الجيوستراتيجيا في محيط الصين (4/2)

نسمع ونقرأ أن الصين «تتوجه» جنوباً، وترسل أساطيلها نحو بحار الجنوب، وتنادي بسيادتها على كامل «بحر الصين الجنوبي وقسم من بحر الصين الشرقي». لنعرف أولاً أن هذه تسمية «بحر الصين الشرقي» هي تسمية جغرافية، وليست مرتبطة بدولة الصين، ذلك أن البحارة الأوائل كان يطلقون اسم الصين على كل المناطق التي يتواجد فيها «سكان عيونهم مائلة» ويشيرون إليهم بالـ «صينيين»!

‫في الواقع تواجه جمهورية الصين الشعبية ثلاث مسائل (نزاعات) في تلك البحار تتعلق بثلاث مناطق تطالب بالسيادة عليها:

  • جزر «سنكاكو» (اليابانية) وتطلق عليها بكين اسم «ديايو» وتطالب بها كجزء من أراضيها.
  • جزر باراسيل في الجنوب، وتنازعها عليها فيتنام.
  • جزر سبراتلي في أقصى الجنوب.

جزر «سنكاكو»/«ديايو»

جزر «سنكاكو»/«ديايو» هي خمس جزر غير مأهولة إلى جانب ثلاث صخور، وتشغل مساحة تبلغ نحو سبعة كيلومتر مربع. وتقع في «بحر الصين الشرقي» إلى شمال شرق تايوان، وإلى شرقي الأراضي الصينية، وجنوبي غرب أرخبيل أوكيناوا الياباني الجنوبي. هي تحت سيادة اليابان، التي اعتبرتها منذ عام 1895 أراضي غير مأهولة (Terra Nullius). في عام 1971، أعادت الولايات المتحدة لليابان أرخبيل «نان سيي» الذي تحتل وسطه أكبر جزره أوكيناوا، ولكن المعاهدة لم تذكر بالاسم جزر سنكاكو آخر عنقوده.

وحتى عام 1972، لم تكن الصين تعتبرها من أراضيها، كما تشهد الكتب المدرسية والخرائط التي كانت متداولة في الصين، والتي كانت تشير إليها بالاسم الياباني. ولكن مع تغيّر الوضع الجيوسياسي للصين ودخولها مجلس الأمن الدولي، كعضو دائم يتمتع بحق الفيتو، تغيرت المعطيات وتغيرت معها الكتب المدرسية والخرائط، وظهر الاسم الصيني عليها.

سنكاكو قبل 1971
سنكاكو بعد 1972

توترت العلاقات كثيراً منذ عام 2012، وحاولت الصين عدة مرات إرسال سفن لترسو على تلك الجزر غير المأهولة، إلا أن البحرية اليابانية كانت تتصدى لها.

والصين ليست الوحيدة التي تطالب بالسيادة على سنكاكو. تايوان أيضاً، التي هي أقرب إلى الجزر من الصين، تطالب بالسيادة عليها، إلا أن علاقات تايوان مع اليابان هي افضل من علاقات تايوان مع الصين التي تطالب بضم تايوان أيضاً، كما حصل مع هونغ كونغ، أي من خلال نظامين في دولة واحدة، وهو ما يرفضه التايوانيون، وقد ازداد تصلب رفضهم نتيجة «أحداث هونغ كونغ» الأخيرة.

لماذا تسعى الصين لتثبيت سيادتها على هذه الجزر الصغيرة؟

بالطبع تحوي المنطقة ثروات بحرية واكتشف وجود مكامن طاقات إحفورية من نفط وغاز. ولكن ليس هذا فقط ما يدفع بكين لاستثارة أكبر شريك تجاري لها أي اليابان.

لننظر إلى الخارطة رقم 1، والتي تبرز بشكل واضح الوضع الجغرافي لجزر سنكاكو، فنرى أن أرخبيل «نان سيي» يمتد من جنوب الجزر اليابانية حتى جزر سنكاكو. كما نرى أن سواحل تايوان أقرب إلى هذه الجزر من البر الصيني.

لنرَ ماذا تقول قوانين البحور والمحيطات بحسب اتفاقية مونتيغو باي (CNUDM 1982) التي تناولت تعريف المياه الداخلية والبحر الإقليمي (المياه الإقليمية) والجرف القاري (انظر الخارطة 2).

لقد حددت المعاهدة ثلاثة أبعاد بحرية لشواطئ الدول: المياه الإقليمية (12 ميلاً بحرياً)، المنطقة المجاورة (12 ميلاً بحرياً)، والمنطقة الاقتصادية الخاصة أو الحصرية (200 ميل بحري).

وتنص القوانين على حرية عبور السفن الأجنبية في إطار الـ 200 ميل بحري شرط أن يكون «عبوراً بريئاً» (passage innocent)، أي أنه يستثني الدول المتحاربة من جهة، ويطلب من السفن الحربية أن «تعلن مسبقاً مرورها» في تلك المنطقة (ليس بالضرورة الحصول على اذن بالعبور ولكن «يجب التبليغ»).

وإذا عدنا إلى الخارطة ١، لوجدنا أن دولة الصين «محصورة» وراء «سبحة الجزر اليابانية» حيث المسافات بينها كلها تدخل ضمن نطاق المنطقة الحصرية اليابانية… إلا إذا كانت سنكاكو تابعة للصين، أو في حال عادت تايوان إلى حضن «الوطن الأم».

من هنا نرى أهمية الجزر الثماني بالنسبة إلى موقع الصين التي تتهيأ لتكون قوة عسكرية شاملة.

جزر « باراسيل» و « سبراتلي»

تلتفت الصين إلى بحر الصين الشرقي، أي جزر «باراسيل» وجزر «سبراتلي» في أقصى الجنوب، وتطالب تقريباً بمجمل هذه المساحات البحرية الممتدة غرباً إلى فيتنام، وشرقاً إلى تايوان، وتلامس جنوباً تلامس شواطئ الفيليبين وأندونيسيا وتقارب شواطئ ماليزيا وبرنواي (انظر الخارطة 3).

وتصر الصين على سيادتها على كامل بحر الصين الجنوبي، الغني بالموارد الطبيعية من نفط وغاز ومعادن نادرة، ولذا تتنازع الدول المطلة على سيادته.

التوترات في المنطقة تصاعدت في الآونة الاخيرة. وتعزز الصين موقفها بوضع اليد بالقوة على أجزاء واسعة من هذا البحر، وذلك عن طريق تشييد الجزر الاصطناعية إلى جانب تسيير دوريات بحرية في مياهه، والجزر باتت قادرة على استضافة طائرات عسكرية واستقبال طرادات.

ويسير الأميركيون سفنهم الحربية في البحار الجنوبية لتثبيت عدم اعترافهم بالأمر الواقع، في عمليات تحت مسمى «حرية الملاحة» ويدّعون أنها تهدف الى ابقاء طرق الملاحة البحرية والجوية مفتوحة للجميع.

وتكمن أهمية جزر بارسيل في أنها تقع على طريق مضيق «ملقة» بين سنغافورة وماليزيا، وهو يعتبر من أهم الممرات الملاحية في العالم بالنسبة إلى حركة سفن الشحن والتجارة العالمية وخصوصاً تجارة الصين المتوجهة نحو العالم الغربي والموانئ الأميركية. ولكن أيضاً هذا المضيق الدولي تتحكم به دول حليفة لواشنطن (أنظر الخارطة 4) بالتالي فإن تجارة الصين إلى جانب بواخرها الحربية تحت رحمة هذا المضيق.

إقرأ على موقع 180  ارتباك أمريكى غير مسبوق بسبب غزة

أما بالنسبة لسبراتلي، الذي تتنازع عليه الدول المذكورة أعلاه (انظر الخارطة رقم 3) وتطالب كل منها بامتلاك أكبر عدد ممكن من جزر البحر فيه (لا يتجاوز حجم بعضها بضع مئات الأمتار المربعة وهي مشكلة من صخور تختفي بعض الأحيان تحت المد لتظهر مع الجَزر. وهذا ما دفع الصين لبناء جزر صناعية عليها، فإنّ هذا الأرخبيل الواسع هو أيضاً الطريق الثالث لخروج الصين من «الحصار المفروض عليها بسبب الجغرافيا».

أضف إلى ذلك، أن هذه المساحات المائية تحتوي على احتياطيات ضخمة من الطاقة (النفط والغاز)، فيما تمر تحت المياه مئات الكابلات البحرية الحيوية لخدمات الاتصالات الدولية.

منذ عام 2012، تشغّل الصين أجهزة للحفر في المياه العميقة في منطقة جزر سبراتلي، وذلك في إشارة إلى جهودها للبحث عن موارد جديدة للطاقة تقلل اعتمادها على الاستيراد من دول أخرى وتضمن استمرار نموها الاقتصادي. ولكن لا يغيب عن بال المراقبين أن الصين تسعى للسيطرة “بحكم الأمر الواقع” على بحر جنوب الصين الاستراتيجية، لسببين:

1- التمكن من مراقبة وحماية الممرات البحرية والجوية والرقمية (كابلات أنترنت).

2- السعي للخروج من عزلتها الجغرافية جنوباً (نحو استراليا وغرب الولايات المتحدة).

ولكن واشنطن لا تقف موقف المتفرج فهي تبقي مدمرات محملة بالصواريخ الموجهة، واساطيل المحيط الهادئ تزور وترسو في مرافئ معظم الدول التي تنازع بكين على هذه البحار، وبالطبع لن تسمح للصين بتحويل هذا البحر «بحيرة صينية».

من هنا بدأت الصين، ومن دون أن تعترف بواقعها الجغرافي الذي يحاصر واجهتها البحرية، والذي حتم عليها تاريخيا الالتفات نحو «بطن آسيا» أي الداخل الأسيوي آسيا الوسطى، تسعى حالياً للعودة إلى البر والخروج من عزلتها عبر ما يسمى «طريق الحرير».

* كاتب وباحث متخصص بالشؤون الآسيوية في معهد الدرسات والثقافات الشرقية  Inalco-Paris

إقرأ أيضاً:

إقتصاد الصين: نقاط الضعف والقوة

يتبع:

– الصين… ما وراء طريق الحرير

– تشي وميزان القوى داخل حلقة القيادة

Print Friendly, PDF & Email
بسام خالد الطيّارة

كاتب لبناني وأستاذ جامعي مقيم في باريس

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  "أوراسيا ريفيو": أمريكا والصين من يتقدم على الآخر؟