على هذه الخلاصة تستقر شروحات رجل أعمال من إسلام آباد تتوزع أعماله بين الأقاليم الباكستانية كافة، ويشاركه آخرون في خلاصته العامة، سياسيون ومثقفون وضباط كبار متقاعدون، حيث طالت جلسة الحوار إلى ما بعد منتصف الليل في مدينة روالبندي العاصمة العسكرية لباكستان.

بعد انفضاض جلسة الحوار، كان للذاكرة أن تفعل أفعالها، فتستعيد المعارج والمسالك التي مرّت بها باكستان منذ نشوئها، فيتبين أن أخطر التحديات الوطنية التي واجهتها هذه الدولة (إذا استُثنيت الحروب مع الهند وأفغانستان) تتمثل في المرحلة التي تبوأ فيها الجنرال ضياء الحق مقاليد السياسة والأمن والدين، وذلك بين الأعوام 1977 و1988، إذ أن انتصاره لمدرسة فقهية (هي المدرسة الديوبندية التي ينتمي إليها مؤسس حركة “طالبان” الملا محمد عمر) على حساب مدارس أخرى، أنهض الهويات الفرعية النائمة وطرق أبواب صحوتها، إقليميًا وقوميًا ودينيًا.
وبالرجوع قليلًا إلى بداية انفصال باكستان عن الهند عام 1947، وذهابها إلى تشكيل الدولة ـ الأمة، لم يكن، على سبيل المثال، لأي فرد من باكستان ليسأل عن الهوية المذهبية لمحمد علي جناح (1876 ـ 1948) الإسماعيلي المذهب ومؤسس دولة باكستان ورئيس جمهوريتها الأول، وهو المعروف بـ”أبي الأمة” و”القائد الأعظم”.
الأمر ذاته ينسحب على أول وزير للخارجية الباكستانية، بل ألمع عقولها الدبلوماسية، محمد ظفرالله خان (1893 ـ 1985) وهو من أتباع الطائفة الأحمدية، الذي وقف في الجمعية العمومية للأمم المتحدة ليندد بقرار تقسيم فلسطين، مطالبًا الدول الغربية بفتح حدودها لاستقبال المهاجرين اليهود بدل العمل على تجميعهم في فلسطين وتشريد مليون عربي، وفي خطابه الشهير ذاك: “ليس في معاجم العدالة ما يفرض على شعب أن يوزع نفسه نفيًا وطردًا أو يُقسِّم أرضه قطعة إثر قطعة”.
وفي العام التالي على استقلال باكستان، ألقى ظفرالله خان خطابًا في غاية الأهمية في الأمم المتحدة عن قضية كشمير، ففي 17 كانون الثاني/يناير 1948، وقبل شرحه تفاصيل القضية، تطرق إلى الأسباب المؤدية إلى انفصال باكستان، وردّها إلى النظام الطبقي للديانة الهندوسية الذي لا يعترف بالعدالة والمساواة بين الطبقات الهندوسية ذاتها، فأتباع بعض طبقاتها يُحرمون الزواج من المصنفين في طبقات أدنى، ناهيك عن طبقة المنبوذين المرذولة من الطبقات الأعلى، فكيف يمكن للمسلمين أن يتعايشوا مع نظام طبقي كهذا، لا يساوي بين أتباعه ولا يتيح للطبقة السفلى أن تدخل معابد الطبقات العليا؟

الدولة الباكستانية الحديثة
في بداية نشوء الدولة الباكستانية كان مفهوم الإسلام الوطني وما فوق المذهبي قاعدة للدولة الحديثة في إطار المحافظة على الوحدة الكيانية لباكستان، ولم يكن هناك فروقات وتوترات ذات قيمة، فالجميع ركن للأفق الوطني الجامع، من دون أن يعني ذلك انعدام العمل في أطر ثقافية شملت المكوّنات كلها، وإنما من دون الوقوف في الاصطفاف المعارض للدولة، هكذا كانت الحال في الخمسينيات وما بعدها.
ففي عهد الجنرال محمد أيوب خان (1958 ـ 1968)، تقدم نموذج الدولة الحديثة بدرعها العسكري ليضبط الخطاب الديني مقابل توسيع الإطار العام للحياة الوطنية، مع الإدراك التام للمحافظة على الخطاب الديني في السياق الرمزي ومن ضمن أدبيات الدولة، وإنما من دون توتير وانقسام داخليين، وهذا ما أراح الملل والنحل الطائفية والدينية، خصوصًا بعد سنّه قوانين تُجرّم الكراهية المذهبية، وهذه ما يُتعارف عليه بالمرحلة البيضاء الممتدة حتى عام 1963، والتي ظهرت معها الجمعيات المعنية بالتعليم الديني وإقامة الشعائر، ولكن من دون الاقتراب من المجال السياسي.
وأما مرحلة يحيى خان (1969 ـ 1971) المتحدر من جذور صوفية قزلباشية (قزلباش: العمائم الحمراء) فشاع فيها الانفتاح، وأعقبه ذو الفقار علي بوتو صاحب نظرية الاشتراكية الإسلامية، وتميز عهده بطابع مدني توسعت فيه فكرة المواطنة، مما أوجد أجواء مريحة لمختلف الشرائح الباكستانية، حيث حاول بوتو استيعابها ضمن مشروع وطني عام وجامع، إلا أن هذا المشروع سقط مع الانقلاب الذي قاده الجنرال ضياء الحق على ذو الفقار علي بوتو في 5 تموز/يوليو 1977 وإعدامه في 4 نيسان/أبريل 1979.
تشكل مرحلة ضياء الحق مفصلًا هامًا في المسارين السياسي والاجتماعي في باكستان، ومثلما شهدت مرحلته إقصاء العمل السياسي والحزبي عبر إلغاء الأحزاب واحتكار السياسة، فقد أدى تبنيه المذهب الحنفي الديوبندي إلى إثارة أتباع المذهب الحنفي البريلوي وكذلك أهل التصوف، واشتدت الأمور تعقيدًا مع إنشائه مجلسًا فقهيًا أعلى مهمته تفسير الشريعة على الطريقة الديوبندية، وعلى نقيض الإسلام الوطني الذي شرع أسلافه بإعلاء شأنه منعًا للاستقطاب الداخلي، عمل ضياء الحق على إنتاج الاصطفاف العمودي من رأس الدولة إلى مختلف الشرائح الباكستانية، فخطابه الديني غدا محل انقسام وصراع تحولت معه باكستان إلى ميادين مواجهة وصدامات مسلحة وعمليات تفجير مذهبية، شرعت الأبواب لبروز خطاب الخوف على الوجود، ولم يؤدِّ رحيل ضياء الحق بالتفجير الغامض الذي أسقط طائرته في 19 ـ 8 ـ 1988 إلى تراجع الهواجس الوجودية، فآثار مرحلته بقيت ترافق المشهد الباكستاني حتى اللحظة.

هوية غير فئوية
في عقد الستينيات الماضي، وفي ظل الانفتاح العام الذي مارسته السلطات الباكستانية، برز اسم السيد محمد دهلوي الذي جمع حوله نخبة علمائية معتبرة دارت مطالبها في فضاء حرية الشعائر والتعليم الديني وإدارة الأوقاف الجعفرية، وأما السياسة فظلت بعيدة عن البال وعن الخاطر.
في أواخر السبعينيات من القرن العشرين، وكان الجنرال ضياء الحق قد استحوذ على السلطات كافة بما في ذلك سلطة التفسير الفقهي، برزت حركة “نفاذ الفقه الجعفري” بقيادة الشيخ مفتي جعفر حسين، وفي هذه المرحلة ارتفع مستوى المطالب من كونها مقتصرة على الجانب الشعائري والتعليمي إلى انخراطها في الإطار السياسي، كنوع من التعبير عن مواجهة سلطة ضياء الحق، وذلك بالتحالف المباشر أو غير المباشر مع قوى وأحزاب سياسية باكستانية استهدفتها إجراءات الحكم العسكري وسياساته الإقصائية.
وبعد مفتي جعفر حسين تولى السيد عارف الحسني زمام المطالب الجعفرية الفقهية والسياسية ضمن إطار يُعرف بـ”الحركة الجعفرية الباكستانية”، لكنه اغتيل في 5 ـ 8 ـ 1988 ليخلفه السيد ساجد علي نقوي قائدًا للحركة الإسلامية الباكستانية التي انتهجت سياسة براغماتية هادفة إلى التكيف مع الدولة والمجتمع، وربما قد يكون من الأنسب تعريف مسارات تلك المرحلة بأنها منبعثة من هواجس الأمن والتمثيل والهوية، وتلا ذلك انشطارات فكرية داخلية وتحولات إقليمية ودولية كان لها تداعياتها على الواقع الباكستاني بأطيافه كلها، وصولًا إلى عام 2009 حيث ظهر مجلس “وحدة المسلمين” متبنيًا خطابًا مدنيًا جامعًا بين المشروع الرسالي ومنطق الدولة، لكن ذلك لم يمنع بروز تشكيلات وأطر في الأقاليم الباكستانية الأخرى، لها واقعها التمثيلي والحضوري الكثيف، ومن هذا “التشتت” وُلدت فكرة “شورى علماء الجعفرية” كما يقول الشيخ هادي حسين الناصري.
ـ ولكن؛ ألا تخشون الاتهام بالمذهبية؟
ـ لا أبدًا.. إن “شورى علماء الجعفرية” تلتزم بإرساء مناخ وحدوي بين العلماء قائم على التعاون والأخوة الإيمانية، والابتعاد عن كل أشكال التجاذب والانقسام، وتعمل “الشورى” على تقديم خطاب ديني واعٍ ومتوازن.
ـ ما الأسباب المؤدية إلى تشكيل “الشورى”؟
ـ هناك أسباب متعددة، منها تراجع الثقة في الخطاب الديني نتيجة غياب التنسيق وتشتت المواقف العلمائية، ومحاولة توظيف الدين في الصراعات السياسية، وتماهي بعض الجهات الرسمية مع تيارات تكفيرية، ولذلك كان من الضروري إعادة تنظيم الجهد العلمائي بغية توحيد الكلمة في القضايا المصيرية.
ـ هل يمكن تلخيص الأهداف؟
ـ على رأس الأهداف وجود مظلة جامعة تضمن التشاور والتنسيق بين العلماء، ورعاية البحث العلمي وتطوير الخطاب الديني السليم بما يتلاءم مع حاجات الناس المعاصرة، وحماية العلماء من التورط في الصراعات الحزبية وترسيخ دورهم كصمام أمان ووحدة وإصلاح، ونشر روح الإسلام الأصيل الداعي إلى الوحدة والتآخي، وترسيخ روح الانتماء الوطني.
ـ لا تناقض بين الرسالية والوطنية؟
ـ لا تناقض أبدًا.. وهذا هو دورنا.
ـ في القضايا الخارجية أين أنتم؟
ـ فلسطين وكشمير في صدارة قضايانا واهتماماتنا.
ـ هل نلتقي قريبًا في إسلام آباد؟
ـ طبعًا.. وإلى لقاء قريب.
