كنا قد تطرقنا في مقالة سابقة، بعنوان: “لبنان: ثنائي أمل – حزب الله من التقرير والتعطيل إلى.. الفِرجة”، وبشكل مفصّل، إلى سلوك ثنائي حزب الله – حركة أمل لناحية انتخاب الرئيس جوزاف عون وخطاب القسم والبيان الوزاري وما تبعها من قرارات حكومية قضت بنزع الشرعية عن سلاح المقاومة.
يشي هذا السلوك ببراغماتية غير مألوفة مرّرت كل المحطات السالفة الذكر برغم قساوتها على الحزب تحديدًا وعلى جمهوره، لكن مع الأيام الأولى للعام الجديد، ثمة محطة مختلفة ينتظرها اللبنانيون، يمكن وصفها بالمصيرية، تصبح معها لجنة “الميكانيزم” هي الناظم لمسار الدولة على كامل الأراضي اللبنانية، من دون أن يكون لها أي مسوغ قانوني أو دستوري يتيح لها ممارسة هذه الصلاحيات، وهذه المحطة تتمثل في انتقال الجيش اللبناني إلى تنفيذ المرحلة الثانية من حصرية السلاح في منطقة ما بين النهرين (الليطاني والأولي)، في ضوء انتهاء معظم المرحلة الأولى (جنوب النهر).
ومنذ نيل لبنان استقلاله عام 1943، حتى يومنا هذا، لم يسبق أن شكلت نهاية عام وبداية عام جديد، لحظة مفصلية، تضع مستقبل البلاد والعباد على المحك، وينقسم حولها اللبنانيون عامودياً وأفقياً بشكل حاد جداً، ومترافقة مع احتمال توسع الحرب الإسرائيلية على هذا البلد الصغير، إذا لم يرضخ حزب الله لمعادلة تفكيك بنيته العسكرية شمال نهر الليطاني.
لقد اعتاد اللبنانيون أن يتحسبوا لاستحقاقات دستورية وسياسية من نوع آخر، من انتخابات رئاسة الجمهورية إلى الانتخابات البرلمانية وصولاً إلى تشكيل الحكومات. وغالبًا ما كانت تُرفع عصا التعطيل، بدل المساهمة في تمرير الاستحقاقات وفقاً للقواعد الدستورية ووثيقة الوفاق الوطني، كون عقلية الهيمنة والتفوق على الآخر “معشعشة” في عقولٍ لم تتعظ من ويلات حروب اكتوى اللبنانيون بنارها قتلاً وتهجيرًا وهجرة ودمارًا، برغم تشدق قادتهم الدائم بشعار “لا غالب ولا مغلوب”!
وإذا كان البعض لا يأبه لما يُهدّد لبنان، ولا ضير لديه من أن تكمل إسرائيل حربها على فئة من اللبنانيين، تريد الاحتفاظ بسلاح يحميها من شر عدو لا يفقه سوى لغة القتل والإجرام والتهجير والاحتلال والإحلال، فإن حزب الله يوشك على استنفاد كل جرعات البراغماتية التي استهلكها على مدار العام الآيل للأفول، وبالتالي لم يعد بمقدوره الاستمرار بهذا الطريق، بحيث وصل الموس إلى الرقبة، ذلك أن القبول بالمرحلة الثانية لنزع سلاحه، يعني أن يكون مقدمة طبيعية للمرحلتين التاليتين، الثالثة والرابعة، والمتعلقتين بالضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع على التوالي.
بمعنى آخر، يشكل الانتقال إلى شمال الليطاني بداية تفكيك البنية التحتية للحزب على كامل الأراضي اللبنانية؛ وذلك بالتوازي مع الحرب الاقتصادية والمالية التي تخاض ضده، والقاضية بتفكيك كل بنيته المالية والخدماتية.
وهنا يطرح سؤال جوهري، هل ثمة خيار ثالث يمكن أن تسلكه الدولة اللبنانية والحزب لتنجب تجرع كأس السم؟ الجواب: نعم.. إذن، كيف؟
ثمة ورقتا قوة يملكهما الشعب اللبناني: الوحدة الوطنية والسلاح، ولا يمكن لدولة لديها الجغرافيا السياسية للبنان، بأن تملك الحد الأدنى من السيادة والاستقلال بدونهما، وليس بالضرورة أن يبقى السلاح على ما هو عليه، إنما بأي شكل يريده اللبنانيون، شريطة ان يبقى بمقدور الدولة اتخاذ القرار السياسي في استخدامه ضمن استراتيجية دفاعية تحمي حقوق لبنان في البر والبحر والجو.
في الختام، وإلى كل من يستسهل قراءة وضع الدولة اللبنانية، ويقاربها من أزقتها الضيقة، عليه أن يعلم بأن الدولة لا تقرأ كجزيرة معزولة يعيش عليها جمع من الناس، إنما يجب أن تشمل القراءة الحدود السياسية (الجغرافية)، الاقتصادية، الأمنية والنفوذ.
