الحسابات المالية اللبنانية: “تدقيق” برلماني أم جنائي؟

علي نورعلي نور25/07/2020
تكمن أهميّة قطوعات الحساب في ميزانية أية دولة في العالم في أنها تقدم حساباً دقيقاً لوجهة الإنفاق وما إذا كانت قد تضمنت أية مخالفات، وذلك حتى يبنى على الشيء مقتضاه سواء في الميزانية المقبلة، أو التدقيق في المخالفات السابقة.

منذ أكثر من سنة وأربعة أشهر، أحالت وزارة الماليّة تفاصيل الحسابات الماليّة للأعوام الممتدة بين 1997 و2017 إلى ديوان المحاسبة، بعد رحلة سنوات غرق فيها الموظفون في دهاليز الوزارة ودفاترها نصف التالفة، ولاحقوا فيها أرقام مصرف لبنان والهيئات الرسميّة الأخرى لمطابقتها بالأرقام المتوفّرة لديهم. في تلك الرحلة، تعذّر على وزارة الماليّة إعداد الحسابات الماليّة للأعوام السابقة، وتحديداً السنوات الممتدة بين 1993 و1996، نظراً إلى فقدان وتلف الوثائق المتعلّقة بحسابات تلك السنوات، بالإضافة إلى صعوبات محاسبيّة وتقنيّة، ولذلك تحوّلت سنة 1997 إلى السنة الأساس التي جرى إعتمادها لمراجعة الحسابات الماليّة للسنوات اللاحقة.

ولذلك، وبعد إنجاز تقرير قطع حساب الموازنة للعام 1997، من المتوقّع أن يلي ذلك إنجاز لقطوعات الحساب للأعوام اللاحقة، وصولاً إلى سنة 2016، علماً أن قطع الحساب للعام 2017 أنجز سابقاً لتمكين المجلس النيابي من إعداد موازنة 2018 على أساسها. أما أهميّة قطوعات الحساب هذه، فتكمن في إعطاء صورة عن وجهة الإنفاق في السنوات هذه، والمخالفات التي إنطوت عليها الحسابات الماليّة في ذلك الوقت. فمشروع الموازنة العامّة يمثّل عادةً خطة الإنفاق المستقبليّة للحكومة، أي للسنة اللاحقة، فيما يمثّل قطع الحساب مراجعة للحسابات الماليّة والإنفاق الذي حصل بالفعل، وهو ما يجعله نقطة البداية لأي مشروع يستهدف محاسبة المسؤولين عن الإنفاق في تلك السنوات.

تجاوزات بالجملة

يعدّد تقرير ديوان المحاسبة، جملة من التجاوزات في العمليات الماليّة التي جرت في سنة 2017، بالإضافة إلى طريقة تسجيل وتوثيق هذه النفقات. من بين تلك التجاوزات مثلاً، تحميل ميزانيّة الدولة مبالغ مصروفة “لا تستقيم مع مبدأ حفظ الحق العام”، كتقديم هدايا وإكراميات للصحافيين، ودفع بدل أجور خدم وسائقين ومرافقين أمنيين. كما يذكر التقرير وجود نفقات مسجّلة في الحسابات دون أن يتم إرفاقها بالمستندات والفواتير النظاميّة التي تثبت وجهة إنفاق هذه المبالغ، أو وجود تحويلات غير مرفقة بقرار مجلس الوزراء أو قرارات التخمين التي جرت على أساسها هذه العمليات. أما بعض التحويلات التي جرت لقاء شراء موجودات معيّنة، فلا يوجد مقابلها أي عقود توريد أو محاضر إستلام أو دفاتر شروط، لتوثيق وجهة وطريقة إستعمالها.

في أماكن أخرى، يبدو أن ثمّة مخالفات تتعلّق بمخالفة قانون المحاسبة العموميّة، وتحديداً في ما يتعلّق بتكليف موظّفين بمهام معيّنة قبل توفير الإعتمادات اللازمة لها من قبل وزارة الماليّة، أو الإستفادة من خدمات أو منتجات المورّدين قبل تنظيم الإتفاقيات معهم وحجز الأموال اللازمة للدفع. وهذا النوع من الممارسات يؤدي إلى تحميل الدولة مخاطر الإنفاق دون توفّر الإعتمادات الكافيّة لذلك. كما يشير التقرير إلى مخالفات أخرى من قبيل تنفيذ مشاريع معيّنة قبل الإستحصال على موافقة ديوان المحاسبة المسبقة.

هذه التجاوزات في أوجه الإنفاق وطريقة تسجيل العمليّات، توازيها تجاوزات أخرى في تنظيم عمليات تسجيل الواردات المحققة، مثل عدم التمكّن من مطابقة الواردات المحققة من رسوم التبغ والتنباك ببيانات إدارة الجمارك وإدارة التبغ والتنباك، كون الإدارتين لم تقوما بإرسال بياناتهما هذه إلى وزارة الماليّة. الأمر نفسه يتكرر في فقرات أخرى، مثل الرسوم على  المشروبات غير الكحوليّة، حيث تعذّر مطابقة الرسوم المحققة مع البيان السنوي لمديريّة الواردات، كون الإدارات المعنيّة لم ترسل هذه البيانات التي تسمح بإجراء التحقق هذا. أما في ما يتعلّق بالرسوم العقاريّة، فجرى الإعتماد على سجل الواردات التي تمكّنت مديريّة الخزينة من تحصيلها، لتسجيلها على أنها واردات محققة، من دون أن يتم مطابقة هذه الواردات مع بيانات الدوائر العقاريّة للتحقق منها.

هذا النوع من التدقيق، يمكن أن يبقى بمنأى عن التدخلات السياسيّة التي يمكن أن تحدث في لجان التحقيق البرلمانيّة، على الأقل في مرحلة الإستقصاء وجمع المعلومات وتوزيع المسؤوليّات، على أمل توفّر الظروف السياسيّة الملائمة للمحاسبة يوماً ما.. والأهم إبعاد الملف عن التجاذبات والحسابات الطائفية والمذهبية والسياسية

بإختصار، كان هذا النمط من العمليات يعني ببساطة عدم تمكين الإدارة الضريبيّة من التحقق من قيمة الواردات المستحقة لصالح الدولة، والتأكّد من أن الواردات التي تمكّنت الإدارة الضريبيّة من تحقيقها تمثّل فعلاً الواردات المستحقّة لصالح الخزينة. ولذلك، تبيّن لاحقاً أن حوالي نصف الرسوم المستحقة لصالح الخزينة من بعض البنود كانت عمليّاً رسوماً غير محصّلة، كرسم الإنتقال الذي تعذّر على الدولة جباية نصف القيمة المستحقّة منه، أي حوالي ال46 مليار ليرة لبنانيّة (في سنة واحدة)، فيما لم تتمكّن مديريّة الواردات من مطابقة المبالغ التي جرى تدويرها للعام التالي كون الإدارات المعنيّة لم ترسل هذه المستندات إلى مديريّة الواردات!

فجوة الأعوام الأربعة السابقة

ثمّة سجل طويل من المخالفات يعددها التقرير بالنسبة إلى العام 1997، لكنّ الإشكاليّة الأكبر تكمن هنا في ما يتعلّق بالأعوام الأربعة التي سبقت هذا العام. فعمليّاً، يشير التقرير إلى عدم تلقّي ديوان المحاسبة الحسابات الماليّة لتلك الأعوام من وزارة الماليّة، وقد فنّدت الوزارة الأسباب التي تمنعها اليوم من إعداد هذه الحسابات. فأرقام العمليّات لهذه الأعوام لا يمكن تبنّيها، بالنظر إلى عدم وجود أي مستندات تبرّرها أو تثبت صحّتها. كما أن تسجيل هذه العمليات لم يكن ممكنا في ذلك الوقت، وهو ما دفع بفريق وزارة الماليّة إلى العودة إلى المستندات الورقيّة الموجودة، والتي كانت بمعظمها تالفة نتيجة عدم تخزينها بطريقة صحيحة. مع العلم أن المستندات التالفة لم تكن كافية أيضاً، بالنظر إلى تضرر جزء كبير منها نتيجة الحريق الذي أصاب دائرة المحاسبة وتتابع نقل الوثائق من مكان لآخر.

إقرأ على موقع 180  معنى البرنامج السياسي ومهام المرحلة.. لبنانياً (1)

وبالإضافة إلى كل ذلك، يشير التقرير إلى وجود إشكاليّات ذات طابع تقني محاسبي، كعدم وجود ميزان الدخول للعام 1993، ووجود حسابات تخالف أرصدتها طبيعتها الدائنة أو المدينة بسبب تصفير ميزان الدخول، أي الرصيد الذي ينطلق منه تسجيل هذه الحسابات، وعدم وجود أي عمليّات تدقيق محاسبيّة لهذه الأرصدة. أما الأهم، فهو أنه في العام 1996، تبين وجود ميزانين للخروج بأرقام مختلفة ومتضاربة، وكلا الميزانين لا يتطابقان مع ميزان الدخول الممكن للعام اللاحق، الذي أنجز الديوان قطع حسابه في التقرير الأخير.

ما يعنيه كل ذلك هو أن هناك أربعة أعوام سيستحيل إنجاز قطوعات حساباتها، أو إجراء أي تدقيق في عمليّاتها الماليّة وأوجه الجباية والإنفاق فيها. بمعنى آخر، ثمّة فجوة في حسابات الجمهوريّة اللبنانيّة ستظل قائمة لهذه الأعوام الأربعة، وثمّة مستفيدين من التجاوزات التي حصلت سيظلّون بمنأى عن المحاسبة.

المحاسبة الممكنة

إنجاز قطع الحساب للعام 1997 سيعني إنطلاق قاطرة إنجاز قطوعات الحساب للأعوام اللاحقة، خصوصاً أن ديوان المحاسبة أنجز بذلك الحسابات الماليّة للسنة الأساسية التي يمكن على أساسها الإنطلاق لإعادة تكوين حسابات الأعوام المقبلة. وعمليّاً سيعني ذلك وجود أرقام يمكن الإستناد إليها يوماً ما لتدقيق حسابات الدولة الماليّة للمراحل السابقة، وإن أعاقت الحسابات السياسيّة القيام بعمليّة المحاسبة هذه على المدى القصير.

بالتأكيد، ثمّة من سيراهن على مبدأ مرور الزمن، في محاولة لتجاوز مسألة المحاسبة بخصوص الحسابات الماليّة لتلك الأعوام، خصوصاً أننا نتحدث عن عمليّة قطع حسابات جرت بعد مرور أكثر من 23 سنة على حصول عمليات الإنفاق والجباية. لكنّ المخالفات التي نتحدّث عنها تتعلّق بفجوات موجودة في حسابات الدولة الماليّة، وهي فجوات ظلّ أثرها على مدى الأعوام اللاحقة حتّى العام 2017، الذي أنجز ديوان المحاسبة حساباته الماليّة. بمعنى آخر، فإن أثر العمل الجرمي الذي نتحدّث عنه لم ينقضي بإنقضاء تلك الأعوام.

عمليّاً، تسلّم رئيس المجلس النيابي تقرير ديوان المحاسبة، وطلب من الأمانة العامّة للمجلس إحالة التقرير إلى المجلس ليصار إلى توزيعه على النواب وإجراء المقتضى لاحقاً. هذا المسار يفتح الباب اليوم أمام عدّة سيناريوهات، من قبيل تشكيل لجنة تحقيق برلمانيّة للنظر في ملف هذه الحسابات، خصوصاً مع الإصرار الذي تبديه لجنة المال والموازنة على المضي قدماً في تشريح هذه الأرقام ومحاسبة المسؤولين عن هذه التجاوزات. لكنّ التجربة تقول أيضاً، أن هذا النوع من الخطوات الكبيرة، لا يمكن تحقيقه دون توفير إجماع سياسي معيّن داخل المجلس النيابي، تماماً كما جرى حين أقدمت لجنة تقصّي الحقائق على الدخول في مسار مراجعة أرقام خطّة الحكومة. مع العلم أن أبرز المعنيين بهذا الملف، هو رئيس الحكومة الأسبق ووزير المال الأسبق فؤاد السنيورة، حظي بغطاء سياسي مذهبي لافت للإنتباه في عدّة محطّات، حين وصل السجال إلى مرحلة فتح ملف حسابات الدولة الماليّة العائدة للأعوام التي تولّى فيها مسؤوليّة وزارة المال. ولذلك، ثمّة من يخشى اليوم دخول هذا الملف في معمعة المقايضات والتسويات السياسيّة.

وهنا، تطرح سيناريوهات أخرى، من قبيل تكليف شركات تحقيق جنائي للنظر في أمر هذه الحسابات، خصوصاً أن النائب حسن فضل الله، الذي لعب دوراً كبيراً في متابعة مسار إعادة تكوين هذه الحسابات، منذ سنوات حتى الآن، أبدى تأييده لإطلاق مسار من التدقيق الجنائي في جميع مؤسسات الدولة، على النحو الذي أطلقت فيه الحكومة مسار التدقيق الجنائي في ميزانيات المصرف المركزي. هذا النوع من التدقيق، يمكن أن يبقى بمنأى عن التدخلات السياسيّة التي يمكن أن تحدث في لجان التحقيق البرلمانيّة، على الأقل في مرحلة الإستقصاء وجمع المعلومات وتوزيع المسؤوليّات، على أمل توفّر الظروف السياسيّة الملائمة للمحاسبة يوماً ما.. والأهم إبعاد الملف عن التجاذبات والحسابات الطائفية والمذهبية والسياسية.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  لبنان وسوريا.. وملهاة "غودو الإقتصادي" الذي لن يأتي