معركة داعش الأخيرة
شكّلت هزيمة تنظيم “داعش” في معركة الباغوز في شهر آذار/مارس من العام 2019، الخطوة الأخيرة في انهيار خلافته المزعومة. وقد دخل التنظيم في أعقاب المعركة ضمن نفق طويل من الفوضى والشتات: آلافٌ من مقاتليه وقعوا في مصيدة الاعتقال وسط تجاذب دولي حول مصيرهم. أما نساء هذا التنظيم وعائلات مقاتليه، وبينهم آلاف الأطفال، فلم يجدوا مأوى يضمهم سوى مخيمات بدائيّةٍ متناثرة في الشرق السوري.
في غضون ذلك، كان بالإمكان تتبّعَ فتح مسار خاص لبعض كبار قادة التنظيم وعائلاتهم لتجنيبهم الوقوع في الاعتقال عبر تأمين تهريبهم إلى بعض الدول المجاورة وخاصة تركيا، قبل أن يتم “إستثمارهم” في جبهات جديدة!
مع ذلك، ما زال من السابق لأوانه تقييم حجم النزيف الذي لحق بمقاتلي داعش وقادته، خصوصاً في ظل تقارير صادرة عن الأمم المتحدة والبنتاغون تتحدث عن بقاء ما يقارب 14 ألفاً من مقاتليه بين سوريا والعراق.
مقتل البغدادي
في خضمّ الفوضى السابقة التي استغرقت أشهراً طويلة، كانت روح “كايلا مولر” الناشطة الأميركية التي قُتلت في سجون داعش، تسحب مسمار الأمان من قنبلة سيدويّ صوتها طويلاً: قُتل أبو بكر البغدادي.
ففي فجر 26 تشرين الأول/أكتوبر، كانت عملية إنزال نفذّتها وحدةٌ من القوّات الخاصّة الأميركية في بلدة باريشا بريف إدلب، تنسج لغز مقتل البغدادي في عقر دار أعدائه. ولا يقتصر اللغز على كيفية وصول البغدادي من الحدود السورية – العراقية إلى إدلب في أقصى الشمال السوري، بل تعدّى ذلك إلى رسم علامات استفهام كبيرة حول السبب الذي دفع البغدادي لاختيار إدلب دون غيرها لتشكل مخبأه الأخير، هل هو العجز أم كان في تفكير الرجل سيناريوهاتٍ أخرى تتعلّق بطموحه لإيجاد منصة ظهور جديدة بعد أن خسر “دار خلافته”؟.
وممّا لا شك فيه أن تلاشي السيطرة المكانية لتنظيم داعش، ومقتل زعيمه هارباً متخفياً في معقل خصومه، مثّلتا ذروة الانهيار الذي أصاب التنظيم خلال العام المنصرم. ولكن ما زال من غير الواضح حتى الآن حجم التداعيات التي يمكن أن تترتب عليهما بالنسبة لبنية التنظيم وأدواره المحتملة في ميدان الأحداث. إذ وسط تفاؤل البعض بأن التنظيم بات يواجه مساراً انحدارياً غير مسبوق، هناك من يقلّل من تأثير ذلك على مستقبل داعش وإمكانية عودته، وذلك إستناداً إلى تجربة التنظيم في العراق بعد هزيمته على يد “الصحوات” في العام 2009 حيث لم يطل به العهد حتى تمكن من تجديد نفسه وركوب موجة الأحداث في سوريا ليبني امبراطوريته المعروفة.
يمكن القول أن تنظيم داعش بات اليوم يتواجد على أرضيّة معقدة من الصراعات الاقليمية والدولية العابرة لحدود دول عدة، وأنه يقف عند مفترق طرق من شأنه أن يحدد مصيره ومستقبله
إرث البغدادي واستراتيجيات العودة
وعلاوة على خبرته العراقيّة السابقة، كشفت التطورات اللاحقة أن أبا بكر البغداديّ لم يرحل قبل أن يضع لتنظيمه الخطوط العريضة لاستراتيجية التعايش مع واقع الهزيمة المكانية ومنعِ انتقالها إلى هزيمة تصيب الإرادة.
وأهم هذه الخطوط التي وضعها البغدادي:
1- ترك وصيّة باسم الشخص الذي سيخلفه في منصبه، وهو أبو ابراهيم الهاشمي القرشي. وتدلّ هذه الوصية أن البغدادي كان يتحسّب جديّاً لاحتمال اغتياله وما يستتبعه من فراغ في القيادة. كما تدلّ على أن كلمة البغدادي ما زالت مسموعة حتى بعد غيابه. وهذا ما يثبته التزام أعضاء مجلس الشورى بوصية زعيمهم واتفاقهم على مبايعة الهاشمي.
2- وضعَ البغدادي قبل مقتله استراتيجية “الاستنزاف القصوى” كمرحلة لا بدّ من اختبارها قبل التفكير بالعودة إلى “التمكين”. وتعتبر استراتيجية الاستنزاف هي الحدّ الأقصى والأخطر من أداة “النكاية” باعتبارها الخطوة التي تسبق إدارة التوحش في أدبيات الجهادية العالمية. وقد أثبت أداء التنظيم في ظل قيادته الجديدة مدى التزامه بالاستراتيجية التي وضعها زعيمه السابق، حيث واظب على اتّباع السياسة ذاتها التي تقوم على نشر المفارز الأمنية في معاقل الخصوم والأعداء لتنفيذ عمليات الاغتيالات والتفجيرات والخطف والابتزاز.
3- هدم الأسوار واقتحام السجون: كذلك دعا البغدادي في آخر تسجيل صوتي له إلى مهاجمة السجون لإطلاق سراح مقاتلي التنظيم وعائلاتهم من سجون أعدائه. وثمة معلومات متقاطعة وردت في تصريحات مسؤولين في “قسد” وبعض المسؤولين الأميركيين وفي بعض التقارير الاستخبارية تؤكد أن القيادة الجديدة للتنظيم ما زالت تتبنّى تحقيق هذا الهدف الذي يُعرف في أدبيات التنظيم بـ”هدم الأسوار”.
توّج “فرع ليبيا التابع لولاية غرب أفريقيا” عملياته بنشر إصدار “أخرجوهم من حيث أخرجوكم” الذي يمكن اعتباره بمثابة تدشين لمرحلة إعلامية جديدة يستعد لها التنظيم
كلّ ما سبق، يشير إلى أن تنظيم داعش ما زال محكوماً بإرث زعيمه السابق أبي بكر البغدادي. ولا غرابة في ذلك لأن منطق “الاستصحاب” يتطلب إبقاء ظلّ البغدادي مخيّماً لفترة محددة، لضمان عدم تفكك التنظيم وانهياره من الداخل، وذلك ريثما تتبلور شخصية زعيمه الجديد ويجمع بين يديه كافة الخيوط اللازمة للقيادة، وهذا يحتاج إلى وقت ليس بقصير. ولعل ما يمكن القياس عليه أن البغدادي نفسه استغرق الأمر منه أكثر من سنتين قبل أن يفرض رؤيته القيادية بعد مقتل سلفه أبي عمر البغدادي عام 2010.
داعش على مفترق طرق
تتقاطع استعدادات داعش السابقة لانتهاز أيّة فرصة للإطلال برأسه على مسرح الأحداث في المنطقة، مع انطلاق موجة من التقارير الاستخبارية التي تضمنت تحذيرات واضحة حول إمكان عودة التنظيم لا سيما بعد تزايد نشاطه في عدد من مناطق العالم ومنها غرب أفريقيا وليبيا بالإضافة إلى سوريا والعراق. ويشير هذا التقاطع إلى مسألتين هامتين: الأولى، أن احتمال عودة التنظيم إلى الخريطة العسكرية والأمنية للمنطقة بات يستند إلى معطيات ومعلومات دقيقة لا ينبغي تجاهلها. والثانية، أن بعض أجهزة الاستخبارات التي تروّج في تقاريرها لاحتمال عودة التنظيم، قد تكون لديها غايات مختلفة وغير بريئة يصبّ بعضُها في خانة العودة إلى استخدام شمّاعة التنظيم وتوظيفها ضمن مسارات محددة، بالسياسة والأمن.
وانطلاقاً من ذلك، لا يمكن فهم تحذيرات البنتاغون المتكررة من خطر داعش واحتمال استعادته لقوته في سوريا، على أنه مجرد انعكاس لمعلومات أمنية محضة. بل يتعلق الأمر في جانب منه بالخلاف بين البنتاغون والبيت الأبيض حول السياسة الواجب اتباعها في سوريا. إذ بينما يميل الثاني إلى الانسحاب من “أرض الرمال والدماء” والتخلي عن “الحروب العبثية”، يتمسك الأول بضرورة البقاء لأسباب مختلفة تمتد بدءاً من مواجهة النفوذ الروسي المتزايد مروراً بحماية أمن إسرائيل عبر تقليص الوجود الايراني وصولاً إلى الحفاظ على بعض التأثير في صياغة الحل السياسي للأزمة السورية. وقد انعكس هذا الخلاف على موقف الطرفين من خطر داعش واحتمال عودته. فالبيت الأبيض يركّز على مسألة “الانتصار” وانتهاء الخلافة وزوال السيطرة المكانية للتنظيم، في حين لا يملّ البنتاغون من التأكيد على أن انتهاء السيطرة المكانية لا تعاني نهاية التنظيم. وتصدر بين الفينة والأخرى تقارير عن تزايد نشاطه وتصاعد التهديد الذي يمثله. ولا يَخفى أن أحد الأسباب التي تدفع البنتاغون إلى اتباع هذه السياسة هو إدراكه أن خطر داعش بات يشكل الذريعة الوحيدة التي تمكّنه من مواجهة منطق البيت الأبيض بخصوص الانسحاب.
وقد لعبت السياسة الأميركية غير المستقرة دوراً بارزاً في رفع منسوب الفوضى والتوتر في منطقة شرق الفرات، سواء عبر تضارب قراراتها بين انسحاب شامل والاتجاه بعد ذلك إلى احتلال مناطق النفط أم عبر إعطائها الضوء الأخضر لغزو تركي امتد بين رأس العين وتل أبيض. وكان تنظيم داعش أول المستفيدين من مناخ الفوضى والتوتر. وتمثلت فائدته الكبرى في الصراع المحتدم بين تركيا والأكراد حيث وجد فيه فسحة وفّرها له الطرفان من أجل إلتقاط أنفاسه وإستعادة نشاطه. وهو ما ظهر جلياً من خلال تزايد عملياته الأمنية في دير الزور وريف الحسكة، حتى أنه أطلق “غزوة الثأر” لمقتل زعيمه البغدادي. والمفارقة أن الأتراك والأكراد يتبادلون الاتهامات حول دعم الطرف الآخر للتنظيم وتسهيل حركته.
ليبيا.. وغرب أفريقيا
وبينما تتعمق الأزمة الليبية على وقع فشل الأمم المتحدة وتصاعد التدخلات الخارجية، أفسح ذلك لتنظيم داعش فسحةً من الزمن والجغرافيا من أجل إعادة ترتيب أوراقه وتنظيم صفوفه بما سمح له بتجديد نشاطه عبر تنفيذ عمليات كبيرة في بعض مناطق الجنوب الليبي. وقد توّج “فرع ليبيا التابع لولاية غرب أفريقيا” عملياته بنشر إصدار “أخرجوهم من حيث أخرجوكم” الذي يمكن اعتباره بمثابة تدشين لمرحلة إعلامية جديدة يستعد لها التنظيم من شأنها التذكير بإعلامه السابق الذي قام على التخويف والترويع.
وبرغم الفوارق، فإن حالة العراق الذي يمر بأزمة داخلية غير مسبوقة منذ الغزو الأميركي عام 2003، لا تبدو استثناءً من قاعدة خروج داعش من رحم الفوضى. ومما له دلالته في هذا السياق أن “ديوان الإعلام المركزي في داعش” اعتبر الهجوم الذي نفذه مقاتلو التنظيم مؤخراً في سامراء بمثابة تدشين لسياسة “الاستنفار المُجهد” ونظر إليه على أنه نموذج يمكن الاقتداء به.
ويذهب خبراء عراقيون إلى أن أزمة الحكم العراقية وانعكاساتها الخطيرة، ليس لها تبعات مباشرة بما يخص موضوع داعش واحتمال عودته. ويستند هؤلاء إلى أن المناطق الساخنة في الأزمة الراهنة هي المحافظات الجنوبية ذات الغالبية الشيعية، وبالتالي هي بعيدة جغرافياً واعتبارياً من ميادين اللعب التقليدية التي ينشط فيها التنظيم عادةً.
ومن الممكن أن يستدرج إنخراط العراق في بؤرة الإشتباك الأميركي – الايراني المتصاعد، إثر إغتيال الجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس ومطالبة السلطات العراقية بإنسحاب جميع القوات الأجنبية عن أرض العراق، تداعيات خطيرة على المشهد العراقي، سيحاول تنظيم داعش، الذي لا تنقصه الخبرة، التسلل عبر هذه الصراعات وتجييرها لمصلحته، فضلا عن إمكان إستعمال التنظيم من قبل أجهزة الإستخبارات.
من كلّ ما سبق، يمكن القول أن تنظيم داعش بات اليوم يتواجد على أرضيّة معقدة من الصراعات الاقليمية والدولية العابرة لحدود دول عدة، وأنه يقف عند مفترق طرق من شأنه أن يحدد مصيره ومستقبله. غير أن الأمر لا يتعلق فقط بطبيعة الخيارات التي سيتخذها التنظيم وكيفية تعامله مع بعض هذه الصراعات ومدى قدرته على استغلالها وتوظيفها لمصلحته، بل يتعلق أيضاً بسياسة بعض الدول وطبيعة أدائها والأساليب التي ستلجأ إليها من أجل معالجة بعض ما يواجهها من انسدادات في هذا الملف أو ذاك.
هل سيكون داعش ضمن خيارات هذه الدول لاعتماد دواء الكيّ في حال أخفقت وصفات العلاج الأخرى أو في حال شعرت أنه لا بد من إعادة خلط الأوراق والعمل على ترتيبها من جديد انطلاقاً من ورقة داعش؟ وسوف يبقى التساؤل الأهم: ألا يقود ذلك إلى ترسيخ معادلة التقاطع بين داعش وبعض الصراعات الاقليمية والدولية لدرجة يصعب معها تصور وجود التنظيم إلا في بيئة حاضنة تتمثل في مناخ الفوضى الذي تبثه تلك الصراعات؟.