تأتي الجولة الثانية من المناقشات مع حكومة ميقاتي بعد فشل الأولى واختتامها ببيان “جاف” ذكّر فيه الصندوق بكلمات مباشرة لا تدوير زوايا فيها، بأبرز العناوين الإصلاحية، مع إشارة ضمنية إلى رفض ما قدّمه الفريق اللبناني في ورقة لمعالجة خسائر قدرت بنحو 69 مليار دولار، تشكل حقوقاً للمودعين تبخرت في مصارف لبنان وبنكه المركزي.
وبينما كان عنوان الورقة اللبنانية “إعادة ترميم القطاع المالي”، أتى مضمونها على شكل مقترحات غير واقعية لرد الودائع لأصحابها، وردم فجوة الخسائر فيها، في مدى 15 سنة. إذ قامت على “ليلرة” (سداد الدولار بالليرة) بحجم كبير استهجنه الصندوق لما له من تداعيات آنية ومستقبلية غير محسوبة المخاطر على سعر صرف الليرة اللبنانية والتضخم، بفعل استسهال “ليلرة” بطبع للعملة يضاعف الكتلة النقدية 12 مرة.
اضطر الفريق الحكومي اللبناني، حسب مشاركين في المفاوضات، لإعادة النظر في تلك الورقة، مع درس مقترحات جديدة لمعالجة الخسائر ورد الودائع، أبرزها الآتي:
-20 مليار دولار على عاتق مصرف لبنان المركزي والمصارف.
-20 مليار دولار على عاتق الدولة اللبنانية.
-29 مليار دولار يشطب منها 13 ملياراً هي الفوائد الباهظة التي كانت تراكمت على الودائع لا سيما الكبيرة، مع امكان رد الباقي بالدولار وبالليرة وفقاً لسعر السوق.
حكومة ميقاتي تريد الآن خطب ود صندوق النقد قبل طلب المال منه. لذا ستحاول “الفوز” ببيان يصدر عن الصندوق قبل نهاية الشهر الحالي أو في النصف الأول من الشهر المقبل يتضمن إشارة إلى حصول تقدم في المفاوضات (ولو على الورق)
وفي المقترحات الجديدة سداد كامل الودائع البالغة قيمة الواحدة منها 200 الف دولار وما دون في مدى 7 سنوات، ويغطي المقترح 91% من اجمالي حسابات المودعين في المصارف اللبنانية، علماً بأن التمييز قد يستمر بين أصحاب الودائع قبل 17 تشرين الاول/ أكتوبر 2019 وبعده، لجهة اجراء “هيركات” أو اقتطاع ما على الليرات التي تحوّلت الى دولارات بعد اندلاع الأزمة.
وهناك أيضاً بحث في معاملة تفضيلية ما أيضاً للودائع بين 200 ألف ومليون دولار (أو أكثر أو أقل بقليل) من دون معرفة كيفية السداد وجدولته.
بالنسبة للودائع الكبيرة ونسبة عدد حساباتها بين 1 و2 % من إجمالي حسابات المودعين، والتي سبق أن إقتُرِحَ تحويل أجزاء اساسية منها إلى مساهمات في المصارف (بايل إن)، فقد أعيد النظر بشأنها لناحية إمكان تحويلها الى أسهم في مؤسسات للدولة اللبنانية يمكن خصخصتها مستقبلاً أو في شركات يملكها مصرف لبنان مثل طيران الشرق الأوسط وأنترا وكازينو لبنان إلخ.. ضمن مخطط أكبر لاستخدام أصول الدولة اللبنانية عموماً بمقدار 20 مليار دولار.
تجدر الاشارة الى انها المرة الثالثة التي تُطرح فيها محاولات علاج لأزمة الودائع، بعد مقترحات “لازار” أيام حكومة حسان دياب، ومقترحات الفريق الذي تشكل بعد تكليف نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة. فهل تكون “الثالثة ثابتة”؟
للإجابة عن هذا السؤال، يجدر التعريج على جملة مندرجات ذات صلة أبرزها الآتي:
أولاً؛ لا نجاح لخطة من هذا النوع تمتد 7 سنوات أو أكثر، اذا لم تندرج في اطار خطة اقتصادية عامة تحدد أهدافاً لتعافي الاقتصاد ونموه خلال نفس المدة، فالمال نتاج الاقتصاد وليس العكس. وهنا تكمن صعوبة في وضع تنبؤات وسيناريوهات اقتصادية تبقى رهن الاصلاحات الجذرية والأحداث السياسية والأمنية المحلية والإقليمية.
ثانياً؛ اذا وافق صندوق النقد على المقترحات الجديدة، فإنه سيطلب، الى جانب الخطة الاقتصادية العامة، إصلاحاً مالياً وضريبياً يُدرج في موازنات السنوات المقبلة لزيادة الإيرادات مقابل تقشف نسبي مقابلها في الإنفاق. كما يُشدّد على ضرورة الإسراع في الإصلاح المصرفي وإعادة هيكلة القطاع المصرفي ورسملته بأموال طازجة جديدة، بعد ترشيقه بعمليات دمج واستحواذ وتصفية لينخفض عدد البنوك الى النصف أو أقل بعدما هبط الناتج المحلي من 55 مليار دولار الى 22 ملياراً فقط، ولم يعد بحاجة الى 60 مصرفاً، وبالتالي، ستبقى حقوق المودعين رهينة ما يمكن للحكومة أن تقوم به من إصلاحات على عدة مستويات متصلة ومعقدة. ولإنجاح مجمل الخطط لا بد من التوصل الى سعر صرف مرن لليرة يمكن الدفاع عنه نسبياً. والأعقد يكمن في شروط الصندوق الخاصة بترشيق القطاع العام وإصلاحه وزيادة الحوكمة والشفافية فيه، فضلاً عن ضرورة مكافحة الفساد، كما جاء في البيان الأخير لصندوق النقد بشأن المفاوضات مع حكومة ميقاتي!
ثالثاً؛ ليس سراً أن العقد الأساسية مستمرة لا سيما صعوبة الإصلاحات، لكن الحكومة تستبشر خيراً باتفاق مبدئي (تمهيدي) مع الصندوق لتبدأ التفاوض مع الدائنين الأجانب حملة سندات اليوروبوندز. فاذا كان الصندوق يُشدّد على إستدامة الدين العام، أي التأكد من قدرة الدولة اللبنانية على الوفاء به من دون تعثر مرة أخرى، فان الحكومة اليوم أمام فرصة ذهبية لخفض الدين العام، الموزع بين 60% محلي بالليرة و40% أجنبي بالدولار، من نحو 100 مليار دولار (مع الفوائد المتراكمة عليه) الى ما بين 11 و12 ملياراً فقط بسبب هبوط سعر صرف الليرة أكثر من 92%، وامكان إجراء هيركات (اقتطاع) على الدين الأجنبي بنسبة 85%. على هذا النحو تنخفض نسبة الدين الى الناتج من 200% الى 50% فقط، فيمكن للحكومة الاستدانة مجدداً من الأسواق المالية إذا إتفقت مع الصندوق ونفذت الإصلاحات، ومنحها مقابل “إنجازها” شهادة حسن سلوك مالي وإقتصادي وإئتماني يُخوّل المستثمرين والدائنين الآخرين إستعادة الثقة بلبنان وحكومته واقتصاده.
رابعاً؛ تُطرح أمام الحكومة معضلة الحفاظ على سعر الصرف كما هو حالياً عند عتبة الـ 20 الف ليرة للدولار الواحد، مع الإشارة إلى أن مصرف لبنان يدافع عن الصرف حالياً بأدوات مختلفة بينها ما تبقى من إحتياطات دولارات لديه هي عملياً ما تبقى من أموال المودعين، علما أن حاكمية مصرف لبنان تعهدت للحكومة بالحفاظ على سعر الصرف الحالي حتى إقفال صناديق الإقتراع في الخامس عشر من أيار/ مايو المقبل.
لا نجاح لخطة من هذا النوع تمتد 7 سنوات أو أكثر، اذا لم تندرج في اطار خطة اقتصادية عامة تحدد أهدافاً لتعافي الاقتصاد ونموه خلال نفس المدة، فالمال نتاج الاقتصاد وليس العكس. وهنا تكمن صعوبة في وضع تنبؤات وسيناريوهات اقتصادية تبقى رهن الاصلاحات الجذرية والأحداث السياسية والأمنية
ولأجل سعرٍ متوازن مستقبلاً، لا بد من خروج مليارات الدولارات المُخزنَة في البيوت وعودة التدفقات الدولارية الخارجية الى البلاد ليفيض ميزان المدفوعات، ولا بد من نمو إقتصادي مرتفع بين 6 و10% للمديين المتوسط والطويل (7 سنوات على الأقل)، ولا بد من مالية عامة غير عاجزة بفضل إيرادات تتحقق من زيادة الضرائب والرسوم ومكافحة التهرب الضريبي والجمركي، وتعظيم الإيرادات من الأصول العامة المطروحة لزوم سداد جزء من الودائع.
خامساً؛ صحيح أن المهمة صعبة، لكن حكومة ميقاتي تريد الآن خطب ود الصندوق قبل طلب المال منه. لذا ستحاول “الفوز” ببيان يصدر عن الصندوق قبل نهاية الشهر الحالي أو في النصف الأول من الشهر المقبل يتضمن إشارة إلى حصول تقدم في المفاوضات (ولو على الورق). بعد ذلك، تتفرغ الحكومة لاستحقاق إجراء الانتخابات النيابية، ثم تشكيل حكومة جديدة – إذا تشكلت – وسرعان ما تدخل البلاد موسم الانتخابات الرئاسية. ما يشي بتوقع تأجيل التفاوض الرسمي والجدي والتفصيلي مع الصندوق الى مطلع العام 2023، إذا توفر رئيس توافقي للجمهورية.
والجدير ذكره في هذا السياق أن المفاوضات بين لبنان وصندوق النقد كانت قد إنطلقت في أولى جولاتها مع حكومة حسان دياب في العشرين من آذار/ مارس 2020، أي أن لبنان أهدر سنتين من الوقت حتى الآن.. والحبل على الجرار!
ومن نافل القول أن الطبقة الحاكمة تُمعن في شراء الوقت من دون تنفيذ أي إنجاز في أي ملف إصلاحي قد يُضعف قبضتها ويُضر بمصالحها ومصالح أزلامها، وهي تُراهن على تفهم الصندوق، ومن ورائه المجتمع الدولي، لواقع الحال المعقد في لبنان. لكن ذلك التفهم لا يُصرف في أي مكان ليبقى الحال على ما هو عليه حتى أمد غير قصير، وتحديداً حتى استهلاك نحو 11 مليار دولار من إحتياطي العملات الأجنبية في مصرف لبنان، وربما التصرف بمخزون الذهب البالغة قيمته 18 ملياراً. وبمبلغ إجماله 29 مليار دولار يمكن شراء 4 إلى 6 سنوات اضافية. لذا ثمة سؤال يَطرَح نفسه عن لعبة القط والفأر بين الطبقة السياسية اللبنانية وخبراء صندوق النقد: من يضحك على من؟