استبق الناطق باسم الرئاسة الروسية، ديمتري بيسكوف، الاجتماع بتصريح عبّر فيه عمّا سمّاه “تفهُّم موسكو مخاوفَ تركيا الأمنية المشروعة بشأن سوريا”، وأنها “ستأخذها في الاعتبار”، على نحو يعطي انطباعاً بقبولها عمليةً عسكرية هناك، على الرغم من استدراكه بأهمية تجنّب الأعمال التي يمكن أن “تهدد سلامة أراضي سوريا ووحدتها السياسية”، مشيراً إلى أن لقاء بوتين وإردوغان سيركز على سوريا ومخاوف تركيا هناك.
تتباين رؤية روسيا للملف السوري عن رؤيتها للملف التركي. فعلى الرغم من أهمية سوريا لها، يوجد، بالنسبة إليها، ملف وحيد متشابك مع مجموعة من الملفات، ويدخل ضمن التصور الروسي للمنطقة الممتدة من غربي آسيا إلى الخليج والبحر الأحمر وشمالي أفريقيا، وفق رؤية محدَّدة للنظام الإقليمي المقبل، والذي يتم العمل على بنائه، تحت سقف النظام الدولي الجديد المتوقع ولادته خلال عقد من الزمان.
ذلك الأمر يتم على العكس من الملف التركي، الذي يحظى لدى موسكو بأهمية قصوى، إن كان وفق التصور الأوراسي لعقل بوتين، ألكسندر دوغين، بحيث تُعَدّ تركيا وإيران ركنين أساسيين لنجاح المشروع، أو بفعل ما فرضته تركيا من وقائع على الأرض كقوة فاعلة، في مناطق تتشابك فيها مصالحها مع المصلحة الروسية، في كل من سوريا وليبيا والقوقاز بصورة مباشرة، وفي العراق والخليج على نحو غير مباشر.
ولم يتباين الأمر أيضاً بالنسبة إلى تركيا، التي ثبَّتت نفسها، بعد الحرب في أوكرانيا، موقعاً جيوسياسياً بثقل ديموغرافي لا غنى عنه لكل الأطراف الدولية، فجعلت من نفسها وسيطاً بين القوى الغربية والقوى الآسيوية، وخصوصاً بعد أن لمست عدم الترحيب الكبير بالانفتاح عليها جنوباً. وعلى الرغم من المصالحة مع الإمارات و”إسرائيل” والسعودية، فإن ذلك لم يترجَم بدعوتها إلى أن تكون في نظام إقليمي يتم العمل عليه بين هذه الدول، ومعها مصر التي تمنّعت عن الذهاب نحو المصالحة الكاملة، قبل حسم ملف الإخوان المسلمين على نحو كامل، بالإضافة إلى ثمن المصالحة الذي يقتضي خروج أنقرة من ليبيا، والتخلي الكامل عن إسلاميّيها هناك.
العلاقات الروسية التركية، كما العلاقات الروسية الإيرانية، ذات أهمية قصوى لروسيا، على الرغم من التنافر التركي الإيراني في سوريا، وهذا ما يجعل المسألة السورية ليست أولوية على طاولة الملفات الإقليمية والدولية، ويدفعها نحو زاوية الانتظار أكثر من أي مرحلة سابقة، ريثما تتوضّح نتائج الحرب في أوكرانيا
في ظل هذه الأجواء، تمّ اللقاء في سوتشي، مركِّزاً بصورة أساسية على جملة عامة من المصالح بين البلدين، وهي المصالح الأكثر إلحاحاً للبلدين، على نحو يخدم كلاً منهما في معركته. وتتركّز، بالنسبة إلى روسيا، على أهم سلاحين تمتلكهما، وهما القمح والغاز، اللذين استطاعت من خلالهما تبديل عجلة الهجوم الغربي عليها، ليرتدّا على الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وعلى العالم أجمع، على شكل تهديدات اقتصادية داخلية، عبر ارتفاع مستوى التضخم إلى مستويات لم تحدث منذ عقود طويلة، وارتفاع مستوى البطالة، مع تهديدات بمزيد من التدهور الاقتصادي مع قدوم فصل الشتاء المقبل.
فبالنسبة إلى سلاح القمح، الذي تُعَدّ روسيا الثالثة عالمياً في إنتاجه بعد الصين والهند، يمكن لتركيا أن تؤدي دوراً مهماً في تنسيق عملية إخراجه ووصوله إلى دول العالم، التي ترتبط مصالحها بروسيا. أمّا سلاح الغاز، فإن روسيا حريصة على إغلاق كل البدائل المتاحة لتزويد دول الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً الغاز الأذربيجاني، الذي يصل إلى أوروبا عبر تركيا، ويأتي من جورجيا، ويمكن لتركيا أن تؤدي دوراً مهما في منع استخدام سلاح الغاز الأذربيجاني، في مقابل استمرار تدفق الغاز الروسي عبرها، مع محفّزات اقتصادية تخفف الضغط عن الليرة التركية، عبر الانتقال إلى خطة متدرجة، تتيح الانتقال لتحويل ثمنه بالعملات الوطنية. وهذا ما دفع إلى إعلان مرحلة أولى للدفع بالروبل الروسي كاختبار أوليّ، ريثما يتم الانتقال للدفع بالليرة التركية، الأمر الذي يساهم في رفع شعبية الرئيس التركي، الذي يعاني من جرّاء التراجع الكبير للاقتصاد التركي.
لذلك، لم يكن هناك حضور حقيقي للملف السوري على طاولة المباحثات بين الرئيسين بوتين وإردوغان، إلّا من خلال تصريح الناطق الرسمي، ديمتري بيسكوف، قبل الاجتماع، وأن النقاش المقبل مؤجَّل إلى الاجتماع الثلاثي في موسكو قبل نهاية هذا العام، وربما لن يقدّم شيئاً جديداً بعد الاجتماع الثلاثي في طهران، الذي لم يُعجب إردوغان، بسبب ما سمعه فقط من المرشد علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي، ولكن ليس من بوتين، الذي كان يحضِّر للقاء إردوغان بعد الاجتماع، وهذا ما دفع تركيا إلى زيادة وجودها في إدلب، وخصوصاً في جنوبي طريق M4، وإحداث نقاط عسكرية جديدة، من دون اعتراض روسي.
لقد أصبح من الواضح أن العلاقات الروسية التركية، كما العلاقات الروسية الإيرانية، ذات أهمية قصوى لروسيا، على الرغم من التنافر التركي الإيراني في سوريا، وهذا ما يجعل المسألة السورية ليست أولوية على طاولة الملفات الإقليمية والدولية، ويدفعها نحو زاوية الانتظار أكثر من أي مرحلة سابقة، ريثما تتوضّح نتائج الحرب في أوكرانيا، ومن بعدها مسألة تايوان، وما يمكن أن تترك من آثار في السوريين المنتظرين خروجَهم من كارثتهم التي أرهقتهم.
(*) بالتزامن مع “الميادين“