إحتل العراق في العقود الأخيرة من عمر الهيمنة الغربية على المنطقة موقعاً حيوياً في تكوين خرائط الاستراتيجيات الغربية الجديدة التي رسمت للمنطقة، بسبب عدة عوامل تمنحه خصوصية وتفرداً من أهمها، عمقه الحضاري، وموقعه الجيوسياسي كبوابة رئيسية بين البحر الأبيض المتوسط، من جهة، والهضبة الإيرانية التي تصل بحدودها إلى شبه القارة الهندية والإمبراطورية الصينية وآسيا الوسطى وامتدادها إلى روسيا، من جهة ثانية، بالإضافة الى ما تحمل هذه العوامل التي تميزه من تهديدات بقواه الكامنة، إذا ما إستطاع أن يتواصل مع عمقه السوري الذي لا يستطيع الاستغناء عنه، مثلما هو الحال بالنسبة الى سوريا وعمقها العراقي الضروري.
وما زاد من أهمية العراق في خرائط الاستراتيجيات، منذ مطلع القرن الماضي، إكتشافات حوامل الطاقة الغنية، السهلة الاستخراج وقليلة التكلفة، ما دفع بريطانيا الى احتلاله في العام 1914 في إطار مشاريعها الاستعمارية التوسعية بعد سيطرتها على القارة الهندية. وعلى الرغم من إستقلال العراق فيما بعد، إلا أن الاستهداف الغربي له بقي مستمراً، إلى أن عاد من جديد بشكل مباشر في العام 2003 عقب الغزو الذي نفذته الولايات المتحدة، التي مهدت لهذه الخطوة باحتلال أفغانستان، وبذلك تكون الاستراتيجية الغربية قد حققت هدفاً أساسياً لها، وهو تقطيع قارة آسيا إلى ثلاث مجموعات معزولة عن بعضها البعض.
من خلال إحتلالها أفغانستان، وهيمنها على سياسات باكستان، فصلت الولايات المتحدة كلا من الهند والصين عن غرب آسيا، ومنعت التواصل مع روسيا وآسيا الوسطى. ومن خلال العراق، إستطاعت الولايات المتحدة أن تفصل الهضبة الإيرانية عن البحر الأبيض المتوسط، وأفقدت سوريا عمقها الحضاري والتاريخي.
لا بد من خطوات غير عسكرية تتيح للعراق أن يستعيد قراره السياسي، وهذا لن يتحقق إلا بالعودة إلى قارة آسيا
الفاعلون الثلاثة
وقد ساهمت الهيمنة الغربية المطلقة على كل مقدرات دول الخليج في تعزيز مخططاتها في غرب آسيا بالتآزر مع العامل الإسرائيلي النشط.
وعلى الرغم من كل السياسات الغربية لمنع القوى الآسيوية التي تشكل بإمكانياتها الصاعدة تهديداً لمركز الهيمنة الغربية، فإن ثلاث قوى أساسية، هي روسيا والصين وإيران، إستطاعت أن تتجاوز معظم العقبات التي عملت عليها الاستراتيجيات الغربية هذه.
وقد شكل الفاعل الإيراني دوراً أساسياً في المواجهة العسكرية مع المشروع الغربي في أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين وسوريا واليمن. وإستطاع هذا الفاعل أن يحقق إنجازات كبيرة مع حلفائه في هذه الدول.
ولكن، وعلى الرغم من نجاح إيران مع حلفائها في العراق، في إخراج القوات العسكرية الأميركية من هذا البلد، فإن طبيعة النظام السياسي في العراق، والذي يعتمد على المحاصصة، جعل من العراق خاصرة رخوة لإيران، وتهديداً مستمراً لقطع التواصل مع العمق السوري، فنشأت تهديدات متلاحقة، ابتداء من العملية السياسية، وصولا ً إلى تشكيل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي إجتاح ما يقارب ثلثي مساحة العراق وسوريا، وهذا ما دفع بإيران وحلفائها العراقيين الى التصدي للمشروع الغربي، وتحويله من تهديد إلى فرصة، والعمل على إخراج العراق من منطقة الهيمنة الغربية.
إستطاع الفاعل الإيراني مع حلفائه مجتمعين تحقيق إنجازات كبيرة. لكن هذا لا يكفي، فلا بد من خطوات غير عسكرية تتيح للعراق أن يستعيد قراره السياسي، وهذا لن يتحقق إلا بالعودة إلى قارة آسيا كجزء متكامل مع المشروع الناهض لآسيا. بناء عليه، اتخذ رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي مجموعة من الخطوات المستفزة للولايات المتحدة، وهي زيارته إلى الصين، والتوقيع على إتفاقيات ضخمة بعشرات المليارات من الدولارات لإعادة بناء وتطوير البنية التحتية للعراق، ثم إعادة هيكلة الحشد الشعبي، وتأمين الحماية القانونية له، وإعلانه عن مسؤولية إسرائيل عن الهجمات ضد قوات الحشد في العراق وعلى الحدود السورية العراقية.
أتبع عبد المهدي ذلك قراره بفتح حدود العراق مع سوريا، وهذا ما أشعر واشنطن بالتهديد الكبير جراء خروجها المحتم من العراق وسوريا والخليج. وقد ترافق كل ذلك مع فشل الحرب السعودية في اليمن، وإضطرار الرياض للبحث عن خروج من اليمن يحفظ ماء وجهها، وهي تحتاج لورقة تفاوض إيران بها، وليس هناك سوى العراق الهش، فكان لا بد من الإستثمار في حراك جموع العراقيين المظلومين بفعل الفساد المستشري، وهذا ما حصل في الأسابيع الأخيرة، ولذلك فإن المضمون الأساس لهذا الحراك من حيث الأهداف والنتائج لا ينفصل عن خيارات معركة غرب آسيا، برغم المضمون الإجتماعي المحق للحراك الشعبي، ناهيك عن واقع الفساد المستشري هناك.
معركة العراق لا تنفصل عن معارك غرب آسيا التي تشتد أوزارها في كل مناطقها
أين أصبحنا الآن؟
تتجه ملامح منطقة غرب آسيا إلى مزيد من إنقشاع الضباب الذي سيطر عليها لما يقارب التسع سنوات من الحروب المتواصلة فيها.
ففي العراق الذي لم يخرج بعد من أزمته الحالية، هناك مجموعة عوامل تلعب دوراً أساسياً لكسر الحراك الأميركي ـ السعودي فيه، وخاصةً بعد تبني المرجعية الدينية مضمون الحراك وكذلك إستمرار السلطة السياسية الحالية، شرط قيامها بإجراءات اصلاحية، وهي بالتالي تحوّل التهديدات إلى فرصة لإعادة البناء الداخلي.
ويبدو أن السعودية إتخذت القرار بالخروج من ورطتها اليمنية، وجُلّ ما تبحث عنه هو حفظ ماء الوجه بعدما بات واضحاً أنها تفقد ورقة الضغط العراقية، وهي بالتالي ستخرج من منطقة شرق الفرات في سوريا التي تسللت إليها للضغط على تركيا ومواجهة إيران في سوريا والعراق، وستبحث عن الدخول إليها من باب دمشق الرسمي، التي لن تفتح الباب إلا بشروط، وخاصة بعد بدء الانسحاب الأميركي من مناطق واسعة من الشمال السوري مع إستمرار الامساك بورقة النفط.
وفي المقابل، فإن ما قامت به تركيا من توحيد لكل الفصائل المسلحة بعنوان الجيش الوطني، واجتياح مناطق محددة في الشمال السوري بين رأس العين وعين العرب بعمق 32 كيلومترا، ليس سوى خطوة أولى بين مجموعة من الخطوات، تأتي في سياق إعادة الهندسة الجغرافية والديموغرافية في المناطق السورية المتاخمة للعراق، وهذا الاجتياح لا يمكن أن يتم بدون رضى واشنطن التي تفقد أوراقها تباعاً في الخليج واليمن والعراق، بالإضافة إلى روسيا التي أعلنت من قبل تفهمها لإنشاء منطقة آمنة، مما أتاح إلى دمشق العودة المتسارعة إلى مناطق واسعة من الشمال السوري، ولتتكرر تجربة عفرين للمرة الثانية، ويخسر الكرد للمرة الثانية قضيتهم نتيجة الحسابات والرهانات السياسية والأمنية الخاطئة.
لا تنفصل معركة العراق عن معارك غرب آسيا التي تشتد أوزارها في كل مناطقها، وخاصةً بعد أن وجد لبنان نفسه في دوامة حراكات مطلبية مُستحقة ذات دوافع معقدة ومتداخلة، من الإحتجاج العفوي الصادق إلى أصحاب الأجندات الخفية، أسوةً ببقية التجارب العربية في السنوات الأخيرة.
(*) كاتب وباحث سوري