لم نشاهد على الشاشات في الأيام الأربعة الاولى للحراك الشعبي في ساحات بيروت والمناطق اللبنانية سوى صرخات الغضب والبؤس واليأس والفقر والقرف تقول بإطاحة كل هذا النظام ورموز مافيات السياسة والفساد. وهذا سلوك مفهومٌ بعد احتقان طويل في مواجهة عمليات الاذلال والاحتقار التي مارستها الحكومات المتعاقبة بحق اللبنانيين، الا ما ندر.
في اليوم الخامس لهذه الانتفاضة المهمة، بدأت الرؤيا تنقشع أكثر. انتقلت الشوارع من عمليات التحطيم ورمي حاويات النفايات واحراق الدواليب في اليوم الاول، الى تقديم عدد من الأفكار الضرورية لتصويب الحراك الشعبي. من هذه الأفكار مثلا: الغاء الطائفية، انتخابات نيابية مبكّرة خارج القيد الطائفي واصلاحات اقتصادية ومالية وإجتماعية بنيوية. كذلك راحت النخب القضائية والقانونية والسياسية تقدّم هنا وهناك أوراقا إصلاحية، بدلا من اقتصار الامر على الشتائم والقدح والذم والقول بأن الجميع فاسد وان “كلن يعني كلن”. فليست كل الأحزاب فاسدة في لبنان، ولا يمكن أن ينجح حراك بدون وطنية عميقة، ولا يجب سرقة غضب الناس ونقمتهم وتوجيهما صوب أحزاب أو تيارات أو شخصيات كانت السبب الأساس في ما وصلنا إليه.
تخللت انتفاضة اللبنانيين مشاهد غناء ورقص ودبكة وموسيقى. هذا يعكس جزءا من نزوع اللبنانيين الدائم نحو العض على الجرح واختراع وسائل للفرح والبهجة. لا بأس. لكن ثمة من أراد اختصار الحراك براقصة هنا وطبلة هناك. هذا ظلم للناس ولأسباب نزولهم الى الشارع، وهذا يشبه تماما محاولات اختراق الحراك ببعض “الزعران” الذين تبرأ منهم الجميع.
ليس الشارع فقط قوات لبنانية كما أراد البعض الإيحاء أمس حين هوجمت فتاة عبّرت عن رأيها برفع لافتة تقول “سمير جعجع صهيوني”، لكن الهجوم عليها طرح أسئلة حول سبب عدم الهجوم على من يشتم كل القيادات الأخرى بعبارات تخرج تماما عن نطاق الحراك السلمي والأخلاقي. هنا بالضبط صارت الأسئلة تُطرح عن الايادي التي تخترق الحراك، وعن طابور خامس، وعن انتهازيين. لكن كل ذلك لا يمنع أبدا أن حراك الناس مبني على الرغبة برفع الظلم والقهر والفساد والمحسوبيات والمحاصصة والطائفية البغيضة والاستزلام لعصابات ومافيات المال والفساد.
لم ينتبه كثيرون، ولا قرّر بعض الاعلام الانتباه الى أن في الشارع حركة يسارية صادقة وشريفة تختلف عن ذاك اليسار الذي صار هو الآخر جزءا من العصابة. فأن ينزل حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني، وأسامة سعد الأمين العام للتنظيم الشعبي الناصري، رافعين صوتهما بين المتظاهرين، فهذا حقهما الطبيعي، وهذا مكانهما وموقعها، لا بل موقعهما الوحيد، ذلك ان حنا غريب هذا النقابي العتيق كرّس حياته للشوارع والفقراء والموظفين وبُح صوته وهو يرفع المطالب التي نزل الناس الآن للدفاع عنها. ويسري الأمر على أسامة سعد نجل القيادي الشهيد معروف سعد وشقيق المناضل الراحل مصطفى سعد.
كم مرة، رفع الحزب الشيوعي اللبناني الصوت صارخا في برية مزرعة المافيات وغابات قتلة الشعب، ومناديا بضرورة الغاء الطائفية ووضع استراتيجية اقتصادية إجتماعية تحمي الفقراء وتحاسب أباطرة المال ومافيات السياسية؟ أليس من حق هذا الحزب اليوم أن ينزل بالآلاف الى الشوارع ويفرح بما يرى، اليس حقه أن يقول في بيانه:”ان ما يحدث هو تعبير حي عن استعداد الشعب اللبناني لفرض تغيير في تكوين السلطة وتداولها من جهة، وفرض سياسات اقتصادية اجتماعية جديدة لمصلحة العمال والموظفين والشباب والطلاب والحرفيين والفئات المتوسطة والفقيرة من جهة ثانية”؟
لا يمكن أن ينجح حراك، ولن ينجح أي حراك في لبنان، اذا كانت هويته غير وطنية، وهذا الحراك وطني بامتياز مهما سعى البعض لتشويه صورته
ومثل حنا غريب ورفاقه، هناك يساريون يحلمون بهذه اللحظة منذ عقود طويلة. هؤلاء لم يدخلوا في غابات الفساد ولم يقتلوا الشعارات على مزابل الطائفية ولم يحولوا القضايا الشريفة الى عاهرات عند أبواب الاثرياء. ومثل حنا غريب ورفاقه، هناك مفكّرون ووطنيون حقيقيون، ومقاومون صادقون بين المنتفضين، هدفهم حماية المقاومة أيضا، وعدم استغلال الحراك من قبل سفارات وأيادٍ خفية، ذلك ان لا مقاومة حقيقية بلا اصلاح جدي ومحاربة للفساد، ولا مقاومة بلا بعد وطني وعمق عربي.
لا يُمكن أن ينجح حراك، ولن ينجح أي حراك في لبنان، اذا كانت هويته غير وطنية، وهذا الحراك وطني بامتياز مهما سعى البعض لتشويه صورته، ومهما علت أصوات هنا وهناك تريد فتح أبواب الوطن واسعة لإسرائيل والأطلسي وغيرهما، فرفع علم إسرائيلي في تظاهرة خارج لبنان، لا يُمثل مطلقا الشرفاء اللبنانيين الذي نزلوا الى الشوارع ليقولوا أيضا ان سيادة لبنان واستقلاله الحقيقيين هما في صلب المطالب.
أتمنى أن نرى هذا اليسار والمقاومين والمفكرين والاقتصاديين الوطنيين مثل جورج قرم، شربل نحاس، حنا غريب، كمال حمدان وحسن مقلّد وغيرهم يقولون عبر الشاشات ما ينبغي قوله، لكي نفهم كيف سيتطور الحراك بعد ان عبّر الناس ولخمسة أيام متتالية عن غضبهم ونقمتهم بكل الوسائل على السلطة ولكن أيضا على الأحزاب والقيادات الفاسدة.