تتجلى هذه الظاهرة اليوم في الولايات المتحدة. الإمبراطورية التي رفعت شعار الحرية والفرص تجد نفسها أمام ارتجاج داخلي يتصاعد كلما انفجرت حقيقة ظلّت تتحرك في العلن من دون أن تأخذ مكانها في الوعي. “البقعة العمياء” هنا تتمثل في مساحة يسمح فيها النظام السياسي بمرور أفعال عنيفة أو ممارسات كبرى تحت عنوان الأمن أو النفوذ أو التحالفات، ثم تظهر لاحقًا كصدمة تهزّ الضمير الوطني. وعندما تفيض هذه الحقائق فوق السطح، تبرز الذات الأميركية ككائن يبحث عن توازنه وسط كمّ هائل من الأسئلة حول العدل والهيبة والهوية. تتكوّن لحظة مواجهة بين صورةٍ صاغتها الأساطير السياسية وصورةٍ أخرى ترسمها الوقائع على الأرض، فينشأ الارتجاج بينهما مثل تصادم موجتين داخل بحر واحد.
ومن أميركا يمتد المشهد نحو أوروبا. القارة التي ورثت فلسفات كبرى، ونظريات حقوقية عميقة، ونماذج سياسية مبهرة، تواجه الآن اختبارًا في قدرتها على رؤية ذاتها بوضوح. الأحداث التي تدور حولها تتحرك بسرعة مذهلة، وتدفعها إلى صدمة بديهية تأتي متأخرة دائمًا. “البقعة العمياء” الأوروبية تقوم في المسافة بين قيم الحرية والكرامة التي تتغنّى بها وبين الممارسات التي تجري في ساحات السياسة، حيث تتسع الفجوة بين الوعي النظري والفعل الواقعي. ومع كل حدث دموي أو مأزق أخلاقي، تتعرّض هوية أوروبا إلى رجّة تعيد فتح سؤالها القديم: من نكون؟ وأيّ إرث نحمل حين يفيض المكشوف ونُجبر على مواجهة ذواتنا بلا طبقات من المجاز؟
ثم يظهر المثال الأكثر حدّة فوق أرض فلسطين المحتلة. “إسرائيل” تبني ذاتها على سردية مغلقة، وتمنح نفسها حقوقًا مطلقة، وتحوّل فعلها العسكري والسياسي إلى قدرٍ مبرر دائمًا. ومع تراكم الفظائع، ترتفع “البقعة العمياء” كجدار يطوّق الوعي الداخلي، جدار يسمح بالاستمرار في الخطاب ذاته من دون أي مساءلة. وحين تتشكل موجة إدراك عالمية خارج الحدود، ينقلب الجدار على بنية الهوية نفسها. يظهر سؤال جديد: بأي وجه نقف أمام العالم؟ وكيف يتكوّن هذا الوجه عندما تتدفق الحقيقة مثل نار تلامس الورق؟
هذه “البقعة العمياء” ليست حدثًا طارئًا، بل بنية كامنة في عمق الوعي السياسي والأخلاقي لكل قوة تبحث عن دورها في النظام العالمي. وعندما يفيض المكشوف فوق حدود الصمت، تبدأ عملية إعادة تشكيل حقيقية للذات، وتظهر لحظة اختبار أمام التاريخ. ارتجاج الذات يصبح موجة تحمل الهويات الثلاث، أميركية وأوروبية والكيان العبري، نحو مراجعة لا مفر منها، مراجعة تمسّ الإرث، والفعل، والقيمة، وصورة العالم في عيون الشعوب.
لحظة “البقعة العمياء” تتحول إلى لحظة تجلٍّ، يتحرك فيها ما كان مؤجلاً، ويرتفع فيها ما كان مطمورًا، فتتشكل بوابة نحو زمن جديد يتحدد عبره شكل الأخلاق والسياسة والهوية في القرن الحاضر.
