ضربة أرامكو: ما بعد النفط.. ما بعد ترامب

تلاعب المملكة بأسعار النفط سبق أن وُظف خلال السنوات الأخيرة لأغراض سياسية لا يتفق معظمها مع المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة، وبخاصة تلك المتعلقة بسوق الطاقة والنفط الصخري، ولا حتى، في بعض الأحيان، مع مصالح السياسات الخارجية الأميركية المتشعبة

 من جديد، يؤكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب “عدم حاجة بلاده لنفط السعودية”، في أبرز تعقيب على حادثة ضرب منشآت شركة “أرامكو” في بقيق وخريص، والتي يمكن اعتبارها اختباراً عملياً للمتغيرات التي طرأت على العلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والسعودية منذ الحرب العالمية الثانية.

في  هذه العلاقات التي يمكن تأريخها ببداية المرحلة المؤسسة للنظام الدولي في النصف الثاني من القرن العشرين، شكّل النفط وضمان تدفقه حجر الزاوية في السياسة الأميركية تجاه السعودية، والتي يعيد الرئيس الأميركي هندستها على نمط إدارة الصفقات التجارية والمضاربات العقارية، بما يتسق مع خلفيته المهنية.

هذا النمط طبّقه ترامب، بشكل حرفي، في رد فعله على الضربة الأخيرة لأرامكو، فبين أقصى استثمار يمكن أن يحصل عليه من أزمة “حلفائه”، وبطبيعة الحال توظيفه داخلياً وخارجياً، وبين التأكيد على أن لا شيء بالمجان حين يدور الحديث عن دعم أميركي للسعودية، يواصل سيّد البيت الأبيض ادارة السياسة الخارجية بمنطق الصفقات المربحة قصيرة المدى، وهو ما تجلى العاميين الماضيين في “حلب” مئات المليارات من الدولارات من السعودية، لا يعادلها حد أدنى مما تريده المملكة، سواء في ما يتصل بعلاقاتها الثنائية مع الولايات المتحدة، أو بمنطقة الشرق الأوسط.

اقتناص “أرامكو”

يستدل على ما سبق، أن رد فعل الإدارة الأميركية تجاه هجمات بقيق وخريص يشير إلى تطبيق عملي لمتغيّر جذري في نمط إدارة العلاقات بين الرياض وواشنطن في ما يتعلق بالنفط تحديداً، وذلك منذ اتفاقية كوينسي 1945، والتي يمكن اختزالها بمعادلة ضمان الولايات المتحدة أمن السعودية واستقرارها، في مقابل استمرار تدفق النفط السعودي إلى الأسواق الأميركية بشكل شبه احتكاري، وكأنه من ضمن الأصول الأميركية.

إلا أن السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ عهد إدارة باراك أوباما، شهدت بداية تراجع مفاعيل الاتفاقية المذكورة، فقد انكمش الاعتماد الأميركي على النفط السعودي، ونفط دول الخليج بشكل عام، لصالح النفط الأميركي، ولا سيما الصخري منه على وجه التحديد، والذي وصل إنتاجه بين العامين 2013 و2016 إلى سقف الجدوى الاقتصادية، وهو ما لم يشذ في عهد دونالد ترامب، الذي سلك المسار ذاته، منذ دخوله البيت الأبيض، لجهة تقليل الاعتماد على نفط الشرق الأوسط ذي التكلفة السياسية والعسكرية والاقتصادية الباهظة.

وإذا كان مسار تقليص الاعتماد على النفط الخليجي قد بدأ بالفعل في عهد باراك أوباما، فإن الجديد الذي حمله عهد دونالد ترامب يتصل بأوجه الاستفادة الأميركية من الأزمات السياسية – الاقتصادية التي تعيشها السعودية منذ بداية عهد الملك سلمان.

الضربة الأخيرة لم تضرّ بالداخل الأميركي مثلما حصل في العام 1973، لا بل ثمة من يقارب ما حدث من احتمالية انتعاش سوق النفط الصخري الأميركي

أوجه الاستفادة تلك، تتراوح بين إعادة إنعاش صناعة النفط الصخري الأميركي، وبين فرض شراكة أميركية في عملاق النفط السعودي “أرامكو”، إذ من المفترض أن يُطرح جزءٌ (5%) من أسهم الشركة المملوكة للحكومة السعودية في أسواق المال العالمية قريباً، كجزء من “رؤية 2030″، المشروع السياسي- الاقتصادي لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، إذ يريد الرئيس الأميركي أن يتم هذا الاكتتاب في الأسواق الأميركية، لما يشكل ذلك من دفعة مالية قادرة على إنعاش الاقتصاد الأميركي بأصول ضخمة لكيان اقتصادي مثل “أرامكو”، والذي يمكن اعتباره الأكبر قيمة في تاريخ البشرية، حيث يقدر بما بين تريليونين إلى ثلاثة تريليونات دولار أميركي، ومن ثم فإن طرح 5 في المئة في أسواق المال والبورصات الأميركية من شأنه أن يشكل دفعة إيجابية لسوق متأزم، ومن المتوقع له الدخول في مرحلة من الانكماش المتزايد خلال الأعوام القليلة المقبلة.

من هنا يأتي سعي ترامب للاستفادة من أزمة المملكة النفطية بعد ضرب المنشآت النفطية، والتي تتجاوز الأضرار المباشرة التي ألحقتها الطائرات المسيّرة، لتصل إلى الانخفاض المؤكد في القيمة السوقية  لـ”أرامكو” كلما تأخر طرح أسهمها نتيجة للمخاطر العسكرية والأمنية المزمنة التي باتت معرّضة لها، فضلاً عن اضطرار الرياض للإفصاح عن قيمة أصول الشركة العملاقة واحتياطياتها بشكل علني، وهو الأمر الذي تعاملت معه السعودية طيلة العقود الماضية بوصفه سراً مقدساً.

إلى جانب ما سبق، فإنّ أوجه الربح الأميركية من الضربة الأخيرة لا تقف عند إشكالية طرح أسهم “أرامكو”، أو بالحد الأدنى خفض قيمتها أو إجبار السعودية على الإفصاح عن أصولها وقيمتها الحقيقية، بل تشمل إنعاش سوق الطاقة الأميركي الداخلي وضمان استفادة الشركات الأميركية من توقف ضخ حوالي ستة ملايين برميل من النفط يومياً، بما يعادل نصف إنتاج السعودية اليومي أو أكثر من خمسة في المئة من إنتاج النفط العالمي.

وكان واضحاً أن هجمات بقيق وخريص بحدّ ذاتها قد تسببت في انتعاش أسواق النفط الأميركي كجزء من عملية ارتفاع الأسعار العالمية غداة الضربة بنسب تخطت العشرين في المئة، وهو ما لم يحدث منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ما يكرّس أيضاً التوجه السياسي والاقتصادي لتخفيف الاعتماد الأميركي على نفط الشرق الأوسط، وبالتالي فقدان نفط السعودي وظيفته كـ”مسألة أمن قومي أميركي” كما كانت الحال على مدار العقود الماضية.

إقرأ على موقع 180  القضية الفلسطينية عند بايدن.. معيشية!

وللدلالة على ما سبق، فإنّ الضربة الأخيرة لم تضرّ بالداخل الأميركي مثلما حصل في العام 1973، لا بل ثمة من يقارب ما حدث من احتمالية انتعاش سوق النفط الصخري الأميركي الذي كبحَته السعودية بتخفيض أسعار النفط في الأعوام الأربعة الماضية إلى ما دون 80 دولاراً للبرميل، وهو ما جعل إنتاجه غير مجدٍ اقتصادياً.

نهاية النفوذ السعودي؟

 التداعيات الاقتصادية لضربة “أرامكو” ستمتد، بطبيعة الحال، إلى الشق السياسي، وتحديداً في منحاه الاستراتيجي، وهي تتمثل في إنهاء نفوذ السعودية على سوق النفط، وهي الورقة الأكثر أهمية اقتصادياً وسياسياً بالنسبة إليها؛ فتلاعب المملكة بأسعار النفط سبق أن وُظف خلال السنوات الأخيرة لأغراض سياسية لا يتفق معظمها مع المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة، وبخاصة تلك المتعلقة بسوق الطاقة والنفط الصخري، ولا حتى، في بعض الأحيان، مع مصالح السياسات الخارجية الأميركية المتشعبة، حين حاولت الرياض مؤخراً أن تضع نفسها في موقع “الشريك” لواشنطن سواء على مستوى الشرق الأوسط أو العالم.

إذا ما قالت الصناديق كلمتها في الإنتخابات الرئاسية المقبلة لصالحه، قد يشكل أساساً لتحول علاقات الولايات المتحدة والسعودية في عصر ما بعد النفط، والذي شكل حجر الزاوية في دور المملكة الوظيفي منذ نشأتها

وبالإضافة للسابق، فإن ثمة أوجه الاستفادة السياسية والعسكرية الأميركية من هذه المتغيرات تتجاوز شكل العلاقات الإستراتيجية بين واشنطن والرياض في شكلها المعهود، والتي تتحول إلى نمط الصفقات والمضاربات المالية أكثر من كونها متغيرات تمس جوانب سياسية وأمنية وعسكرية في توقيت حساس تمر به المنطقة، فضغط ترامب في العاميين الماضيين على بن سلمان للإسراع في طرح بعض أسهم شركة “أرامكو” في سوق المال الأميركية يجرد الأخير من البطاقة الرابحة التي يرجئها ويناور بها لتأمين وصوله إلى العرش بشكل رسمي، وهو ما يجعله ينتظر إلى ما بعد الانتخابات الأميركية المقبلة وتبيان نتائجها، فيما يرغب ترامب بدخول السباق الانتخابي الرئاسي الثاني بإحصائيات ونجاحات اقتصادية تزيد من رصيده أمام داعميه وناخبيه.

في هذا الإطار، يمكن تفسير مواقف ترامب الأخيرة بأنّه يريد إنهاء تلكؤ ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان وتأجيله المستمر لطرح جزء من أسهم “أرامكو” في الأسواق الأميركية، حتى تحظى الشركة العملاقة ومنشآتها بمظلة حماية أميركية، وبالتالي فإنّ أي أجراء عسكري أميركي تدفع تكلفته السعودية لن يتجاوز كونه إجراءً دفاعياً، سواء بنشر المزيد من القوات أو بيع منظومات جديدة للدفاع الجوي.

لعلّ نسق العلاقات الخارجية الذي أتى به ترامب، قد حوّل علاقات الولايات المتحدة بحلفائها في الشرق الأوسط، وعلى رأسهم السعودية، من علاقات إستراتيجية قائمة على محددات واضحة، تتعلق في الحالة السعودية بضمان تدفق النفط، إلى نمط شركاتي عابر لمفهوم الدولة ككل، أضحت فيه علاقة واشنطن بحلفائها في المنطقة غير مرتبطة بمأسسة المصالح المشتركة، بحيث يتم ربطها بأجندة عمل الإدارة الأميركية، ما يعني أن أقصى مدى زمني لأي تفاهم سياسي هو مدة مكوث ترامب في البيت الأبيض، وأن محددات هذا التفاهم لا تنفصل عن نمط الصفقة التي دأب عليها رجل الأعمال، أي أنها صفقة مؤقتة مرحلية، أهم ما فيها أن تُترجم إلى أرقام تجعله “رئيساً ناجحاً” في نظر قاعدته الانتخابية.

المتغير هنا لا يقتصر على انتهاء حاجة الولايات المتحدة للنفط السعودي الرخيص في سعره نسبياً طيلة العقود الماضية، ولكن في كُلفة رعاية المملكة وصيانة سياساتها خلال السنوات الأخيرة، وكذلك كلفة التواجد الأميركي في الخليج، من باب حماية الحلفاء الذين قال عنهم ترامب “لا يمكن وصف علاقة الحماية التي نكفلها لهم سوى أنها استغلال أحادي الجانب منهم واحتيال ندفع نحن فقط ثمنه”، وبالتالي، فإن ما فعله الرئيس الأميركي طيلة السنوات الماضية، وما قد يفعله خلال السنوات الخمس المقبلة، إذا ما قالت الصناديق كلمتها في الإنتخابات الرئاسية المقبلة لصالحه، قد يشكل أساساً لتحول علاقات الولايات المتحدة والسعودية في عصر ما بعد النفط، والذي شكل حجر الزاوية في دور المملكة الوظيفي منذ نشأتها.

Print Friendly, PDF & Email
إسلام أبو العز

كاتب صحافي ومحلل مختص بالشؤون الإقليمية والعلاقات الدولية - مصر

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  كورونا يعيدنا إلى كانتوناتنا.. لبنان ليس بخير