كسر دوامة اليأس في فلسطين.. ببناء الفاعلية السياسية

لطالما كان النضال من أجل تحرير فلسطين أسير دوامة من الهيمنة الأطلسية والتشتت الفلسطيني والعربي. وما أظهرته حرب الإبادة في غزة من فجوة هائلة بين إرادة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وقدرتها على التأثير الفعلي في مقابل تحركات نشطة وفعالة للشعوب الغربية في وجه الاحتلال، يفرض إيجاد إستراتيجية جديدة لاستنهاض هذه الشعوب.

إذا كان لهذه الدوامة أن تنكسر، يجب على إستراتيجية المواجهة أن تشمل بناء فاعلية سياسية واعية عند شعوب المنطقة، ومنها الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات. فالفاعلية السياسية – اقتناع الجماعة بإمكانية تأثيرها على النظام السياسي[1] – ليست وليدة اللحظة بل مهارةٌ يتم بنائها. ويرى الباحثون في علم النفس السياسي أن للفاعلية السياسية بعدين؛ الأول، داخلي يسمى الفاعلية الذاتية وهنا المقصود تصور الفرد لمقدرته أو كفاءته على فهم والمساهمة في العمليات السياسية[2]. الثاني، هو الفاعلية الجماعية والتي تعني تصور الفرد لقدرة أو كفاءة الجماعة على التأثير في العملية السياسية، أي مدى اقتناع الجماعة بقدرتها على فرض بديل سياسي جديد[3]. وسيتم التركيز في هذا المقال على الفاعلية الذاتية.

وقد أوضح عالم النفس ألبرت باندورا أن نمو نظرة الفرد إلى قدراته الخاصة تتأثر بأربعة عوامل أساسية[4]:

العامل الأول هو التجربة الذاتية، والمقصود بناء الثقة من خلال النجاحات السابقة مثل النجاح في الضغط على البلدية لتغيير سياسة محلية معينة أو من خلال النجاح في تنظيم نشاط سياسي ما. وفي مجال النضال الفلسطيني، يُمكن ذكر تجربة أهالي حي الشيخ جرّاح في القدس حيث استطاعوا تحويل قضيتهم من نزاع عقاري محلي إلى قضية دولية من خلال توثيق انتهاكات المستوطنين عبر وسائل التواصل الاجتماعي والاعتصامات الأسبوعية وبناء تحالفات مع منظمات حقوقية.. وهذا النجاح الجزئي درس وتجربة بالفاعلية السياسية حتى عند اختلال موازين القوى.

العامل الثاني هو التعلم من خلال المشاهدة، فمشاهدة أشخاص شبيهين بالفرد ينجحون في تحقيق أهداف تخص قضاياهم السياسية يُعزّز من ثقتنا بالقيام بالأمر نفسه. لذلك تبرز أهمية إظهار نجاح تجارب شعوب أخرى في مجال النضال السياسي مثل تجربة جنوب إفريقيا مع احترام الفروقات، كما أن تجربة حملة المقاطعة (BDS) مهمة، إذ أن نجاحها في حشد الدعم الدولي وإلحاق خسائر معنوية ومادية بالاحتلال يُقدّم دليلاً قوياً على أن أدوات المقاومة المدنية الشعبية يمكن أن تكون فاعلة، مما يغذي الإعتقاد بإمكانية تحقيق النجاح في سياقات نضالية أخرى.

العامل الثالث هو الإقناع الاجتماعي،  وهذا العامل دوره مهمٌ للغاية، ويبدأ بالتشجيع ولا ينتهي بتدريب الأفراد، ويشمل التأكيد الدائم للفرد على أهمية رأيه إلى إقامة ورشات عمل لاكتساب المهارات والمفاهيم السياسية المطلوبة.

وتعتبر المعرفة السياسية من أهم الركائز الأساسية في بناء الشعور بالفاعلية الذاتية. فالدلائل الإحصائية في العديد من الدراسات تؤكد أنه كلما زادت معرفة الفرد بالمعطيات السياسية مثل كيفية عمل الحكومة أو آلية عمل الاحتلال، زادت ثقته بقدرته على المشاركة السياسية[5]، حتى فهم بعض المفاهيم السياسية والاقتصادية والمدنية مثلاً تساهم في بناء نظرة الفرد إلى قدرته الخاصة على التأثير في العمليات السياسية وتوقعها.

العامل الرابع والأخير هو الحالة الانفعالية والفيزيولوجيا للفرد، فتعلم الفرد كيفية التعامل مع انفعالاته يساهم في استمرار نشاطه السياسي، كما أن تعلمه كيفية إفراغ إحباطه حول قضية ما يجعل من النضال السياسي أكثر تحملاً واستمرارية. ولهذا الكثير من الطرق والمهارات مثل اللجوء إلى الفن فالتعبير بالرسم والموسيقى وسيلة تفريغ قوية للفنان ولمستهلكي هذا الفن. مثال آخر هو مدونات الفيديو من غزة التي غزت مواقع التواصل الاجتماعي؛ فخلال حرب الإبادة قامت مجموعات شبابية بتوثيق الحرب ولم يكن لهذا الأمر تأثير إعلامي فقط بل كان وسيلة سيطرة على الذعر. فبدل الانغماس في الخوف أعطتهم تجربة رواية الأحداث شعوراً ولو بسيطاً بالسيطرة.

من هنا الطريق نحو التحرير ليس فقط جيوسياسي أو عسكري، بل هو مشروع نفسي وتنظيمي أيضاً. هذا الطريق يتطلب مجهوداً طوعياً مستمراً ومكثفاً لتنمية الفاعلية السياسية عند الشعوب العربية، ولا سيما الشعب الفلسطيني. فمن خلال وضع إستراتيجية لتعزيز التجارب الذاتية (أهداف قابلة للتحقق وتعزيز التعلم بالمشاهدة من خلال التعلم من النضالات العالمية، والاستثمار في التعليم من أجل الإقناع الاجتماعي، وخلق مساحات للصلابة النفسية إلخ..)، يمكن بناء أفراد جديرين بأن يكونوا  نواة لمقاومة جديدة.

[1] Albert Bandura, Self-efficacy: the exercise of control, New York, Stanford university,1977, p483

[2] Reichert, F. (2016). How internal political efficacy translates political knowledge into political behavior. Europe’s Journal of Psychology, 12(2), 332-349

[3] Ibi

[4] Bandura (n 1) p:80

[5] Reichert, How internal political efficacy translates political knowledge into political behavior(n 2)

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  جبهة المقاومة.. كيف ربحت الحرب قبل أن تبدأ؟ 
Avatar

كاتب ومتخصص في علم النفس، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180   رسالة مفتوحة إلى المناضل جورج إبراهيم عبدالله