ملاك عبدالله02/04/2020
"لو أنهم يعلمون أيّ فرصة أضاعوا. أيّ فظاعة ارتكبوا. لو أنهم، يا صديقي، فهموا لغتنا. ما زالوا، إلى اليوم، لم يعرفوا أي جرح تركوا في صدورنا. لم يدركوا كيف شلّونا، وقد تحجّر دمعنا، عندما شاهدنا الحلم يُغتصب بإمعان، بإجهاز، بلعاب شماتة رأيناه يسيل من عيونهم.
لو أننا لم نولد هنا..." (الثائر محمد نزال)
محمد نزال في الحبس.. وعامر الفاخوري طليقاً!
من سخرية القدر أن نجد أنفسنا نقارن بين مناضل وعميل. بين مثقفٍ محترم ومتواضع وجزّارٍ تثقّف وتدرب على القتل والإعتقال والتعذيب. بين من بحّ صوته صارخاً لأجل الناس وقلبه على صغيره وما ينتظره، وبين من بحّ صوته شتما وإهانات وحقدا ضد الأسرى المعتقلين في سجن الخيام.
خسئ المقارِنون.. لا يقارن محمد نزال إلا بمحمد نزال. هذا المناضل، الذي كان بمقدوره أن يصل إلى مراتب من “الأبّهة” لكنه إرتضى أن يكون هو. وهو، لا يصفح لنفسه ولأقرب المقربين إليه. سلاحه لسانه وقلمه وعقله وثقافته وجرأته. قرر أن يخوض معركة الوعي. الوعي الفردي والجماعي. ان يتأثَر بذاته ويُؤثر بغيره بلا إدعاء ولا تكبر.
لكنه لبنان يا سادة! لبنان الذي يبدو أنه مازال يحفر للوطني قبراً، ويجهّز للخائن منطاد نجاة.
ليس هذا المقال دفاعاً عن الصحافي والكاتب محمد نزال لأجل شخصه، وهو شخص يستحق مقالات. بل لكونه رمزاً للمقاومة، ولكن مقاومة محمد لا تشبه إلا هذا النزال..
على مرّ عقد ونيف من الزمن، كتب الصحافيّ محمد نزال عشرات لا بل مئات المقالات في صحيفة الأخبار اللبنانية. قلمه السهل الممتنع، كان يقرأه كل مهتم بإلتقاط نبض الناس. يقرأه المثقف ويستمتع بلغته السلسة ولكن الصعبة.. يقرأه فيستزيد من رصيده الأدبي ـ السياسي. عرف دائما كيف ينتقي العناوين التي تلامس وجع الإنسان. حتى لو لم يكن موضوع الكتابة وجعاً، فإنه وبرغم ذلك كان يربطه بالوجع، والنضال. يربطه بالناس. لم تعد العدلية معه فقط وزيرا ومدعيا عاما وكبار القضاة. هي الفقراء من الناس الطيبين والمظلومين والمحكومين. يسري ذلك على كتابته للتحقيقات الإجتماعية والسياسية، وحتى التاريخية (نموذج تأريخه لبعض المجازر الإسرائيلية).
قبل أن يغلق صفحة الفايسبوك الخاصة به في العام 2015، أحدث ما يشبه الثورة على مواقع التواصل الاجتماعي. كان “يلعبها بذكاء”. يعرف كيف يثير التساؤلات التي كان يطرحها المثقفون في مقالاتهم وكتبهم. يعرف كيف يجعلها “شعبية”. أستاذٌ في تحويل الكتب إلى عبارات محكية متداولة. بدأ “المعركة” يومها، وحين وجد أن معركته تلقفها جنود آخرون، ترك لهم الساحة، وجلس يراقب من بعيد. قضى أياما وشهورا بين القضاء ووزارة العدل. حُكم على قلمه في بعض ما كتب. هو يعرف الخبايا. يدرك كل الزواريب. يدرك ما أمعنت كل الأطراف السياسية في محاولة عدم تمكين الناس من معرفته، لا سيما وأنهم يعرفون أنه حتى لو كتب وافتضح.. الناس لا تقرأ إلا ما تريد لها زعاماتها أن تقرأ. زعاماتٌ نشرت مقالاته عندما كان يروق لها ما يكتب، ثم نشرت أزلامها ليشمتوا به ويسيئوا إلى سمعته يوم كتب ما يخافون منهم خوف من يولي مدبراً ولا يعقّب.
تفجر الحراك في تشرين الأول/اكتوبر 2019. كان محمد قد إختفى عنا في الجريدة وعوالم “السوشيل ميديا”. كثر سألوا عنه، لكنه عاد. الواجب إستدعاه، فأعاد تنشيط صفحته على وسائل التواصل الاجتماعي. كان “يُشيّرُ” مقالا كتبه من قبل. وكنتٰ إذا قرأته من جديد تشعر أنه كُتب في لحظته.. في اللحظة الثورية.
نزل مع من نزلوا إلى الساحات. لكأنه الحلم الذي كان ينتظره طيلة سنين من الوجع. ذاق معنى الفرح الذي لم يذقه من قبل ربما. وذاك كان الجرح القاتل. فقد أجهز على فرحه هذه المرة. قبل ذلك، كان يجهز على حزنه، ولهذا لم يكن يبالي إلا بما يفضح كل “مُجهز”.. أما من قتل لحظة فرح بعد سنين عجاف، فكان كمن قتل الناس جميعا.
كتب أن سبب ذلك هو أنه وجد في الشتيمة أسلوباً ناجعاً لإيصال الوجع. قال لاحقاً أنه “قيل قديماً: ناقل الكفر ليس بكافر. لكن ماذا عن الشتيمة؟ أليس ناقل الشتم ليس بشاتم أيضاً؟ بلى، ليس بشاتم. ذلك أن الكفر أعظم من الشتم، وبجواز نقل الأول يلحق الجواز بالثاني، لكونه أخف”
أُجهز على حلمه. تلقى مع من تلقوا العصيّ في الساحات. توقفت كتاباته الصحفية. أصبح “تويتر” مسرحه لبث أوجاعه. إستشعر أن السلطة تكاد تعيد تمكين نفسها بأقوى مما كانت من قبل. لم يعد يجدي السكوت ولا بد من التحرك. غاب عن السمع والنظر، إلا عن سمع ونظر من كانوا يهتفون ضد المصارف. وبرغم أنه قرر السفر، لم يرد ترك الساحة إلا حين يتوجه إلى المطار. لكن أتي ما يسرق منه فرصة الهجرة. لكن لعله كان فرحاً، فالسرقة هذه المرة كانت عادلة، ولم تفرق بينه وبين زعيم. إنه الكورونا.. الفيروس الذي توّج مرحلة الجنون..جنون المشهد اللبناني. ما عاد ينفع مع لحظة مثيلة إلا التعبير بجنون. فعاد وكتب. لكن صدم الكثيرين، فقد أمعن في الشتيمة. كتب أن سبب ذلك هو أنه وجد في الشتيمة أسلوباً ناجعاً لإيصال الوجع. قال لاحقاً أنه “قيل قديماً: ناقل الكفر ليس بكافر. لكن ماذا عن الشتيمة؟ أليس ناقل الشتم ليس بشاتم أيضاً؟ بلى، ليس بشاتم. ذلك أن الكفر أعظم من الشتم، وبجواز نقل الأول يلحق الجواز بالثاني، لكونه أخف”.
لعل “جنون” النزال يشبه الجنون الذي تحدث عنه المفكر عبدالله القصيمي. يقول القصيمي في كتابه:”أيها العار إن المجد لك”: الجنون الفكري والفني موهبة أو مزية أو حضارة يجب أن يتدرب عليها العرب مهما كان في تدربهم عليها من عذاب ومعاناة ومخاطر.. لعلك قد أردت أن تهز وتوهن وقار العرب العقلي وتقواهم الفكري بأن تلقي بهم إلى الاصطدام بأعنف أساليب الجنون العقلي. لعلك قد أردت أن تلقي بهم إلى التجربة الصعبة.. لعلك قد تبينت أن العرب لا يحتاجون إلى شيء مثل إحتياجهم إلى أن تهزم بل وتهدم قواهم وعفتهم وحصانتهم الفكرية لتتحول إلى عفة وتقوى وحصانة في أخلاقهم ونياتهم. لعلك قد أردت أن تسقط ورعهم العقلي الذي طال تحطيمه وإذلاله وإرهابه لاحتمالات التفوق والعصيان فيه.. لعلك قد رأيت أن ورع العرب العقلي لا يمكن التحدث إليه إلا بأشد الأساليب جنوناً”…
عاد النزال إلى الكتابة من دون أن يعود إلى ساحات الاعتراض. هو لم يخرج حتى يعود. كتب بجنونه العاقل. كتب ليشير بإصبعه إلى من ناضل. نشر سلسلة لنا.. صنّف فيها من يحسبون على السلطة ومن يحسبون في وجهها.
اعتقل ورفاقه وهو يناضل في وجه المصارف. كان آخر ما كتبه عنها:”أولئك الذين هم ضدّ المصارف الآن، فقط الآن، لأنهم غير قادرين على سحب ودائعهم منها… ليسوا كمثل الذين هم ضدّ المصارف، الآن وبالأمس وغداً، لأنّها مصارف – نموذج بلادنا. الطرف الأول آني. يصمت غداً. الطرف الثاني دائم الغضبة… ذلك لأنها نقيض إنسانيته.(قل هل يستوي الأعمى والبصير)…”
كان ذلك متوقعا. كما توقع محمد نزال لرفيقه في النضال ومقاومة الظلم أن يُضرب ويؤذى.” كنت أتوقع ذلك. من راقب غيث على مدى الأشهر الماضية، وعرفه، يعرف أنه ما كان ليخرج إلا بشهادة يحملها على جسده تؤكّد حُسن وعيه”.
هكذا كتب. وهو الآن يحمل الشهادة التي تؤكد حسن وعيه. هو ورفاقه ممن اعتقلوا. قد يبدو هذا المقال نعياً للزميل محمد نزال.. رثاء له. لكنه في الحقيقة ليس سوى رثاء للسلطة الهشة. ولكل من ساعد ويساعد في تمكينها.
محمد نزال هو الحر الوحيد في هذه الجمهورية. حررنا يا محمد، لكن ليس على طريقة الفاخوري.