2050، ويمكن أن تتحرك البيانات بهامش عائم وبفاصل زمني مدته عشر سنوات..
ولكن وضوح هذه المعادلة أمر لا مفر منه. ويجب وضع هذا التحليل تحت أنظار الحكومة الإسرائيلية في ما يتعلق بـ«كيفية إنقاذ إسرائيل»، الجواب بسيط: بالانسحاب من الضفة الغربية والحفاظ على حل الدولتين.
ولعل هذا يفسر الهجمات الإسرائيلية على المرافق في غزة (المصانع الصغيرة والأسواق والأبنية)، وتخريب حقول والمزروعات لتدمير هيكلية الاقتصاد في المناطق الفلسطينية. ويفسر أيضاً التضييق على الجامعات والمدراس ووضع العقبات أمام الطلبة وتهميش الدراسة للأطفال في فلسطين، كل ذلك في محاولة لفرملة تقدم مؤشر قوة المجتمع الفلسطيني ذلك أن مؤشر قوة المجتمع الإسرائيلي وصل إلى «السقف الزجاجي» ومجالات التقدم شبه معدومة مع إمكانية التراجع الديموغرافي ما يعني تسارع ارتفاع مؤشر قوة الفلسطينيين.