أبو مهدي المهندس.. سليماني العراق

إستهداف قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، بالمعنى السياسي، يهدد كل ما بناه الإيرانيون في العراق منذ إنتصار الثورة الإيرانية حتى يومنا هذا.

ثمة إنطباع أن قائد لواء القدس الجنرال قاسم سليماني، هو الحاكم السياسي والعسكري الفعلي للعراق، بعد إنسحاب قوات الإحتلال الأميركية من العراق. يعيّن من يشاء في هذا الموقع السياسي أو الإداري أو العسكري أو الأمني ويعطي رأيه في كل شاردة وواردة عراقية. لكن النقطة المكملة أن أحد أبرز المشاركين في هندسة أدوار سليماني العراقية، هو أبو مهدي المهندس. إبن مدينة البصرة، ثالث أكبر مدن العراق. شاب مديني ينتمي إلى عائلة متوسطة الحال. متعلم وحائز على شهادات في الهندسة والعلوم السياسية.. حوزوي. متبحر في الدين إلى درجة الراديكالية في أفكاره وأحكامه ولا سيما رؤيته لصورة المنطقة وتحديداً بلده العراق.

مع إنتصار الثورة الإيرانية في العام 1979، بدأت مرحلة جديدة في حياة شاب عراقي كان قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره (مواليد الأول من تموز 1954). كان متأثرا جداً بشخصية الإمام الراحل الخميني وكان يلاحق مواقفه التي كانت تبلغ العراق، بالطريقة نفسها التي كانت تصل فيها إلى الإيرانيين قبل الثورة. أي بواسطة شريط “كاسيت” مسجل صوتياً أو أحيانا بواسطة منشورات سرية.

في منتصف سبعينيات القرن الماضي، انتسب المهندس إلى حزب الدعوة الإسلامية. شارك أثناء دراسته الجامعية في أحداث رجب 1979، وهو الحراك الذي أدى إلى إعتقال المرجع السيد محمد باقر الصدر ومئات الطلبة. سرعان ما أصبح المهندس أحد المطلوبين لمحكمة “الثورة” في زمن البعث. وما أن نفذ نظام الرئيس الأسبق صدام حسين حكم الإعدام بحق المرجع محمد باقر الصدر، حتى كان المهندس وعدد من رفاقه يغادرون بإتجاهات مختلفة، حيث إختار هو الكويت في العام 1980، ومنها توجه إلى إيران.

للمهندس إسم وعائلة. هو جمال جعفر محمد علي (آل إبراهيم التميمي).  تعرف إلى سيدة إيرانية ولهما أربعة أولاد. وبرغم أنه حمل أكثر من 19 لقباً، كشفت عنهم الولايات المتحدة عندما صنّفته “إرهابياً” وفرضت عقوبات عليه في العام 2009، إلا أن “المهندس”، هو اللقب الأشهر والأحب إلى قلبه، كونه خريج كلية الهندسة المدنية في البصرة في العام 1977.

وتوطدت علاقة المهندس لاحقاً بالعديد من رموز الحزب، ولا سيما الحاج عماد مغنية والسيد مصطفى بدر الدين والسيد حسن نصرالله والشيخ نعيم قاسم والسيد هاشم صفي الدين والسيد عبدالله صفي الدين والشيخ محمد كوثراني وغيرهم

أثناء إقامته في طهران، بدأ رحلة سياسية وأمنية جديدة. هناك، تعرف إلى عدد من الشباب الثوري المتحمس لفكر الثورة الإيرانية. إنطلق حزب الله من ثكنة الشيخ عبدالله في بعلبك في صيف العام 1982، فكان أحد المرافقين لتلك الإنطلاقة من بعيد، وتوطدت علاقته لاحقاً بالعديد من رموز الحزب، ولا سيما الحاج عماد مغنية والسيد مصطفى بدر الدين والسيد حسن نصرالله والشيخ نعيم قاسم والسيد هاشم صفي الدين والسيد عبدالله صفي الدين والشيخ محمد كوثراني وغيرهم.

 في 12 كانون الأول/ديسمبر 1983، إستهدفت سبعة تفجيرات مُنسَّقة دولة الكويت وأودت بحياة ستة أشخاص وجرحت العشرات. شملت الأهداف السفارتين الأميركية والفرنسية؛ مطار الكويت؛ شركة “رايثيون”؛ منصة بترولية لـ “شركة النفط الوطنية الكويتية”، ومحطة كهربائية. إتهمت الكويت والولايات المتحدة وفرنسا جهات مرتبطة بإيران، بينها حزب الدعوة العراقي وحزب الله اللبناني بالوقوف وراء العمليات. تم إعتقال 17 شخصاً بينهم مصطفى بدر الدين (ذو الفقار) وجمال إبراهيم (أبو مهدي المهندس). هذه الواقعة التي تسمى بـعملية الكويت 17″(ربطاً بعدد الموقوفين)، يتردد أنها كانت أحد أبرز عوامل فتح الباب أمام قضية الرهائن الغربيين في لبنان، من أجل مقايضتهم بهؤلاء الموقوفين.

يتردد أن بدر الدين وأبو مهدي المهندس أستقلا زورقاً من ميناء كويتي بإتجاه السواحل الإيرانية، لتبدأ مرحلة جديدة في مسيرة هذين الرجلين وباقي رفاقهما من الموقوفين في القضية

ظل بدر الدين والمهندس موقوفين إلى العام 1990. عندما دخلت قوات التحالف العربي والدولي بقيادة الأميركيين إلى الكويت، تمكن جميع الموقوفين في هذه القضية من الفرار، ما بعد الثاني من آب 1990، في سياق عملية منظمة، أشرف عليها قياديون إيرانيون ولبنانيون، ويتردد أن بدر الدين وأبو مهدي المهندس أستقلا زورقاً من ميناء كويتي بإتجاه السواحل الإيرانية، لتبدأ مرحلة جديدة في مسيرة هذين الرجلين وباقي رفاقهما من الموقوفين في القضية.

نُسِبت أعمال كثيرة إلى المهندس قبل الإحتلال الأميركي، لكن الحقيقة الراسخة أنه كان شريك القيادي الكبير في حزب الله عماد مغنية في تأسيس “كتائب حزب الله ـ العراق”، عشية الغزو الأميركي (كان متيقناً عند الإيرانيين وحلفائهم أن الأميركيين سيجتاحون العراق). في العام 2003، إنطلقت عمليات “حزب الله ـ العراق”، ببصمات واضحة للمهندس ومغنية. تطور هذا الموقف إلى حد جعل الأميركيين يعتبرون أبو مهدي عدوهم العراقي الرقم واحد. ندر أن تجد فصيلاً عراقياً مقاوماً ضد الإحتلال الأميركي، إلا وتجد للمهندس بصمة في التأسيس والتطوير. هذه هي المهنة الأحب إلى قلبه. يحدد الرجل هدفه من جهة ولكنه يمقت المناصب من جهة ثانية. هو المسؤول العسكري الفعلي لفصائل الحشد الشعبي مهما كانت رتبته (آخر رتبة هي نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي). برغم ذلك، ظلت علاقته مميزة بـ”الكتائب”. لذلك، سلّم هؤلاء مسؤولية أمنه الشخصي، كونه كان يثق بهم وبتدريبهم وبمناقبيتهم. لم يكن طامحاً للسياسة بل زاهداً فيها، وعندما ترشح للنيابة، إنما بقصد الحصانة التي يمكن أن توفرها له كونه أحد أبرز الموضوعين على لوائح الإرهاب (2009) والمطلوب رأسهم للأميركيين منذ ثمانينيات القرن الماضي. إضطر لاحقاً للتخلي عن منصبه النيابي، مراعاة للأميركيين، وتحديداً في إنتظار جلاءهم عن العراق.

إقرأ على موقع 180  أفغانستان ـ أوكرانيا.. التاريخ يعيد نفسه!

تعرض المهندس إلى محاولات كثيرة للإغتيال السياسي من داخل “البيت الشيعي” العراقي، وحتى من فصائل “حشدية” على صلة طيبة بالأميركيين. بلغ التآمر أكثر من مرة حد إقصائه نهائيا عن كل هرمية سياسية أو تنظيمية، “فصائلية” أو “غير فصائلية”. ففي إحدى المرات، حاول الأميركيون الدفع بالقيادي ميثم الزيدي إلى قيادة “الحشد” وهو من المحسوبين على “المرجعية” (السيستاني)، وعند لحظة إتخاذ القرار لمصلحة الأخير، إقتحمت “الكتائب” الإجتماع وحذرت من أن أية محاولة للإطاحة بالمهندس هي جزء من مؤامرة أميركية، فسقط فورا خيار الزيدي. محاولات كثيرة لإقصاء المهندس شارك فيها كبار قوم “البيت الشيعي”، حتى أن معظم محاولات إعادة هيكلة “الحشد”، كانت تستهدف في جزء أساسي منها إقصاء أبو مهدي المهندس.

وقف قاسم سليماني (كان مشاركاً في الإجتماع)، وقال للحاضرين بصوت هادىء: “الحاج المهندس في العراق هو قاسم سليماني”

وعندما كاد المشاركون في إجتماع شارك فيه معظم قادة الطيف الشيعي (نوري المالكي وحيدر العبادي وهادي العامري وقيس الخزعلي) في العام 2016، يقتلعون المهندس من منصبه، وقف قاسم سليماني (كان مشاركاً في الإجتماع)، وقال للحاضرين بصوت هادىء: “الحاج المهندس في العراق هو قاسم سليماني”. عبارة كانت كافية من أجل إنهاء الإجتماع وبقاء أبو مهدي في منصبه، برغم أن الرجل كان يردد دوماً أنه ليس من المبالين بالمراكز والمناصب، لكنه كان موضع ثقة سليماني الذي ندر أن يدخل بغداد إلا من بوابة صديقه العراقي الأحب إلى قلبه أبو مهدي المهندس، الذي لطالما كان يجاهر بتأثره بشخصيات إيرانية جهادية أبرزها قاسم سليماني، من دون إغفال الدور الميداني الكبير للرجلين في تحرير العراق من “داعش” في العام 2017 وإعادة فتح خط طهران بغداد دمشق بيروت في العام 2019.

يبدأ العام 2020 من نقطة صعبة للإيرانيين: جرأة أميركية في إستهداف قائد محور إقليمي كبير: قاسم سليماني، فضلا عن إستهداف رجل  إيران الأول في العراق أبو مهدي المهندس. حتماً هناك من تنفس الصعداء في واشنطن وعواصم غربية وعربية، غير أن اللافت للإنتباه أن هناك من تنفس الصعداء أيضا في بغداد، بعد شطب ركيزتين اساسيتين من ركائز المقاومة في هذا البلد العربي الواقع في نقطة إستراتيجية مفصلية إستثنائية.

على مسافة قريبة جدا من مطار بغداد جاءت الضربة الأميركية. فساد الطبقة السياسية العراقية لا حدود له. مطار بغداد أحد عناوين هذا الفساد. هناك فساد أمني تتجاوز خطورته هذه العملية على فداحتها وأهمية الهدفين. يحيلنا الأمر إلى غياب منطق الدولة عند مكونات عراقية لا تعرف معنى وقيمة الدولة، الدليل أنها وقعت اتفاقيات مهينة وأدارت تفاهمات سهلت التعامل الأميركي المهين مع العراق والعراقيين.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  أزمة أوكرانيا.. «بروفة أخيرة» لحقائق عالمية جديدة