“المال هو البندقية، والسياسة هي أن تعرف متى تضغط على زناد هذه البندقية”. يرسم هذا الاقتباس السينمائي من ثلاثية “العراب” صورة واقعية عن انتفاء قوة الاقتصاد من دون رؤية سياسية، وتهاوي السياسة من دون حامل اقتصادي راسخ، وهو ما يتشابه إلى حد كبير مع مسار طرح نسبة من اسهم شركة “أرامكو” السعودية للاكتتاب، والذي يشكل الحامل الاقتصادي لمشروع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، المسمى بـ”رؤية 2030″.
***
لا تتوقف عملية طرح أسهم “أرامكو” للاكتتاب عند حدود البحث عن مصدر تمويل لتحولات كبيرة على مختلف الأصعدة في السعودية، ولكنها تمتد إلى استثمار سياسي في الداخل والخارج، لا ينتهي عند عملية “إصلاح اقتصادي” عبر خصخصة جزء من المؤسسة الاقتصادية السعودية الأهم، والتي تحوذ نسبة عظمى من احتياطي وإنتاج النفط في العالم، بل يتوسع إلى نقطة تحوّل في تاريخ السعودية اقتصادياَ واجتماعياً، وبالتأكيد سياسياً على مستوى خارجي مرتبط بسوق النفط العالمية، بما في ذلك العلاقات بين الرياض وواشنطن وغيرها من عواصم الدول الكبرى.
ضريبة الحماية
يلخص موقع “ماركت ووتش” أهمية طرح جزء أسهم من “أرامكو” للاكتتاب بأنها العملية “الأكثر قيمة في العالم للعقار الأكثر قيمة في التاريخ”، فحتى مع انخفاض نسبة الطرح من 5 إلى 1.5%، وأيضاً القيمة الكلية للشركة النفطية العملاقة من ثلاثة تريليونات إلى 1.7 تريليون دولار، فإن العبارة السابقة تبقى على حالها، ليس فقط لأن التقديرات الدنيا لـ”أرامكو” تفوق أكبر الشركات العالمية في الوقت الحالي قيمة – “غوغل” و”أمازون” و”آبل”- وكذلك أرباحها السنوية، ولكن أيضاً لامتلاك “أرامكو” أصولاً مختلفة في السعودية وحول العالم تجعلها في عملية نمو مطردة في المستقبل، وبمعزل عن تقلبات الاقتصاد الرقمي، ناهيك عن الحجم الهائل لاحتياطي النفط المتوقع على مدار العقود الثلاثة القادمة.
طرح جزء من أسهم “أرامكو” للاكتتاب يعد العملية “الأكثر قيمة في العالم للعقار الأكثر قيمة في التاريخ
وبجانب قيمة “أرامكو” وحجمها، اللذين يجعلان الاكتتاب مربحاً حتى في حالة الخسارة، فأن “أموَلة” جزء من أصول الشركة وإدخاله في قطاع الاقتصاد المالي، في أسواق محلية وإقليمية وعالمية، تجعل من الصندوق السيادي السعودي، الممول لـ”رؤية 2030″، يتّسم بصبغة نيوليبرالية حديثة تبتعد عن نمط الاقتصاد الريعي القائم على بيع النفط وصرف عائداته، وهو النمط الذي يهيمن على 90% من اقتصاد السعودية وميزانياتها السنوية.
وبالتالي فإن الخطوة الخطوة الأخيرة، التي تأتي في توقيت تسعى فيه السعودية للعب أدوار أكبر على مستوى الاقتصاد العالمي، عبر ترؤسها قمة “مجموعة العشرين” في 2020، يعطي مصداقية لخطوات الإصلاح الاقتصادي التي يعمل محمد بن سلمان على تحقيقها، على الأقل في المستقبل القريب، كبديل عن مناخ التعتيم وعدم الإفصاح المقترن بأنماط اقتصادية ريعية.
ضمانة تدفق النفط مدفوعة
إلا أن هذه “المكاسب” الاقتصادية لا توازي مكاسب سياسية كانت تليق بمثل هذه المقاربات الضخمة، حيث أن طرح 1.5% من “أرامكو” للاكتتاب العام “محلياً” منذ منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2019 وحتى الخامس من كانون الأول/ديسمبر 2019، يقترن بعوامل سياسية لا تقتصر على الداخل السعودي؛ فمن ناحية التوقيت يأتي هذا الطرح، وفي الداخل السعودي حصراً، بعد تلكؤ استمر قرابة أربعة أعوام، حاولت خلاله الرياض تحقيق أقصى استفادة سياسية من وراء هذه الخطوة، ورهنها بمختلف التحولات السياسية، والخارجية منها بالذات، وتحديداً في العلاقة بينها وبين واشنطن، والتي شكل النفط فيها حجر الزاوية منذ نشأة المملكة، وهو الأمر الذي يقابله على الجانب الأميركي حالياً الاستغناء عن النفط السعودي بل واستعادة ما دفعته واشنطن على مدار العقود الماضية بشكل تعسفي مقابل استمرار “الحماية” الأميركية للسعودية، وذلك وفق نهج دونالد ترامب القائل بأن “لا شيء مجانياً، وعلى السعوديين أن يدفعوا إذا أرادوا أن نحميهم”.
هنا يقع اكتتاب “أرامكو” في قلب تحولات العلاقات الأميركية-السعودية، في ظل المسعى الأميركي بجعل ضمانة تدفق النفط، احدى ركائز استراتيجية واشنطن في المنطقة، مدفوعة الثمن، وبمقابل يتجاوز مشتريات ضخمة من الأسلحة والاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة، بدلاً من الاكتفاء بضمان تأمين استيراده ودفع ثمنه أيضاً، وهو ما تراه إدارة ترامب عملية “احتيال”.
يقع اكتتاب “أرامكو” في قلب تحولات العلاقات الأميركية – السعودية
على هذا الأساس، فإن مسألة طرح أسهم من “أرامكو” للاكتتاب أمر يهم واشنطن، ليس من منطلق الحصيلة المالية الضخمة لهذه العملية وأثرها على الاقتصاد الأميركي، في حال كان الطرح في البورصات الأميركية فحسب، ولكن وبشكل مباشر عبر امتلاك الاميركيين كأفراد ومؤسسات حصة من الشركة تقدر بعشرات مليارات الدولارات، وهو ما سيجعل حماية الشركة ومنشآتها شأناً أميركياً، الأمر الذي تتحفظ عليه السعودية، باعتباره “ضريبة حماية” قد تمتد إلى خرق هيمنتها على سوق النفط واسعاره، وخاصة لارتباط ذلك بحركة سوق النفط الأميركية والتحولات الجارية فيه خلال العقد الأخير، ومن أبرز ملامحها نمو قطاع النفط الصخري، الذي من شأنه مستقبلاً الإطاحة بمركزية السعودية في صناعة وسوق النفط ككل.
هندسة سياسية للاكتتاب
ضمن هذا الإطار، أتت فكرة التوظيف السياسي لاكتتاب “أرامكو” كجزء من حملة تحشيد إنجازات اقتصادية للسعودية يقودها بن سلمان، وتقديمها للداخل على أنها نجاحات خارجية تجعل السعودية دولة كبرى لها تأثير على مختلف الأطر والمحافل الاقتصادية والسياسية في العام المقبل.
لكن الأهم من السرديات الدعائية السابقة، والتي تناقض وقائع السياسة والاقتصاد في معظمها، ثمة فرصة لجعل الاكتتاب ورقة قوة وتفاوض سياسي في مرحلة انتقالية في العلاقات بين واشنطن والرياض، سواء عبر ضخ عشرات المليارات كحصيلة الاكتتاب في سوق المال الأميركية، ومن شأن ذلك أن يُحسب كنجاح اقتصادي لترامب أمام ناخبيه في عام الانتخابات في مقابل عمل عسكري ضد إيران مثلاً، عبر إعادة هيكلة وتطوير النفوذ السعودي في واشنطن بعد عثرات وأزمات متتالية خلال السنوات الأخيرة، لا تنحصر في قانون “جاستا” أو قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي أو تسريب إدارة ترامب لتكنولوجيا نووية مخالفة للقانون الأميركي، بل تمتد في نظر الديموقراطيين إلى أن السعوديين شركاء رئيسٍ جمهوري تدور حوله شبهات جنائية بتهم خطيرة تصل للخيانة العظمى.
ثمة فرصة لجعل الاكتتاب ورقة قوة في مرحلة انتقالية في العلاقات بين واشنطن والرياض
لكن هذه المراوَحة السعودية تشهد عقبات ومطبات منبعها السياسة الخارجية والداخلية لولي العهد، والتي بخّست عملية طرح “أرامكو”، لتحوّلها من ورقة قوة وتفاوض إلى مجرد طوق نجاة لاستمرار مشروعه الداخلي والخارجي، وهو ما كانت ضربته القاصمة استهداف منشآت الشركة في بقيق وخريص في منتصف أيلول/سبتمبر 2019، والتي أدت إلى إيقاف نصف انتاج السعودية اليومي من النفط، ما يمثل حوالي 6% من انتاج النفط العالمي، وهي العملية التي تلقفتها الإدارة الأميركية كفرصة لتقليل نفوذ السعودية في منظمة “أوبك” وسوق النفط العالمية ككل، وأيضاً كفرصة لإنعاش سوق النفط الأميركية، الأمر الذي لخصه دونالد ترامب عقب الضربة السابقة الذكر بالإشارة إلى “عدم حاجتنا إلى النفط السعودي بعد الآن”.
إزاء هذه الضربة القاصمة والتعاطي الأميركي معها واستغلالها على النحو السابق، كان رد فعل الرياض العملي هو هندسة الاكتتاب بطريقة تقلل الخسائر السياسية، حتى وإن كان الثمن خسارة اقتصادية عظيمة تتمثل في انخفاض النسبة المخصصة للاكتتاب من 5%، كما توقع ولي العهد السعودي قبل سنوات، إلى 1.5%، وانخفاض القيمة المتوقعة من هذا الطرح إلى نحو 25 مليار دولار بدلاً من 150 مليار دولار، والأهم ثبات قيمة “أرامكو” عند 1.7 تريليون دولار بدلاً من 3 تريليونات.
تقليل الخسائر
بداية مرحلة هندسة تقليل الخسائر السياسية هذه جاءت عبر تقليل النسبة المخصصة للاكتتاب، وذلك لرسم سقف مستقبلي بـ5% قد يتم التفاوض عليه وتوظيفه طبقاً لما ستؤول إليه الانتخابات الأميركية وغيرها من العوامل المؤثرة على السياسات الدولية والإقليمية المتقاطعة معها السعودية.
وثاني هذه المراحل جعل الاكتتاب محلياً سواء في الشق المتعلق باكتتاب الأفراد أو الشق المتعلق باكتتاب المؤسسات، والذي انتهت مرحلته الأولى المخصصة للأفراد بحصد نحو 12 مليار دولار أميركي مع فائض تغطية بلغت نسبته 150% من الأسهم المطروحة، ومضاعفة هذا الرقم في مرحلة اكتتاب المؤسسات وذلك في إعطاء دفعة لأسهم الشركة إذا ما انتقلت إلى الأسواق العالمية، وهو ما يعني سياسياً تفويت فرصة وضع محاذير للتداول على سهم “أرامكو” بدعوى عدم الشفافية أو قلة الإقبال على شرائه في مرحلة الاكتتاب الأولي.
وطبقاً لهذا النمط فإن تسييل و”أموَلة” جزء من أسهم “أرامكو” سيكون محوراً ممتداً للعلاقات الأميركية-السعودية بشكل مطرد ومستمر في المستقبل، ولن يبقَ متصلاً حصراً بالإدارة الراهنة، التي لا تضمن الرياض استمرارها لفترة ثانية، وذلك كـ”بديل” استراتيجي طويل الأمد نسبياً للعلاقات السعودية-الاميركية بعد انتهاء صلاحية ركيزة النفط التي قامت عليها، وانكماش نفوذ وتأثير المملكة على سوق النفط العالمي، لتنبثق عنها أموَلة وتدوير أرباح متراكمة خلال العقود الماضية كضمانة لعدم انحدار “العلاقات الاستراتيجية” بين واشنطن والرياض إلى نمط الصفقات قصيرة الأمد المرتبطة بالإدارات الأميركية المتغيرة.