الإسلام السياسي السُّنِّيّ في لبنان.. التحديات الجديدة (1)

الإسلامُ السياسيُّ السُّنِّيّ ليس مجرد دعوةٍ دينيةٍ أو عقيدة، بل حركةٌ اجتماعيةٌ وسياسيةٌ واسعة. بدأت ملامحه الحديثة مع انهيار الدولة العثمانية وظهور الدول العربية الحديثة. في ذلك الوقت، واجه الإسلاميون سؤالًا أساسيًا: كيف يمكن دمج القيم الإسلامية في نظامٍ سياسيٍّ يعتمد على المواطنة والقوانين والمؤسسات؟

أصبح الصراع بين “الشرعية الدينية” و”الشرعية السياسية” من العناصر التأسيسية للإسلام السياسي في العالم العربي. أمّا في لبنان، فهو حالةٌ خاصةٌ، كونه يتفاعل مع نظامٍ طائفيٍّ يجعل الدين جزءًا رئيسيًا من الهوية السياسية. كان السُّنَّةُ اللبنانيون عمودًا أساسيًا في النظام السياسي، وشهدوا مراحل تراجعٍ في نفوذهم بعد الحرب الأهلية نتيجة عوامل داخلية وإقليمية. لذلك، برزت الحركات الإسلامية السُّنِّيَّة كأطرافٍ فاعلة في تنظيم الشأن الديني السُّنِّيّ في ظلّ تراجع دور الزعامات التقليدية. في هذا المقال وفي سلسلة المقالات التي ستليه، سنستعرض الخلفية العامة لهذه الحركة، مع التركيز على التغييرات الإقليمية الأخيرة والتحديات الداخلية، تمهيدًا لفهم التيارين الرئيسيين في لبنان. بعد ذلك نحاول تعريف القارىء على باقي الحركات التي تندرج في خانة الإسلام السياسيّ السنيّ في لبنان.

***

نشأ الإسلام السياسيّ السُّنِّيّ كمحاولةٍ لدمج القيم الدينية في السياسة الحديثة. وفي لبنان، يتخذ هذا المسار طابعًا مرتبطًا ببنية النظام الطائفي، حيث يتقاطع الاعتقاد بالمصلحة، والدين بالجغرافيا. يمنح النظامُ الطائفيُّ الدينَ مكانةً مؤسسية، لكنه لا يمنحه قوةً سياسية مباشرة، مما يضع الحركات الإسلامية أمام تحدّي التكيف مع الدولة. دراسةُ هذا الإسلام تبدأ بالجانب الفكري، ثم تتناول تاريخه في النظام اللبناني، مرورًا بالبنية الطائفية وصولًا إلى علاقاته الإقليمية والمحاور الجيوسياسية. وقد ازدادت أهمية هذه الحركة في السنوات الأخيرة نتيجة تحوّلين إقليميين مترابطين:

أولًا؛ سقوط نظام بشار الأسد في نهاية العام 2024، الأمر الذي أدى إلى إعادة رسم خريطة المنطقة، بما في ذلك انفتاح النظام السوري الجديد على الغرب والدول العربية. هذا الوضع غيّر موقع الجماعات اللبنانية المرتبطة بمحاور أخرى، ودفعها إلى إعادة النظر بدورها في المجال السُّنِّيّ المحلي.

ثانيًا؛ حرب “طوفان الأقصى” في خريف العام 2023، التي أعادت حضور الخطاب الإسلامي، وأعادت إحياء عناصر مرتبطة بـ”المقاومة” و”الهوية الدينية”، مما وضع الحركات السُّنِّيَّة اللبنانية أمام تحدي الجمع بين الالتزام بالعقيدة والتكيف مع الواقع العملي. في هذا السياق، تظهر مشكلةٌ مزدوجة، أزمةُ شرعيةٍ داخلية نتيجة تراجع القدرة على تمثيل “الطائفة كأمة”، إضافةً إلى صعوبة التكيف مع الدولة الطائفية التي تعطي الدين دورًا مؤسسيًا من دون سلطة تنفيذية مباشرة.

بالتوازي مع هذه التحديات الداخلية، طرأت تغييراتٌ على المشهد الإقليمي بعد حرب 7 أكتوبر 2023 وسقوط الأسد في 2024 أعادت ترتيبَ التحالفات التقليدية. فقد أبدت دول خليجية مواقف متحفظة تجاه أي مشروعٍ سُنِّيٍّ في لبنان يرتبط مباشرة بمحور إيران أو حزب الله (فضلاً عن الفيتو الصارم الموضوع على آل الحريري كبيت سياسي)، وهذا التغيير أبرز فرقًا بين خطابين: خطاب “المقاومة” الذي يرتبط في أذهان بعض الفاعلين بعلاقة تنظيمات إسلامية بإيران وبتدخل الأخيرة في الشؤون العربية، وخطاب “السيادة الوطنية” الذي يعتبر أن المساس بتلك السيادة مضرٌ بالأمن والإستقرار الإقليمي، ولو أنه يندرج في نهاية الأمر في سياق تموضع جديد، إقليمي ودولي.

في ظلّ هذه التغييرات، بدأ مركزُ الثقل الإقليمي يتحول، ما أدى إلى إعادة نظر في نموذجٍ قديم مثل “المقاومة–الوكالة”، الذي بات موضوعًا لتحليلٍ يتناول علاقته بتعقّد الصراعات الإقليمية ووضوح خطوط النفوذ. وفي المقابل، يبرز نموذج “المرونة السياسية”، الذي يعتمد على القدرة على الاستمرار وإعادة التشكيل والاستفادة من التناقضات بين الأطراف، لا على القوة العسكرية أو الأيديولوجيا الثابتة. وتتمثّل قوته في عدم الارتباط بمشاريع كبرى، برغم أن شرعيته تعتمد بشكلٍ أساسي على مدى قدرته على التكيف مع مصالح الحلفاء ومواجهة خصومهم. هذا الانتقال يُقرأ باعتباره تحوّلًا من مفهوم القوة الصلبة إلى مفهوم القوة الناعمة القائم على التكيف، ضمن مشهد سياسي عربي بات يعطي أهمية لإدارة الخلافات والسيادة الوطنية أكثر من الشعارات العقائدية. زدْ على ذلك أن المشهد السياسي العربي لم يعد يتعامل مع ثنائياتٍ تقليدية مثل علماني مقابل إسلامي، أو مقاوم مقابل معتدل، إذ تظهر تقييماتٌ جديدةٌ للفاعلين بناء على قدرتهم على “الاستفادة من الظروف” أكثر من “التمسك بالمبادئ”.

بناءً على ذلك، تسعى الدول الخليجية، في سياق إعادة تشكيل المنطقة جيوسياسيًا، إلى تعويم فاعلين ذوي مرونةٍ عالية وقدرةٍ على التكيف مع “الرؤية العربية الجديدة”، التي تجمع بين الدبلوماسية المفتوحة والحاجة إلى حلفاء محليين للاستقرار. ويبحث الخليج العربي الآن عن لاعبين محليين يمكنهم إعادة تشكيل الحضور السُّنِّيّ في دولٍ المنطقة في سياق مقارباتٍ تهدف إلى موازنة النفوذ الإيراني، بالاعتماد على أدواتٍ ناعمة لبناء الرأي العام والمؤسسات التعليمية والاجتماعية، من دون تحويل هذه الأدوات إلى أذرعة مسلحة. هذا ما يُفسّر ميل العواصم الخليجية إلى دعم الأطراف التي يمكن دمجها ضمن منظومة مصالحها، وتجنب تمويل مجموعاتٍ يُنظر إليها على أنها مرتبطةٌ ميدانيًا بطهران. في مثل هذه الظروف، تواجه الأحزاب الدينية العقائدية ذات الدعم الخارجي تحدياتٍ تتمثل في تراجع “الشرعية من الخارج” نتيجة تغيّر أولويات الرعاة، و”الشرعية الداخلية” نتيجة تحولات مجتمعاتها.

إقرأ على موقع 180  خروج إيران من حرب غزة.. الثمن اغتيالات من رئيسي إلى نصرالله (4)

في هذا السياق، تظهر فكرة “التكيف العملي” كأحد الخيارات الممكنة، إذ تتحول الأحزاب من الارتكاز على العقيدة الجامدة إلى العمل كمؤسسات؛ فالتكيف لا يعني الابتعاد عن الفكرة السياسية، بل تحويل العقيدة إلى إطار رمزيٍّ قابل للتوظيف. ويسهم ذلك في إعادة تعريف الحزب الديني العقائدي من خلال استيعاب الواقع وإنتاج رواياتٍ للشرعية، وتحويل النفوذ التقليدي إلى موارد اجتماعية داخل الدولة. أما الفشل في ذلك، فيقود إلى انكماشٍ أيديولوجي يظهر الحزب معه كجماعة رمزية أكثر منه فاعلًا سياسيًا.

في ختام هذه المقالة، تُبرز تجربة الإسلام السياسي السُّنِّيّ في لبنان أنّ القدرة على البقاء في ظل التغييرات يعتمد على المرونة المؤسسية لا الثبات العقائدي، وأنّ مستقبل هذه التجربة يرتبط بقدرة الأحزاب ذات الروابط الخارجية على بناء “عقلٍ عمليٍّ” يوازن بين الاستمرارية والفكرة، وبين التأثيرات الخارجية والحاجات المحلية.

هكذا، نكون أمام نموذج لإعادة إنتاج الأيديولوجيا في سياقٍ متحرك يعكس حدود الحركة في مساحة مجتمعٍ طائفيٍّ متنازع، ويفتح الباب أمام دراسة تيارين رئيسيين هما الجماعة الإسلامية وجمعية المشاريع الخيرية الإسلامية (الأحباش) كنموذجين مختلفين للاستمرارية والتموضع في عصر الفراغ السياسي والتحالفات الجديدة، حيث يُقدّمان خياراتٍ عملية للتعامل مع المشكلات الداخلية والإقليمية.

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  عندما يرحل الكبار.. سليم الحص نموذجاً