المُبتدَأ

اكتملت حلقةُ الأصدقاء بحضُور من تأخَّر، وقبل أن يتلقَّى اللومَ من الجَّمع الذي طال به الانتظار؛ قال إنه مَعذور.

مُبتدأ الحكايةِ صالةُ سينما حديثة ودعوةٌ من الأولاد لمشاهدة فيلم تضاربت حوله الآراء، أما مُنتهاها فغضبٌ حمله الرجلُ معه آملًا أن يجدَ متنفسًا. لم يعط فرصة كي يسأله أحد الجالسين عن سِرّ الحنُق الذي بدا عليه؛ بادر بالحديث عن تزييف للتاريخ وتشويه للحقائق، وفوق هذا وذاك خيبة على المستوى الفني. انقسمت الصُّحبةُ بين مَن قرَّر عدم المشاهدة، ومن ثارَ فضوله وانتوى قطعَ تذكرة، وفيما كان مُبتدأ القعدةِ سُخطًا وأسى، جاء مُنتهاها وَصلة غناء رائقة للست؛ انبعثت من المَحمولِ فهدَّأت الأنفاسَ، وأعادت ضبطَ الأمزِجة.

***

المُبتدأ اسم مكان من الفعل ابتدأ، الفاعل مُبتدِئ بكسر حرف الدال والمصدر ابتداء. يُقال على سبيل المثال إن مُعسكرَ الإعداد هو مُبتدأ رحلةِ البطولة، وإن المَدرسةَ مُبتدأ تكوينِ الشَّخصية، وإن صالةَ الإحماءِ مُبتدأ بناءِ جَسدٍ رياضيّ سليم، قادر على المنافسة الجادة، كذلك يُمكن القول بأن مُمارَسة العمل الطلابي مُبتدأ المشاركة الناضجة في الحياة السياسيَّة؛ ما لانت الأجواءُ وسَمحَت الظروف.

***

إذا رجع الواحد إلى نقطة البداية قيل: عَوْد على بَدء، والمعنى أنه سَوف يقطع الطريقَ بعد الانتهاءِ مِن جديد؛ بعضُ المرَّات بسبب الحاجة للتأكيد ومرات تشككًا في النتيجة، وأخرى لأنه لم يَصِلْ في المرَّة الأولى لما أراد أو توقَّع، والحقُّ أن في الإعادة إفادة ولو استهلكت وقتًا أطول وجهدًا إضافيًا.

***

يمثل كلٌّ من المبتدأ والخبر ركنيّ الجُّملة الإسمية؛ إن ظهر الأول ظلَّ الكلامُ منقوصًا إلى أن يُكمِله الثاني. مِن الناس مَن يهزأون بالمبتدأ ويحرمونه الاكتمال، يبحث المرءُ في أحاديثهم أو كتاباتهم عن الخَبر؛ فلا يجده، ويفتش عن تمام المعنى؛ لكنه لا يعثر عليه، ويبقى المُحتوى في هذه الحال مُعلقًا، مطروحًا للتكهنات، مؤرقًا لكل ذي ذائقة وعقل. المُوجع أن يكونَ بين هؤلاء مسؤولٌ رفيع؛ يقتضي منصبُه حسنَ البيان وطلاقةَ اللسان؛ لكنه يفتقد كليهما وتنعكس عيوبُ الخطابةِ وزلاتها على مكانتِه وتنتقصُ من هَيبَته.

***

مُبتدأ الطريقِ أولها والمُنتهى آخرها، وبينهما مسافةٌ يقطعها المرءُ شاءَ أو أبى. قد تكون الطريقُ مُستقيمة، مباشرةً وقصيرةً، تصل بسالكها إلى الهدف في يُسر وسهولة، وقد تمتلئ بالمنحنيات وتعجُّ بالمفاجآت وتُعرِّض السائرين فيها لمخاطرٍ جَمَّة، ولا غرابة أن يمرَّ الواحد بفترات صَعبة، يتحرَّك في مَسارات أغلبها وَعر ولا يستقرّ على وَضْع. الحياةُ حركةٌ دائمةٌ، لا يَسلم من اهتزازاتها وانحرافاتِها بل ومنحنياتها المَصيريَّة؛ إلا مَن امتلك المَهارة اللازمة واستوْعَب المُتغيرات المُتعاقِبة، واستلهم الدروس ليصيغَ الواقع بما يُحقّق أهدافَه ويجعله آمنًا.

***

قد تلتوي الطريق في بعض الأماكن وتصبح غير مَأمونة العواقب؛ إذ يعجز المرءُ عن إبصار الأفقِ المُمتد وتتعطل حينها الرؤية الواضحة وتختفي بعض العلامات في الطيات والثنيات؛ فإذا ظهرت علامةٌ تحذّر السَّائقَ من مُنحنى قريب وتنصحه بالاحتراس والانتباه؛ كان عليه أن يُهدئ من سرعته وأن يتحكَّمَ جيدًا في المَقود.

***

المُنحنَى اسمُ مكان مُشتقّ من الفِعل انحنى، فاعله مُنحَنٍ والمصدر انحناء. تنحني ظهور الناس معظمهم في الكِبَر، بسبب استهلاك الجَّسد وإنهاكه على مدار السّنين؛ ذاك تغيُّر طبيعيٌّ تفرضُه حياةُ أغلبِ الناس بما فيها من عاداتٍ خاطئة ومُمارساتٍ مُرهِقة، أما عن الأعباء التي تثقلُ الكاهلَ وتقضُّ البالَ والخاطر؛ فلا ترتبط حصرًا بسنواتِ العمر. قد تشير القامةُ المَحنيةُ إلى ما حاقَ بالمَرءِ من ظلمٍ وجُور، أو لما آلمه من احتياج وسؤال، أو لما طال نفسه من ضعة وهوان، وعلى كلّ، هناك انحناءةٌ تعبّر عن الاحترام والتقدير، وأخرى تنمُّ عن ضآلة القَّدر وصِغَر القامة، وثالثة في سياق الطُّقوسِ الاعتيادية التي يُحيّي بها الأنداد من الناسِ بعضَهم بعضًا.

***

في الرُّسوم البيانية مُنحنياتٌ صَاعدة وهابطة؛ حركتها تمثيلاتُ لحقائقٍ وأرقام لا يترجمها الاتجاه وحده. قد يعطي الصُّعود مؤشرًا سيئًا وقد يرسمُ الهبوطُ مؤشرًا جيدًا والعكس صحيح، أما الفصلُ بين هذا وذاك فمعقودٌ على المحتوى؛ الفقر ما صَعد شرُّ مُستطير، والمَرضُ ما هبط به المُنحنى خيرٌ ورَحمة، والعبثُ كله في أن تقطعَ الإحصاءاتُ والمُقارناتُ بموقف كربٍ أكيد، بينما يعلن المسؤولون عظمةَ ما تحقَّق من إنجاز، ويُطلِق المُنتفعون آهاتِ الاستِحسَان والإعجاب، ويُحني المُرتعشون الرؤوسَ والأعناق؛ مُوافقين مؤيدين.

***

المُنتهَى نقيضُ المُبتدأ وهو اسمُ مكان من الفعلِ انتهى، الفاعلُ مُنتهٍ؛ بينما المَصدر انتهاء. المُنتهى في بعض الأحيان خيالٌ يُحَسُّ ولا يُرى. مُنتهى الأمل هو غايته، ومُنتهى الإصرار شِدَّته، ومُنتهى الحُبّ ذروته، ومُنتهى الانحطاطِ أسفلُ درجاته، أما إذا وَصل الرَّكب محطتَه الأخيرة؛ فختام الرحلة ومُنتهاها والمَوضِع المَقصود على الخريطة.

***

مُنتهى الشتاتِ الفلسطينيّ؛ عودةٌ مُنتصِرةٌ إلى الأرضِ المَسلوبة، ومُنتهى القَّهر في بقاع أخرى قريبة؛ ثأرٌ مُحققٌّ ينتزعه بأيديهم المَكلومُون، ومُنتهى البؤس والإفقار في ربوعٍ لم تكن يومًا ذليلة؛ انتفاضةُ غضبٍ وكرامةٍ، تُعيد الأمورَ إلى نصابِها وتضَع النقاط فوقَ الحروف.

إقرأ على موقع 180  المُجتَمَع

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
بسمة عبد العزيز

طبيبة وكاتبة مصرية

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  سلطنة عُمان: تحديات اجتماعية ومستقبل اقتصادي مبهم