إن دلّت مواقف أهل السياسة في لبنان، في الساعات الأخيرة، على شيء، إنما على محاولة القوى السياسية الوازنة تعديل أو تثبيت منسوب حضورها في المعادلة السياسية، سواء من يريد أن يكون جزءاً لا يتجزأ من الحكومة الجديدة، أو من يريد أن يكون خارجها معارضاً، لكن بـ”حلة سياسية جديدة”، على طريقة زعيم تيار المستقبل سعد الحريري.
من الواضح أن الأمور كانت ستكون صعبة لو عاد الحريري إلى رئاسة الحكومة. إستمرار تعايش التسوية الرئاسية كان مستحيلاً. عبّرت عن ذلك كلمات قالها عون للحريري في آخر لقاء جمعهما، بعيداً عن الأضواء في بعبدا، قبيل إستشارات التكليف، وقد أطلع رئيس الحكومة المستقيل بعض محيطه على مضمونها القاسي جداً. وعندما بدا عون مكرهاً بقبول معادلة السير بالحريري، بتمنٍ من حزب الله وحركة أمل، كان ينتظر ما يمكن أن يستجد ويؤدي في آخر لحظة، إلى قلب معادلة كانت ستقود التيار الوطني الحر إلى المعارضة. لذلك، عندما إتصل به رئيس مجلس النواب نبيه بري، في 16 كانون الأول (يوم إثنين)، متمنياً عليه تأجيل الإستشارات لمدة أسبوع، بسبب موقف القوات اللبنانية الممتنع عن التسمية، أجاب عون محدّثه ضاحكاً “وكتلة الحزب القومي لن تسميه أيضاً”. أعطى هذا الجواب إشارة إلى أن رهان بري وحزب الله على زيادة التصويت المسيحي للحريري تراجعت، إذ أن عون، منتشياً بموقف القوات، سبقهما إلى تثبيت إمتناع القوميين عن إعطاء أصواتهم الثلاثة للحريري، وهي أصوات مسيحية (برغم علمانية القومييين، وعندها كان سيحصل الحريري على 17 صوتاً كلهم أعضاء في كتل ذي غالبية إسلامية، بإستثناء كتلة سليمان فرنجية).
قالها الحريري بالفم الملآن “أنا أتساوى مع الرئيسين ميشال عون ونبيه بري إلا إذا صار باسيل هو الرئيس”!
لم يكن رئيس الحكومة المستقيل في وارد القبول بأن يتساوى وجبران باسيل (ردا على إصرار الأخير بأنه إما أن يكون هو الحريري معاً في الحكومة أو يكونا خارجها سويةً). قالها الحريري بالفم الملآن “أنا أتساوى مع الرئيسين ميشال عون ونبيه بري إلا إذا صار باسيل هو الرئيس”!
من الواضح أن الحريري لا يريد قطع الجسور مع معظم المكونات السياسية. يستثنى من هذه المعادلة ميشال عون. إتهم الحريري العهد (عون) بأنه يتصرف “كأن لا شيء في البلد”، واصفاً الحكومة التي سيشكلها حسان دياب بأنها “حكومة جبران باسيل”.
لم يؤجل ميشال عون رده. قال من بكركي إن باسيل “ليس هو من يؤلف الحكومة، ولكن من حقه المشاركة في التأليف لأنه رئيس أكبر كتلة نيابية”. أما ان “العهد يتصرف كأن لا شيء في البلد”، كما قال عنه الحريري، فهو “بدو يحسدني على رواقي”، أجابه عون، مضيفاً “انتظرنا 100 يوم ولم تحل المشكلة معه، وتشكيل الحكومة لا يكون كمن يلعب بأوراق زهرة المارغريت.. بدي وما بدي”.
من المؤكد أن عون لن يهادن بعد الآن مع الحريري، ولن يكون مفاجئاً الحديث مجدداً عن “الإبراء المستحيل” أو أن تبدأ حملة سياسية إعلامية تستهدف بعض الرموز الحريرية في المؤسسات والإدارات العامة، بينهم عدد كبير من موظفي الفئة الأولى. هذا جزء من عدة الشغل العونية في المرحلة المقبلة.
قال بري للحريري “إتركني خيط. إنت حرقت ثلاثة مرشحين حتى الآن. إنتبه. حذاري أن تلعب بالنار. النار مش لعبة يا شيخ سعد”
أما موقف الحريري، فهو متعدد الأبعاد. يدرك الرجل أن شارعه يريد منه كثيراً في السياسة والخدمات تحديداً، لكن ما يستحيل قبوله هو عودة الحريري إلى حضن التسوية الرئاسية. لذلك، بدا كلامه متأخراً كثيراً وعبارة عن محاولة للإستثمار في حراك شارعه. من هنا، كان لا بد من ترك لعبة الشارع حاضرةً. بعد لقائه الرئيس المكلف في مجلس النواب، ترك الحريري الباب مفتوحاً على مصراعيه. ناشد جمهوره أن يعبر عن إعتراضه “بطريقة سلمية”، لا أن يخرج من الشوارع.
إستدعت لعبة الشارع رداً قاسياً من رئيس مجلس النواب. ما قاله بري للصحافيين، كان قد قاله للحريري نفسه. لوحظ أنه اللقاء الأخير بينهما، وتم بطلب من بري وتمنى على الحريري أن يحضر وحيداً، لم يطلب رئيس المجلس من معاونه السياسي علي حسن خليل الحضور إلى عين التينة لأن اللقاء مع الحريري “سيكون وجهاً لوجه”. قال بري للحريري في اللقاء: “خبرني من الآخر، بدك تعمل رئيس حكومة أو ما بدك”؟ أجابه ضيفه “بدي”. قال بري للحريري “إتركني خيط. إنت حرقت ثلاثة مرشحين حتى الآن. إنتبه. حذاري أن تلعب بالنار. النار مش لعبة يا شيخ سعد”. إنتهى اللقاء ومن بعده، شغّل بري محركاته على الفور في كل الإتجاهات. “حضنته كما تحضن الأم إبنها وكنا أنا وحزب الله مستعدين لحمايته بماء عيوننا، وخرج من عندي على أساس أنه سيعود رئيساً مكلفاً”.
عندما طلب الرئيس المكلف موعداً لزيارة دار الفتوى، بادر المفتي عبد اللطيف دريان للإتصال بالحريري:حسان دياب طلب موعدا رسمياً هذه المرة، هل أستقبله”؟ كان الجواب على الخط الآخر:”بعد بكير”، وهكذا كان
ما بعد ذلك اللقاء بين بري والحريري، يقود إلى الأسباب السعودية والأميركية التي أدت إلى إقصاء زعيم تيار المستقبل، وعبر عنها موقف القوات اللبنانية، أما وأن حسان دياب قد كُلف بضوء أخضر خارجي (تحديداً من مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد هيل)، فهل تصرف الحريري مع التكليف على قاعدة التسهيل؟
لا شيء يدل على ذلك. عندما طلب الرئيس المكلف موعداً لزيارة دار الفتوى، بادر المفتي عبد اللطيف دريان للإتصال بالحريري:حسان دياب طلب موعدا رسمياً هذه المرة، هل أستقبله”؟ كان الجواب على الخط الآخر:”بعد بكير”. وهكذا كان. بقيت الطريق بين تلة الخياط وعائشة بكار غير سالكة حتى الآن. زاد الطين بلة قوله الأخير أن ألا تسمية لحسان دياب ولا تغطية له ولا مشاركة في حكومته ولا ثقة نيابية “اذا تطلب الأمر”. أما قضية اللقاء بينهما، فهو حاذر مصارحة جمهوره. صحيح أنه لم يلتق به قبل يوم من التكليف، ولكنه إلتقاه قبل أيام وليس أسابيع “عندما كان البحث يجري عن وزراء”، ثم أنه كان يعرف، قبل أن يعتذر، في آخر مرة، أن حسان دياب هو رئيس الحكومة المكلف ولم يبد أمام سائليه أي إعتراض على الإسم نهائيا!
جاء موقف فرنجية بعدما بلغه أن الرئيس المكلف إختار شخصية مارونية زغرتاوية من دون العودة إليه. يسري ذلك أيضا على الشخصيات الشيعية التي كان حسان دياب قد إختارها أيضاً من دون العودة إلى “الثنائي”
ماذا عن حسان دياب؟
يتصرف الأخير على قاعدة أنه هو الذي يشكل الحكومة، وأن رئيس الجمهورية يستطيع أن يستخدم توقيعه عندما يسلمه التشكيلة الوزارية. على هذه القاعدة، كان دياب يأمل بأن تولد حكومة من 18 وزيراً قبل نهاية السنة الحالية، ومن يدقق بالأسماء التي صارت متداولة، يستنتج أن الرجل لم يتشاور علناً حتى الآن مع أية جهة سياسية، بما فيها التيار الوطني الحر. غير أن مسارعة رئيس المجلس النيابي إلى التشديد على وجوب أن تكون حكومة إختصاصيين بنكهة سياسية (عملياً حكومة تكنوسياسية) أعاد طرح الأسئلة حول قدرة دياب على إنجاز مهمته في وقت قياسي، فضلا عن قدرته على الإيفاء بإلتزامه المعلن بتشكيل حكومة تكنوقراط مؤلفة من إختصاصيين. هذه الأمور وغيرها، إستوجبت زيارة قام بها المعاون السياسي لرئيس المجلس النيابي علي حسن خليل والمعاون السياسي للأمنين العام لحزب الله حسين الخليل إلى دارة الرئيس المكلف، حيث تم التفاهم معه على المضي في سياسة التسهيل، لكن لا بد للتأليف أن يراعي مجموعة معايير، وأبرزها عدم وضع “فيتو” على التمثيل السياسي، على أن تبادر المكونات السياسية إلى تسمية اسماء “لايت”، أي سياسية من ذوي الكفاءة والإختصاص والكف النظيف، ولكنها ليست حزبية نافرة، فضلاً عن وجوب قرع أبواب بعض الزعامات من أبوابها، كأن تعرض الأسماء التي يفكر بها الرئيس المكلف على المرجعيات المعنية. هذا ما يفسر موقف رئيس تيار المردة سليمان فرنجية الذي قال أمس (الثلثاء) “حتى الآن طبخة الحكومة تُظهر أنها حكومة ظاهرها مستقلّ وباطنها مرتبط بباسيل، حكومة تضمّ مستقلّين تاريخهم تسويات مع أصحاب النفوذ والسلطة وسياسيين مشهود لهم بالتقلّب”.
هل يستجيب دياب للنصائح التي وُجَهت إليه في الساعات الأخيرة أم يدير ظهره لها ويقدم تشكيلة وزارية يعتقد أن ميشال عون يمكن أن يكون شريكه بالمصادقة عليها؟
جاء موقف فرنجية بعدما بلغه أن الرئيس المكلف إختار شخصية مارونية زغرتاوية من دون العودة إليه. يسري ذلك أيضا على الشخصيات الشيعية التي كان حسان دياب قد إختارها أيضاً من دون العودة إلى “الثنائي”، علما أن التدقيق في أسماء الوزراء الموارنة المقترحين (نموذج دميانوس قطار) وأيضا التدقيق بأسماء الوزراء الأرثوذكس المقترحين (نموذج نائب رئيس الحكومة المقترح شادي مسعد)، وغيرهم مسيحياً، يؤكد هواجس فرنجية بأن أصابع جبران باسيل واضحة المعالم، ولو أنه لم يلتق الرئيس المكلف بعد تكليفه، كما قالت أوساط باسيل ردا على فرنجية.
في الختام، هل يستجيب دياب للنصائح التي وُجَهت إليه في الساعات الأخيرة أم يدير ظهره لها ويقدم تشكيلة وزارية يعتقد أن ميشال عون يمكن أن يكون شريكه بالمصادقة عليها؟ وماذا إذا قرر “الثنائي الشيعي”، ومعهما سليمان فرنجية، عدم السير بها، كيف سيتصرف رئيس المجلس وهل يصدر ميشال عون بالإتفاق مع رئيس الحكومة المكلف مرسوم تأليف الحكومة، وهل ستنال في هذه الحالة ثقة المجلس أم لا، وهل سيكون في الحالة الثانية مطلوباً أن تتحول حكومة دياب إلى حكومة تصريف أعمال؟