لا من حيث الزمان ولا من حيث المكان، لم يكن مقتل أبي بكر البغدادي زعيم تنظيم “داعش” متوقعاً بهذا الشكل. فقد قُتل البغدادي في زمن الانسحاب الأميركي من
سوريا، الذي اعتبره العددُ الأخير من صحيفة “النبأ” (التي تصدر عن ديوان الإعلام المركزي للتنظيم) بمثابة تعبير عن هزيمة القوات الأميركية وفرارها من المواجهة “اللامتناهية” مع التنظيم. أما المكان، فكان حيث لا يتوقعه أحد، في إدلب: معقل ألدّ خصوم البغدادي، وأكثر أعدائه اختلافاً معه وحقداً عليه، مثل “هيئة تحرير الشام” و”حراس الدين” المبايعة لتنظيم “القاعدة” العالمي.
لكنّ ضرورات القوى العظمى من جهة، وتناقضات وتقاطعات مصالح اللاعبين الرئيسيين من جهة ثانية، من شأنها – على ما يبدو – أن تجعل من ظرفي الزمان والمكان مجرد تفاصيل ثانوية لا تستحق التوقف عندها لدى رسم أقدار اللاعبين الصغار أو “المهزومين”. وهذا ما كان عليه حال البغدادي لحظة مقتله: لاعبٌ مهمّش يبحث عن دور مهما كان صغيراً، وقائدٌ مهزوم لا يريد أكثر من فسحة وقتٍ ومظلة أمانٍ، ولم يجد لأيٍّ من ذلك سبيلا.
مما لا شك فيه أن النسبة العظمى من أسهم العملية وإيراداتها ستصب بشكل خاص في جيب ترامب، الذي سيكون الرابح شبه الوحيد
قد يكون مقتل البغدادي في هذه الظروف مجرد ورقة رفعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بهدف الابهار الإعلامي ومحاولة التغطية على الأزمات الداخلية التي يتعرض لها مثل إجراءات عزله، والحملة الرافضة لقراره سحب القوات الأميركية من شمال سوريا. لكنها أيضاً قد تكون حلقة من حلقات سلسلة الذرائع التي يسعى ترامب لبنائها من أجل مواجهة ذرائع البنتاغون التي تضطره في كل مرة إلى التراجع عن قرار الانسحاب الشامل والرضوخ لإرادة الدولة العميقة القاضية بإبقاء جزء من القوات في سوريا لتحقيق أهداف وسياسات لا يرى ترامب فائدةً من ورائها.
وبرغم أن عدداً لا يستهان به من اللاعبين والأطراف سيعمل على شراء ولو سهمٍ صغير في عملية مقتل البغدادي بغية استثماره في مواجهة ضغوط داخلية أو خارجية يتعرض لها كتركيا والعراق وقوات “قسد” الكردية (قوات سوريا الديموقراطية)، فإنّ مما لا شك فيه أن النسبة العظمى من أسهم العملية وإيراداتها ستصب بشكل خاص في جيب ترامب، الذي سيكون الرابح شبه الوحيد.
ومن نافلة القول أنه لن يكون ثمّة خاسر، بالمعنى الحرفي للكلمة، جراء التخلص من أخطر إرهابي على وجه الأرض حاليا. غير أن ذلك لا يمنع من طرح تساؤلات حول الدور الروسي وسبب عجزه عن القيام بعمليات استخبارية نوعية مماثلة، سواء ضد تنظيم “داعش” أو ضد تنظيمات أخرى مثل “جبهة النصرة” ومتزعمها أبو محمد الجولاني. إذ أنه وبرغم النفوذ الواسع للقوات الروسية في غرب سوريا، والمظلة الجوية التي تحظى بها، إضافة إلى قدراتها الاستخبارية، فإن واشنطن أثبتت أن لها اليد الطولى في مثل هذه الاستهدافات الدقيقة، وهنا ربما تكون شبهة خسارة ستصيب الجانب الروسي ولو على الصعيدين الإعلامي والمعنوي.
أمّا بالنسبة لتنظيم الدولة نفسه، ومدى انعكاس عملية اغتيال البغدادي على بنيته ومستقبله، فمن غير الواضح حتى الآن كيف سيكون هذا الانعكاس، وهل سيؤثر سلباً أم ربما سيمرّ كما مرّ من قبله مقتل قادة التنظيم من أبي مصعب الزرقاوي إلى أبي عمر البغدادي.
ليس ثمة شكّ في أن هذه البنية الصلبة لتنظيم “داعش” وهيكليتها وديمومتها لن تتأثر كثيراً بغياب البغدادي
ويمكن هنا التمييز بين جانبين: الأول يتعلق بتأثير مقتل البغدادي على ارتباط الفروع الخارجية بالتنظيم، وهل ستجدد بعض الولايات مثل ولاية سيناء في مصر أو غرب أفريقيا في نيجيريا أو فروعه في كل من ليبيا واليمن والصحراء الكبرى، بيعتها للزعيم الجديد الذي سيخلف البغدادي أم سيكون غياب الأخير فرصة لبعض الولايات والفروع لتختار لنفسها مساراً مختلفاً؟.
أما الثاني، فيرتبط ببنية التنظيم الصلبة في كل من سوريا والعراق، ومدى تأثرها بمقتل زعيمها. الأمر هنا مختلف، إذ ليس ثمة شكّ في أن هذه البنية الصلبة لتنظيم “داعش” وهيكليتها وديمومتها لن تتأثر كثيراً بغياب البغدادي، إذا استثنينا طبعاً التأثيرات المعنوية والرمزية. وسبب ذلك أن تنظيم داعش سبق له أن أخذ العبرة من مقتل زعيمه السابق أبي مصعب الزرقاوي، ووضع جملة من الإجراءات لمنع اهتزاز التنظيم عند فقدان قيادته. وأهم هذه الإجراءات تعيين نائب للخليفة يتولى قيادة التنظيم مباشرة عند حدوث أي عارض يمنع الخليفة من ذلك بما فيها الاغتيال، وذلك لعدم حدوث فراغ. كما تم تشكيل ما يسمى “اللجنة المفوضة” وهي مؤسسة تتولى إدارة التنظيم على الأرض بعد أن فقد سمته المركزية، وبالتالي يمكن للتنظيم أن يستمر دون أن يشعر بغياب قائده المركزي. وليس ذلك من باب الترخيص بالبغدادي وقيمته الرمزية والمعنوية داخل التنظيم، بل من باب التأكيد على أن التنظيمات الجهادية تحاول أن تتعلم من تجاربها السابقة وأن تتأقلم مع مختلف الظروف التي تمر بها.
كيف يمكن لرجل قابع سراً في أرض خصومه وليس بينه وبين أنصاره أيُّ ارتباط جغرافي أو حتى أيُّ تواصل عبر التقنيات الحديثة، أن يدير عمل خلايا تترامى أطرافها من سوريا والعراق إلى شمال أفريقيا؟
وربما أن مشهد التنظيم ليلة مقتل البغدادي يعطينا صورة واضحة عن علاقة “الخليفة” بإدارة التنظيم على الأرض، إذ كيف يمكن لرجل قابع سراً في أرض خصومه وليس بينه وبين أنصاره أيُّ ارتباط جغرافي أو حتى أيُّ تواصل عبر التقنيات الحديثة، أن يدير عمل خلايا تترامى أطرافها من سوريا والعراق إلى شمال أفريقيا؟.
وهنا قد يكون السر الوحيد الذي يحتاج للبحث عنه وكشف خفاياه هو لماذا كان البغدادي متواجداً في إدلب لحظة مقتله؟ ومنذ متى جاء إلى أرض خصومه وأعدائه؟ وكيف وصل إلى هناك؟.
قد لا يكون هناك جواب جاهز عن هذه التساؤلات يشفي غليل الباحث، لكن ثمة معطيات من شأنها أن تلقي بعض الأضواء على خفايا هذه الأسرار.
ففي 25 آذار/مارس 2019 بعد انتهاء معركة الباغوز، أعلن نوري محمود المتحدث الرسمي باسم “قسد” أن “قوات سوريا الديمقراطية، لم تتمكن من العثور على زعيم تنظيم “الدولة” وقيادات التنظيم في قرية الباغوز”. وادعى محمود أن المعلومات الحالية تفيد بأن زعيم التنظيم “أبو بكر البغدادي” قد هرب إلى محافظة إدلب في شمال سوريا. في حينه، لم تؤخذ هذه المعلومات على محمل الجد، وثمة من اعتقد أن “قسد” كانت تحاول إيجاد ذريعة كي تقحم نفسها في التنافس الذي كان محتدماً على محافظة إدلب.
وفي تموز /يوليو الماضي وتحديداً في الثامن عشر منه، أعلنت “هيئة تحرير الشام” عن إلقاء القبض على العراقي أبو عبداللطيف جبوري في دارة عزة شمال حلب، وجبوري كان يُعرف على أنه المرافق الشخصي لأبي بكر البغدادي. وعليه، يمكن ترجيح أن جبوري لم يكن وحده في التوجه إلى شمال حلب، وأن البغدادي ربما كان برفقته أو لعله لحق به بعد أن أمّن له الأولُ الطريق ومكان الإقامة.
والمعطى الثالث، قد يكون غير مباشر، لكن دلالاته واضحة. ففي آخر تسجيل صوتي للبغدادي، في أيلول الماضي، كان لافتاً للنظر مدى التغيير الذي طرأ على خطابه إزاء خصومه العقائديين، إذ في حين كان طوال سنوات حكمه، يستسهل اتهامهم بالردة والمطالبة بإزهاق أرواحهم، نجده في الخطاب الأخير أصبح أكثر مرونة وبات يتحدث عن ضرورة استتابتهم وإيجاد المبررات لهم بسبب شيوع الجهل و”بعدهم عن الدعوة”.
وعليه يمكن أن يكون البغدادي في ظل الهزائم التي تعرض لها، قد توصل إلى قناعة بأنه لا فائدة من فتح جبهات مع كافة التنظيمات على الأرض وأن الأفضل احتواء الخلافات من أجل تركيز الجهود على إعادة هيكلة تنظيمه والتفرغ للعمليات ضد “العدو البعيد”. وربما قد تكون غاية البغدادي هي العمل على إيجاد موطىء قدم له في إدلب من أجل بناء نفوذ جديد في منطقة مرشحة لمروحة واسعة من الاحتمالات بما فيها الفوضى.
لكن يبقى الاحتمال الأكثر رجحاناً أن البغدادي لم يقصد إدلب إلا لتكون محطة أولية له قبل أن يجد طريق الهروب إلى خارج المنطقة، بحيث يتوجه إلى دولة أخرى يكون للتنظيم فيها ثقل كبير مثل أفغانستان ونيجيريا وربما غيرها من الدول التي للتنظيم تواجد فيها.
مهما يكن، فإن صفحة البغدادي قد طويت للأبد، وربما سينتظر العالم اسم من سيخلفه على زعامة التنظيم لقراءة التغييرات التي يمكن أن تطرأ عليه وما هي توجهات “داعش” الجديدة، وهل سيركز على سوريا والعراق أم سينقل اهتمامه إلى مناطق أخرى من العالم؟.