منذ وصوله الى سدة الرئاسة قادماً من عالم الاستخبارات، وضع فلاديمير بوتين نصب عينيه استعادة محورية الدور الروسي عبر الموازنة بين القوة والدبلوماسية. لكن بوتين تعامل بواقعية مع تفكك الاتحاد السوفياتي السابق قائلا: “من لا يأسف لتفكك الاتحاد السوفياتي لا قلب له، ومن يتمسك ببعثه مُجدّدا لا عقل له”. هو لا يريد بعثَ مجدِ اتحادٍ تفكك، لكنه لم ولن يقبل التفريط بالأمن القومي لبلاده، ولا بإضعاف دورها مهما كلّف الأمر، لذلك كان منذ مؤتمر ميونيخ في العام ٢٠٠٧، قد حدّد معالم الطريق، بقوله إنه لا يريد صراعا مع واشنطن، لكن عليها أن “تتعامل معنا كأنداد وليس كأتباع”.
ومنذ قراره الاستراتيجي الكبير بالانخراط مباشرة في الحرب السورية في خريف العام 2015، حدّد بوتين ايضا الأفق، فهو لم يذكر مرّة واحدة أنه يقف الى جانب الرئيس الأسد، وانما قال انه سيساعد الدولة السورية على استعادة كل أراضيها وأن تبقى موحدة. لا بل انه تعمّد في أيلول/سبتمبر الماضي في القمة التي جمعته مع أردوغان والرئيس الايراني حسن روحاني القول: “إننا جميعا ندعو إلى وحدة أراضي سوريا وننطلق من أنه بعدما يتم حل القضايا المتعلقة بضمان الأمن ومحاربة الإرهاب، ستتم استعادة وحدة الأراضي السورية بالكامل وهذا يخص أيضا سحب كل القوات الأجنبية من أراضي سوريا”.
التوازنات البوتينية الدقيقة
ثم ان بوتين، وفي الوقت الذي كانت طائراته تُشكّل الغطاء الجوي الحاسم للجيش السوري وحلفائه في المعارك الكبرى، كان ينسجُ شبكة علاقاته العربية والإسرائيلية والتركية والإيرانية على نحو واسع. لم يأبه آنذاك، لمن يدعم أو يعادي القيادة السورية، وإنما وسّع علاقاته صوب الجميع. قفز فوق كل المتناقضات من طهران الى الرياض، ومن تل أبيب الى القاهرة، ومن المغرب الى الجزائر وصولا الى ليبيا التي يتنافر فيها مع اردوغان (وربما في هذا سبب بعض التدهور في علاقاتهما في سوريا).
وفي العام ٢٠١٧، قام العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز بأول زيارة لملك سعودي الى موسكو، كما أن رئيس وزراء لبنان السابق سعد الحريري الذي رفع عاليا لهجة الخصومة مع القيادة السورية كان أكثر مسؤول عربي يلتقي بوتين، وهو ورث هذه العلاقة الشخصية مع الرئيس الروسي من والده الراحل الرئيس رفيق الحريري.
أما أميركيا، فلا ريبَ في أن علاقة بوتين بالرئيس الأميركي دونالد ترامب هي من أفضل العلاقات بين رئيسي البلدين في التاريخ الحديث برغم كل ما يقال فوق السطوح. فهل سمعتم مرة واحدة مثلا سيد البيت الأبيض ينتقد أو يلوم أو يقلّل من احترام سيد الكرملين؟ ابدا. برغم ان الرئيس الأميركي لم يترك رئيسا ولا قائدا ولا مسؤولا الا وأهانه أو جرّب اهانته.
ماذا يريد بوتين الآن؟
حالياً، يسعى بوتين الى تطبيق استراتيجية دقيقة جداً في الشمال السوري. هو لا يريد خسارة تركيا، ولكنه لم يستسغ مراوغات أردوغان ولا يستطيع تحمل خسارة الجيش السوري للمعركة. لكنه، في المقابل، لا يريد أن يشعر الطرف الآخر من دمشق الى طهران الى حزب الله، بأن ثمة فرصة لإخراج المُحتل التركي بالقوة. وهذا في الحساب الروسي، يُحسب بميزان الذهب في هذه الأوقات العالمية والإقليمية الحرجة. لا بد إذاً من توازن عسكري يدفع صوب التفاوض لاحقا.
بين أنقرة وموسكو مصالح هائلة. تركيا هي خامس زبون اقتصادي لروسيا، وموسكو هي المصدّر الاول لتركيا التي تستورد منها معظم الغاز. كما أن تركيا تُشكل الممر البديل لهذا الغاز نحو أوروبا بعد فقدان موسكو للممر الاوكراني. الانبوب العتيد سيضمن مرور اكثر من ١٤ مليار متر مكعب بعد الانتهاء منه في العام ٢٠٢٢. كذلك، فان تركيا تُشكل المقصد الأول للسياح الروس بنحو ٦ ملايين سائح سنويا، ناهيك عن آلاف الشركات العاملة بين البلدين، والمساهمة النووية والعسكرية الروسية في تركيا.
قاربت المبادلات التجارية بين روسيا وتركيا حوالي الـ ٣٠ مليار دولار لكن الميزان التجاري يميل لمصلحة روسيا. ثم هناك البعد الإسلامي التركي في دول الجوار الروسي. فتركيا هي الشريك التجاري الأول لتركمانستان (نحو ٨٠٠ مليون دولار في العام ٢٠١٩) قبل الصين وروسيا، وشريكة لكازاخستان (أكثر من ١٨٠٠ شركة بتمويل تركي) ولاوزباكستان ومعظم دول آسيا الوسطى. فمنذ العام ٢٠١١ انعقد ما يسمي ب “Turkic Business Council” الذي يجمع الدول الناطقة بالتركية ليكون مرتكز التأثير التركي الكبير في آسيا الوسطى، أي في دول كانت تدور بمعظمها في الفلك السوفياتي، ما يعني أن أي توتر كبير بين موسكو وانقرة سيؤثر بشكل سلبي كبير على الجار الروسي.
حالياً، يسعى بوتين الى تطبيق استراتيجية دقيقة جداً في الشمال السوري. هو لا يريد خسارة تركيا، ولكنه لم يستسغ مراوغات أردوغان ولا يستطيع تحمل خسارة الجيش السوري للمعركة. لكنه، في المقابل، لا يريد أن يشعر الطرف الآخر من دمشق الى طهران الى حزب الله، بأن ثمة فرصة لإخراج المُحتل التركي بالقوة
ولو أضفنا الى ذلك الممرات البحرية التي تحتاجها روسيا للعبور صوب البحر الأبيض المتوسط، والى قواعدها في سوريا، ولو أضفنا اليها أيضا مساعي بوتين لإحداث توازن حقيقي مع الغرب في تركيا او على الأقل لزعزعة الثقة بين انقرة والاطلسي، يتبين لنا أن الرجل ليس في وارد التضحية بكل ذلك من أجل إدلب في الوقت الراهن.
مع ذلك فإن سوريا، تبقى بالنسبة لسيد الكرملين مركزية في استراتيجيته العالمية والإقليمية الكبرى. من دونها، سيفقد مرتكزه الأبرز في الشرق الأوسط وعلى ضفاف المتوسط، لا بل سيهتز دوره على الساحة الدولية.
العودة الى التفاوض
قال الناطق باسم الكرملين ان محادثات بوتين واردوغان المقبلة “لن تكون سهلة”، وقد تبادل الطرفان رسائل نارية على الأرض السورية وفي التصريحات قبل اللقاء، لكن الأكيد أن القمة ستُمهّد لتخفيف التوتر، ولإعادة الأطراف الى مفاوضات سوتشي.
ففي محصلة الأمر، لن يتراجع الرئيس الروسي عن دعم الدولة السورية حتى استعادة كل الأراضي السورية وإعادة توحيد البلاد، طال الزمن أم قصُر، لكنه بحاجة الى مناورات سياسية مع تركيا وأميركا وإسرائيل، ويقينه أن بعض القوة والكثير من الدبلوماسية يؤديان الغرض، وان غير ذلك يُغرق الجميع في حروب لن تؤدي الى شيء سوى الى مزيد من القتلى والدمار وخسارة الأدوار.
علينا ألا نستبعد أبدا سعي روسيا لجمع الرئيسين الأسد وأردوغان، ان لم يكن الآن ففي وقت ليس ببعيد. ولعلّ هذا في مصلحة الجميع حاليا.