انسجمت أهمية انعقاد مؤتمر الجزائر مع ضرورة التأكيد على دور المعني (ليبيا) في حل أزمته بمعزلٍ عن أيّة وصاية أو تدخلٍ أجنبي، إذ أشار بيان وزارة الخارجية الجزائرية إلى أنّ المؤتمر يهدف إلى “تمكين الأشقاء في ليبيا من الأخذ بزمام مسار تسوية الأزمة في بلدهم بعيداً عن أي تدخل أجنبي من أيّ كان ومهما كانت طبيعته”.
ولفت مصدر دبلوماسي جزائري لوكالة “رويترز” إلى أنّ الاجتماع يقتصر على “دول جوار ليبيا”.
في المقابل، رفض وزير الخارجيّة بحكومة الوفاق الليبيّة محمد الطاهر السيالة، المشاركة في اجتماع وزراء خارجيّة دول الجوار في الجزائر، بسبب حضور ممثل عن حكومة طبرق في الشرق، التابعة للجنرال خليفة حفتر، واصفاً ذلك بـ “مخالفة صريحة لقرارات مجلس الأمن ولقرار كافة المنظمات الدوليّة التي تحظر التعامل مع الأجسام الموازية في ليبيا”.
لكن وزير الخارجيّة الجزائري صبري بوقادوم، نفى على هامش الاجتماع، ما نقلتهُ “رويترز” من دعوتها لأي طرف ليبي في الاجتماع، ملمّحاً إلى الدعوة المزعومة لممثل الحكومة “الموازيّة” أو “المؤقتة” المنبثقة عن مجلس النواب شرق ليبيا عبد الهادي الحويج،، التابع لحفتر، حيث قال:”إنّ الجزائر لم توجّه دعوة إلى الأطراف الليبية للمشاركة في اجتماع دول الجوار” الذي احتضنته بلاده ومؤكداً ما “نشرته (وكالة) الأناضول في هذا الصدد”.
وقد انعكس النفي إيجاباً على موقف حكومة فايز السرّاج سريعاً، إذ رحّبت لاحقاً بالبيان الختامي لاجتماع وزراء خارجيّة دول الجوار الليبي، ونشرت ذلك في صفحتها على موقع “فايسبوك”.
مخرجات الاجتماع وجهود التسويّة
التأم اجتماع دول الجوار الليبي على ضرورة التأكيد على مخرجات قمّة برلين حول ليبيا المنعقدة يوم 19 كانون الثاني/ يناير 2020، حيث شدّد على ضرورة الدفع بمسار التسويّة والاتفاق على إيجاد السبل الكفيلة بدعم هذا المسار، والقادرة على المضي بليبيا إلى حالة من الانفراج التام، دون خسائر أخرى أحدثتها هذه المرحلة الحساسة والدقيقة في تاريخها.
وقد دعت الأطراف الموقعة على نص البيان الختامي، إلى ضرورة الانخراط في حوار وطني جامع بمشاركة الاتحاد الإفريقي ودول الجوار الليبي وبرعاية الأمم المتحدة، من أجل التوصّل إلى حلٍ وطني دون اللجوء أو القبول بأيّ شكلٍ من أشكال التدخل الخارجي، متّخذة من تصريح وزير الخارجيّة الجزائري صبري بوقادوم القائل بأنّ “حل الأزمة الليبية يتطلب أن يكون ليبياً-ليبياً بدعم من المجتمع الدولي، وتأكيده أن دول الجوار ترفض أي تدخلات خارجية في ليبيا”، ركيزةً أساسيّة في مقرارات اجتماعها.
واعرب المشاركون في الاجتماع في الآن ذاته عن “انشغالهم العميق” بـ “التطورات الخطيرة التي تشهدها ليبيا وتداعياتها السلبية على أمن واستقرار دول الجوار”، مؤكدين في نفس السياق على “تضامنهم التام مع الشعب الليبي الشقيق”، حاثين الأطراف المتصارعة على ضرورة الالتزام بـ “وقف إطلاق النار”، ومشددين على “تطلعهم إلى “تسوية سلميّة”، يهتدي إليها “الأشقاء الليبيون من أجل بلادهم، بعيداً عن أيّة حلول عسكريّة أو تدخلات أجنبيّة، بما فيها المرتزقة والميليشيات، تُمكّن من تنظيم انتخابات شفافة تحقق تطلعات الشعب الليبي وتحفظ استقلال ليبيا ووحدتها وسيادتها على كامل أراضيها”، مع التذكير بـ “الرفض القاطع للإرهاب، وللعنف أيّاً كان شكله ومصدره”.
كما وُجهت الدعوة إلى “الأشقاء الليبيين للعودة إلى المسار السياسي برعاية الأمم المتحدة، في إطار الاتفاق السياسي الليبي وقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة”.
وأكد الوزراء، حسبما أفاد به تلفزيون “النهار” الجزائري، دعمهم للجهود والمبادرات الرامية لإيجاد حلٍ للأزمة الليبية، ولمخرجات قمّة برلين التي كرّست الدور المحوري للمبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة غسان سلامة، في “تيسير العملية السياسيّة والمصالحة الشاملة في ليبيا”، دون أن ينوّهوا إلى ميل سلامة إلى حكومة فايز السراج بشكل معبّر عنهُ أكثر من مرة.
وشدّد الوزراء، بحسب مصدر قريب من دوائر صناعة القرار الجزائري، على الأهمية التي توليها دول الجوار لتأمين حدودها مع ليبيا، وعلى ضرورة التنسيق والتعاون من أجل التصدّي لكافة المخاطر التي تهدد أمن واستقرار ليبيا وكافة دول المنطقة، بما فيها الساحل.
وأشاد المشاركون بـ “الجهود التي بذلتها الجزائر خلال الفترة التي سبقت انعقاد مؤتمر برلين، والتي تجسّدت في زيارات العديد من الوفود رفيعة المستوى إلى الجزائر من بينها وفود ممثلة للأطراف في الأزمة الليبية، كما أشادوا بإعلان الجزائر، خلال مؤتمر برلين، عن “استعدادها لاحتضان لقاءات بين الأشقاء الليبيين، لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء الليبيين ودعوتهم للعودة إلى طاولة الحوار والتفاوض لإنهاء الأزمة الليبية بما يحفظ وحدة الشعب الليبي وسيادته”.
وانتهى المجتمعون يوم أمس، إلى “مواصلة التشاور والتنسيق من أجل إبلاغ موقف دول الجوار للمجتمع الدولي”، شاكرين الجزائر على مبادرتها باستضافة هذا الاجتماع التأسيسي لمسار جديد من التسويّة الجواريّة.
وفي غضون ذلك، قال وزير الخارجية المصري سامح شكري: “لا نرى تسوية للأزمة الليبية إلا بتشكيل حكومة مستقلة ونزع سلاح الميليشيات وتوزيع الثروات وتنظيم الجيش. مصر لن تسمح بالعبث بأمن ليبيا والأمن القومي لدول المنطقة… نحن داعمون للشعب الليبي برفضه التام لمحاولات السطو على مقدّراته وانتهاك سيادته”.
ودعا وزير الخارجيّة هايكو ماس في كلمة ألقاها خلال أطوار الاجتماع، مجلس الأمن الدولي إلى “فرض عقوباتٍ على من يخرق وقف إطلاق النار في ليبيا، وأنّ “لا حل إلا الحل السياسي في ليبيا، ذلك أنّ “ألمانيا تدعم كل من يسعى إلى هذا الحل”.
من جهتها رحّبت وزارة الخارجيّة الليبيّة بوصفها المعنية الأولى بالاجتماع، بمخرجاتهِ والنتائج التي أفرزها في بيانٍ لها نشرتهُ في صفحتها على “فايسبوك” بالتالي: “أعلنت وزارة الخارجية بحكومة الوفاق الوطني ترحيبها بالبيان الختامي لاجتماع وزراء خارجية دول الجوار الليبي الذي انعقد في الجزائر العاصمة”.
جاء هذا كله، بعد أن قال الناطق باسم قوّات حفتر اللواء أحمد المسماري خلال مؤتمر صحافي: “نعلن تفعيل منطقة الحظر الجوي فوق العاصمة الليبية وضواحيها”، مضيفاً: “قاعدة معيتيقة الجويّة ومطار معيتيقة هما مناطق عسكريّة، ممنوع منعاً باتاً استخدامها للطيران المدني أو العسكري. إنّ تحليق أي طائرة، مدنيّة أو عسكريّة، أياً كانت تبعية هذه الطائرة وتبعية الشركة المالكة لها، سيشكّل خرقاً لإطلاق النار وبالتالي سيتم تدميرها بشكل مباشر”.
وبرّر المسماري هذا القرار بـ “إنّ مطار معيتيقة يُستخدم لغايات عسكريّة من أجل استقدام مسلحين من تركيا التي تدعم حكومة الوفاق الوطني المناوئة لـ حفتر”.
إلى ذلك، صرّح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بأنّ بلاده لا تعتزم “إرسال مزيد من المستشارين العسكريين إلى ليبيا أثناء وقف إطلاق النار”، كبادرة حسن نية حيال مخرجات مؤتمر برلين واجتماع دول الجوار في الجزائر.
نُذر الفشل و”علامات” النجاح
يبدو التكهن بالمستقبل الليبي غامضاً هو الآخر، بعد جهود التسويّة، سواءً قمة برلين أو اجتماع الجزائر، إذ إنّ الطرفين في ليبيا، باتا مع التحالف وتفعيل لعبة المحاور أطرافاً؛ تجتمع كالعضلة في كل مفصلٍ، لا يني برهةً عن تأكيد استعداده لفعل أيّ شيء مقابل ضمان بقائه في الواجهة.
ما يخرّبهُ حفتر يغنمهُ السرّاج، وما “يسيّسهُ” السرّاج يُعسكره حفتر
ما يزيد من استشراف نُذر الإخفاق، هو احجام رئيس حكومة الوفاق فايز السرّاج عن ذكر خصمه بالاسم، وإطلاق مسمّى “الجهة المعتدية” على “الجيش الوطني” بقيادة خليفة حفتر، في لقاءيّه مع قناة “الجزيرة” القطريّة و”بي بي سي” البريطانيّة في نسختها العربيّة في اليومين الماضييْن، ما يعني حفاظهُ على حالة التصعيد بذات الوتيرة التي كانت عليها، على أنّ لا تتطوّر المواجهة وتأخذ شكلاً عسكرياً.
هذا السياق الأدبي في الوصف، يجعل الظنّ ناجعاً في اقتصار قمة برلين واجتماع الجزائر على وقف إطلاق النار واستبعاد الحل النهائي للأزمة الليبيّة حتى إشعارٍ آخر.
ولعلّ الإنجاز الوحيد هو الذي يعتبرهُ الصحفي الأميركي بوبي غوش في مقالٍ لهُ في “واشنطن بوست” نشرهُ قبل يومين، “بقعة ضوءٍ” لـ قمة برلين، هو عدم مغادرة الجنرال خليفة حفتر ألمانيا قبل انتهاء المؤتمر كما فعل في موسكو. لكنّه عاد إلى سلوكه القديم عندما هدّد بـ “حظرٍ جوي” لن يتوانى خلاله في قصف أيّ هدفٍ حتى لو كان طائرة مدنية! في الوقت الذي تشهد الجزائر مؤتمراً يتّصل بمستقبل بلاده!
يحدث كل هذا، وفايز السرّاج يبدي مرونة كبيرة في التعامل مع حلفاء عدّوه الداخلي، فقد “تقاعس” عن وصفه بأيّ سوءٍ خلال اللقاءين التلفزيونيين المشار إليهما آنفاً، كأنّه يرغب على غرار ذلك، في إخبار العالم بأنّه رجل سياسة يُعتدّ به، فلم يفرّ من اجتماع موسكو، ووقّع على اتفاق وقف إطلاق النار، وشارك في مؤتمر برلين، وأعرب عن ترحيبه بمخرجات اجتماع الجزائر، لم يستفز حلفاء خصومه بأيّ لغة تجانب الدبلوماسيّة.
في المقابل، قفل حفتر عائداً إلى شرق ليبيا قبل توقيع اتفاق موسكو، ولم يبدِ أيّ ردّة فعلٍ ظاهرة في مؤتمر برلين، واستنكف عن التعليق إلى الآن عن اجتماع الجزائر، ولا يكفّ عن التحرّش بحلفاء خصمه.
والحال أنّ ما يخرّبهُ حفتر يغنمهُ السرّاج، وما “يسيّسهُ” السرّاج يُعسكره حفتر، وهي حالة مرجعيّة في التفريق بين السياسي والعسكري، بغض النظر عن الموقف الأخلاقي من كلا الطرفين، ذلك أنّ شهاب الدين “أفعل” من أخيه.