الإنتفاضة اللبنانية.. الإصغاء للناس لا للخارج

ثمة تخمة لفظية في إستخدام كلمة "التغيير" في القاموس السياسي اللبناني، وخصوصاً من قبل بعض أحزاب السلطة، ما أدى إلى إفقادها بريقها ومصداقيتها وجاذبيتها، لا سيما وأن ترجمة التغيير تحولت إلى نوع من تبديل "الطرابيش" من دون المس بديناميات النهب والفساد والمحاصصة.

عبر التاريخ، شكل التغيير العصب الرئيس للتطور في خدمة الإنسانية وإنتاج الركائز الأساسية في تنظيم المجتمعات. التغيير أمّن الانتقال من العبودية الى المساواة الإنسانية. التغيير شكل هدف كبرى الثورات في التاريخ: الثورة الفرنسية التي انتجت فصل الدين عن الدولة، الثورة البولشيفية في روسيا وانبثاق المجتمعات الاشتراكية، انهيار الأنظمة الاشتراكية وانفلات الليبرالية المتوحشة…

لن أدخل في نقاش الشروط ومستوى النضوج المطلوب لنجاح أي تغيير، ولكن لا بد من ذكر عنصرين رئيسين يجب توافرهما لحماية أي محاولة تغيير وبالتالي نجاحها. الأول، يتعلق بوحدة اهداف الشريحة الأكبر من الفئات الإجتماعية المشاركة في محاولة التغيير، والثاني، يرتكز على كيفية تحصين حراك التغيير من التدخلات الخارجية.

التدخلات الخارجية

نحن ننتمي إلى منطقة جغرافية واسعة تحتوي مفاصل تواصل رئيسية بين بقاع العالم، شكّلت عبر التاريخ نقاط تنازع للسيطرة على ممرات التجارة وبالتالي التحكم بآلية الاقتصاد العالمي. شعوبها تمتلك تاريخاً مشتركاً يرجع الى تموضع القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية وتوسعها في ما بعد لتشمل بقاعاً واسعةً في افريقيا وآسيا. حضارتها، موقعها الجغرافي، تاريخه، لغتها المشتركة، كلها عناصر مكَّنتها من أن تحتل في عصرها الذهبي، وأخص بالذكر هنا العصر العباسي، المرتبة الأولى في العالم، وان تخطو خطوات هائلة في التطور العلمي والثقافي والإنساني، أدت إلى إرساء أسس تطور المجتمعات كافة وبشكل خاص الغربية منها، بفعل وصول العرب الى أواسط أوروبا عبر الفتوحات.

بعد اندثار الامبراطورية العثمانية وظهور الثروة النفطية استدركت قوى النفوذ العالمي، وبشكل خاص بريطانيا وفرنسا، أهمية العناصر المذكورة أعلاه ووضعت رؤية استراتيجية تهدف إلى منع وحدة شعوب هذه المنطقة العربية، خوفاً من تضافر ما تملكه من حضارة، تاريخ، لغة مشتركة، مواد أولية وثروات طبيعية تؤهلها للوصول من جديد الى المرتبة الأولى في تراتب النفوذ الاقتصادي العالمي. وكان ما كان… من خلق لحدود مصطنعة وكيانات هجينة متضاربة في ما بينها ومسيطر عليها عبر ملوك وحكام تم تنصيبهم على قاعدة ولائهم التام للنفوذ الغربي المستجد او عبر الانتداب المباشر… وصولاً الى احتلال فلسطين وتهجير شعبها وخلق الكيان الصهيوني لضمان بؤرة توتر دائمة واستخدامها كلما استدعت الحاجة.

النفوذ الأميركي المستجد بعد الحرب العالمية الثانية. النفوذ الروسي الجديد المنبثق من رحم الحرب في سوريا. محاولات إيران بعد الثورة الخمينية وطموحات تركيا الأردوغانية تصب كلها في الاطار نفسه، أي محاولة بسط نفوذ إقليمي مبني على شرذمة الشعوب العربية وتفكيك منظومة مصالحها.

قراءة النفوذ الخارجي تساعدنا في فهم ما يحصل في واقعنا العربي من تقلبات وصراعات، لذلك، واجهت محاولات التغيير، بإستثناء تونس، عمليات التفاف عليها من مواقع النفوذ الخارجي وصولا الى التدخل المباشر كما حصل في العراق وليبيا وسوريا، مما مكَّن الخارج من الانتقال من موقع السيطرة عن بعد على مداخيل النفط الى الاستيلاء المباشر على منابعها.

يتطلب التحصين فتح حوار مباشر وصريح مع حزب الله لتبديد المخاوف على قاعدة تأكيد الثوابت في موضوع الصراع مع العدو الصهيوني ولإشراكه في عملية الإصلاح ومحاربة الفساد

ما هو الرابط مع انتفاضة الشعب اللبناني؟

كما ذكرت سابقا، فإن نجاح أي تغيير يرتكز من ناحية على قدرته الذاتية ووحدة اقطابه بمواجهة السلطة القائمة وعلى تحصينه من ناحية اخرى في مواجهة النفوذ الخارجي ومحاولات التجيير والالتفاف.

التحصين في مواجهة الخارج

منذ اللحظة الأولى لإندلاع الانتفاضة اللبنانية، حاول ارباب السلطة إلصاق تهمة السفارات بها، أي تلقيها الأوامر الخارجية، في محاولة لإجهاض مضمونها المطلبي وحتى السياسي. بالطبع محاولات الاستغلال الخارجي موجودة فعلياً وترجمت بتصاريح مختلفة من قبل مسؤولين في الإدارة الاميركية ومن قبل بعض اقطاب الجمهورية الإسلامية الإيرانية. المستوى العالي من الوعي عند المنتفضين أمكن، حتى الان على الأقل، في تفادي الوقوع في هذا المطب.

ولكن محاولات الالتفاف ما زالت قائمة ومتواصلة وترتكز حول محورين :

أولًا، الشروط الموضوعة من قبل البلدان المشاركة في مؤتمر “سيدر”، بالإضافة للولايات المتحدة الأمريكية، والتي تنطلق من الفساد القائم للمطالبة بإصلاحات مبنية على خصخصة ما تبقى من قطاع عام وعلى اعتماد سياسة اقتصادية غير إنتاجية تحفظ لها مصالحها وتمكنها من وضع اليد على المشاريع المستقبلية وبشكل خاص الموارد المتوقعة من غاز ونفط. أضف الى ذلك العمل من قبل الولايات المتحدة على محاصرة بيئة حزب الله بالعقوبات والإجراءات المالية، علما ان هذه الدول على علم تام بمنظومة الفساد والنهب القائمة، لا بل شاركت في تأسيسها منذ عهد الحريري الاب. وتكملة لهذا النهج، تشترط إعادة الحريري الابن تكريسا لنفس المنظومة، وان كانت تعلن شفهيا تأييدها لانتفاضة الشعب اللبناني من باب حفظ ماء الوجه. كل ما تطرحه حاليا هذه الدول هو تكملة للدور الرئيس الذي اضطلعت به منذ الانتداب في تغذية الانشقاقات المذهبية والطائفية من ضمن استراتيجية الشرذمة وخلق بؤر التوتر.

إقرأ على موقع 180  الحرب المريرة.. تآكل الردع من العاروري إلى "الضربة الكبرى"!

ثانيا، الاتهامات الموجهة للانتفاضة بالنيل من المقاومة وسلاحها. يمكن تفهم هذه المخاوف في ظل الصراعات الإقليمية، ولكن يبقى الهدف الأساس هنا تجييش مؤيدي المقاومة ضد الانتفاضة لإبعادهم عنها وتفاديا للربط بينها وبين شعارات مكافحة الفساد التي رفعت خلال الانتخابات النيابية الماضية.

الحوار بين الحراك والمقاومة

استنادا لما طرحته، يتطلب التحصين فتح حوار مباشر وصريح مع حزب الله لتبديد المخاوف على قاعدة تأكيد الثوابت في موضوع الصراع مع العدو الصهيوني ولإشراكه في عملية الإصلاح ومحاربة الفساد.

من ناحية أخرى، يتطلب من الانتفاضة عدم الاصغاء الى مواقع النفوذ الخارجي، مهما اغدقت من وعود وعرضت من دعم. تجارب الماضي كافية لاستخلاص العبر.

ان نجاح هذه الانتفاضة يرتكز على قدرة تفادي هذه المطبات ومتابعة الصراع مع سلطة الفساد وخلق أدوات التغيير.

ستون يوماً من عمر الحراك، ها هي الانتفاضة في منتصف الطريق ويتطلب منها استنهاض جماهيرها بالرجوع الى الأهداف الأولى التي رفعتها :

أولا، اسقاط منظومة الفساد المتمثلة بالحكومة المستقيلة وكل حكومة تبنى على نفس المعايير من محاصصة وتزكية طائفية ومذهبية.

ثانياً، سعد الحريري هو جزء من هذه المنظومة  ويتوجب رفض ومجابهة كل محاولة لتسميته من جديد.

ثالثا، تكريس استقلالية القضاء وتعديل او اقرار ما يتوجب من قوانين لازمة لمكافحة الفساد وملاحقة اربابه.

رابعاً، تشكيل حكومة من النزهاء، بعيدا عن التوازنات الحالية، مهمتها الإنقاذ الاقتصادي وتفكيك منظومة الفساد ومحاسبتها واسترجاع ما امكن من أموال منهوبة.

خامساً، الغاء المحاصصة المذهبية والطائفية في جميع المجالات والوظائف، ووضع أسس مجتمع مدني عصري مبني حصريا على القدرات والمؤهلات والكفاءات.

سادساً، إعادة هيكلة إدارات ومؤسسات الدولة.

سابعاً، التحضير لانتخابات نيابية على قاعدة قانون عصري (نسبية ولبنان دائرة إنتخابية واحدة).

 ختاماً، لم تسقط السلطة الفاسدة، وما زالت تحتفظ بالكثير من الأوراق ووسائل الضغط. هي تدير معركة وجودها ولن يثنيها شيء عن استعمال جميع الوسائل والأدوات. من فكّك أسس الدولة واستبدلها بشبكة اثراء شخصي، لن يتورع عن اللعب على حافية الهاوية.

(*) مهندس لبناني مقيم في باريس

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  لبنان ما بعد الإنتخابات.. تفاهم الكبار أم الإنفجار؟