من نصب فخ الـ”15 ألف ليرة” لوزير المال اللبناني؟

في 27 أيلول/سبتمبر، أقرّ البرلمان اللبناني موازنة العام 2022. إحتُسبت نفقاتها على أساس دولار جمركي رُفِع إلى الـ15 ألف ليرة. بعد أقلّ من 24 ساعة صرّح وزير المال يوسف خليل أنّ "البنك المركزي سيتبنّى سعر صرف رسمياً 15 ألف ليرة بدلاً من 1507 ليرات اعتباراً من نهاية تشرين الأول/أكتوبر المقبل، وذلك في خطوة تهدف إلى توحيد سعر الصرف".

ساعات قليلة، حتى عادت وزارة المال وأصدرت بياناً توضيحيّاً قالت فيه انّ “تغيير سعر صرف الليرة مقابل الدولار سيتمّ على خطوتين: الأولى، على صعيد الدولار الجمركي. والثانية، على صعيد سعر الصرف الرسمي المراد اعتماده بالتنسيق مع مصرف لبنان، والذي يُعتبر خطوة أساسية باتجاه توحيد سعر الصرف. وهذا مشروط بإقرار خطة التعافي”الحكوميّة (التي تحتسب الدين العام على أساس 1507، وتعتمد الـ8000 لإيفاء نسبة من الودائع، والتي تعتبر ان توحيد سعر الصرف في المرحلة الأولى سيكون حسب سعر منصة “صيرفة” لاعتبارها الأقرب الى سعر السوق).

نسف البيان التوضيحي إذاً ما كان قد ورد في قرار وزير المال الذي أشار إلى انّه “وبعدما أقر مجلس النواب الموازنة العامة حيث اعتمد سعر صرف 15000 مقابل كل دولار أميركي اصبح وقف العمل بسعر صرف الدولار على 1507 اجراء لا بد منه. وعليه تم الاتفاق بين وزارة المالية والمصرف المركزي على اعتماد سعر 15000 عملاً بأحكام المادتين 75 و83 من قانون النقد والتسليف كما وسائر النصوص التنظيميّة والتطبيقيّة الصادرة عن مصرف لبنان”.

قبل كلّ شيء تجدر الاشارة إلى أن المادتين المذكورتين لا علاقة لهما بصلاحيّة تحديد سعر الصرف، الذي يحتاج الى “تشريع” خاص. بل هما تنظّمان دور مصرف لبنان وتحددان إطار تدخّله مع وزير المال لتأمين تثبيت القطع، وللّجوء في “حالات استثنائية” لشراء العملات الأجنبية من الجمهور وبيعها منه دون وساطة المصارف، لتغطية الخسائر في ميزانيّة المركزي، والتي ورّطته في خسائر أفدح.

بدعة المنصات

على مدى أعوام، شكّل عجزا الموازنة وميزان المدفوعات عنصرين شبه وحيدَين لشغل بال أهل السلطة (كان ذلك في الحقيقة قبل أن يتّخذ سعر الصرف أكثر من دلالة)هنا استعانت الحكومات بحاكم مصرف لبنان المركزي الذي كان من المفترض أن يرسم سياسته النقدية وفقاً لـ:

  • الأصول التي يملكها.
  • احتياطي الذهب.
  • الموجودات وفقاً لسعر الصرف.

تُقدّر الموجودات بحسب سعر الصرف الرسمي (1515)، عملاً بالمادة 114 من قانون النقد والتسليف. خطر فقدان قيمتها بالكامل بسبب تقلّبات سعر الصرف في السوق الحقيقية، أدى إلى الإبقاء على اعتماد تسعيرة الـ 1515، تسعيرة رسميّة قانونية حتى اليوم. فمن شأن أي تغيير فجائي في سعر الصرف الرسمي أن يفضح حقيقة موجودات البنك المركزي. لذا كان المخرج بحسب ما ارتأت “الحاكميّة” منذ انكشاف الازمة، اعتماد بدعة “المنصّات الإلكترونية” (غير القانونيّة) التي حدّدت أسعاراً مختلفة للصرف. أما هدف خلق أسعار صرف متعددة فهو التستّر على الخسائر بالموجودات وعدم فضح المستور، أطول فترة ممكنة.

إرتبك يوسف خليل من جواب بري القاسي وأعطى الضوء الأخضر لصدور توضيح عن مكتبه الإعلامي يتراجع فيه عملياً عن قرار إعتماد سعر الـ 15 ألف ليرة.. بإنتظار خطة التعافي، أي رمي الكرة مجددا في ملعب الحكومة

لكن ما الذي تغيّر؟ ولماذا “قرّر” رياض سلامة اعتماد الـ 15 الف ليرة سعراً رسمياً؟ وهل ما ينذر بمحاسبة “الحاكم” جرّاء التلاعب بميزانيات المصرف المركزي، فكان أن لجأ الى هذا القرار بحثاً عن غطاء قانونيّ يحميه من أي مساءلة مستقبليّة؟ (بحسب المادتين 115 و116 من قانون النقد والتسليف اللتين تشيران الى أنّ الدولة تغطي خسائر البنك المركزي اذا تجاوزت 25% من موجوداته)؟ وهل تآكلت هذه الموجودات بالفعل جرّاء كلّ هذه الخسائر؟.. وحده التدقيق الجنائي الذي يخشاه رياض سلامة قادر على تأكيد هذه المخاوف أو تبديدها.

ماذا جرى بين بري وخليل؟

بالعودة الى قرار وزير المال، فحالات التخبّط والضّياع وعدم الوضوح هذه تعني واحداً من احتمالين لا ثالث لهما: إما أنّ وزير المال أراد جسّ نبض الناس، ثمّ عاد وتراجع عن قراره الإداري، أو أن هناك من نصب مكيدة لوزير المال الذي وقع في الفخ.

تفيد المعلومات أنه فور صدور قرار يوسف خليل، جمع بري في عين التينة عدداً من المستشارين الذين نصحوه بالطلب من وزير المال التراجع فوراً عن القرار لأنه يأخذ على عاتقه ومن موقعه أن يتحول إلى درع للدفاع عن مصرف لبنان المركزي والحكومة. جرت مراجعة يوسف خليل من قبل بري شخصياً وكان جواب وزير المال أنه وقع القرار المذكور بطلب من رئيس حكومة تصريف الأعمال الذي أبلغه أن القرار متوافق عليه مع رئيس مجلس النواب. إرتبك يوسف خليل من جواب بري القاسي وأعطى الضوء الأخضر لصدور توضيح عن مكتبه الإعلامي يتراجع فيه عملياً عن قرار إعتماد سعر الـ 15 ألف ليرة.. بإنتظار خطة التعافي، أي رمي الكرة مجددا في ملعب الحكومة.

ليس واضحاً حتى الان ما إذا كان وزير المال يسعى بالتنسيق “الدقيق” مع حاكم مصرف لبنان المركزي الى اعتماد سياسة انتقالية لسعر الصرف. كما ليس معروفاً إن كان يريد فرض سياسة تثبيت جديد لسعر الصرف. ليس معلوماً إن ارتكز في قراره هذا على قانون الموازنة لتوحيد سعر الصرف. أو أنه استند إلى المادتين 75 و83 من قانون النقد والتسليف. فإذا كانت الموازنة قد وحّدت أسعار الصرف، لا يكون هذا القرار ضرورياً. وإذا كانت النيّة توحيد سعر الصرف استناداً إلى قانون النقد والتسليف فلماذا استشهد وزير المال بموازنة الـ2022 غير الدستورية؟ وإذا عاد الوزير ونفى كلّ ما تمّ تداوله في الاعلام (بما في ذلك مقابلته المسجلة مع وكالة “رويترز”) مؤكداً أن لا دولار سوى الدولار الجمركي، فهل يعني ذلك أن لا دولار موحّداً في الموازنة؟

إقرأ على موقع 180  نعم، نُهاجر ولا نلتفت إلى الوراء

الجواب الأكيد على هذه الأسئلة وغيرها أن الإرتباك هو سمة تعامل يوسف خليل مع كل القرارات. زدْ على ذلك إلتباس علاقته برياض سلامة وعين التينة الذي يجعله أسير مرجعيتين يريد أن ينضبط تحت سقف كل واحدة منهما، فإذا كان الوئام قائماً بين الإثنتين أصاب وربح وإذا كان التناقض واقعاً (إدارياً) كما حصل بالأمس، لا بد من الوقوع في فخ الوزير السيادي غير السيّد على نفسه!

يشوعي: سيؤثر سلباً

في كلّ الأحوال، “كلّ إجراء لا يأتي بدولارات جديدة إلى لبنان هو عمليّة تضخّميّة”، يقول الاقتصادي إيلي يشوعي. ويوضح لـ 180 بوست أنّ “كلّ مسار تصحيحي بالليرة اللبنانية لا يترافق مع توفير دولارات، سيؤثر سلباً على سعر صرف الليرة. تقنيّاً، سعر الصرف الرسمي يعني التسعيرة التي تعتمدها الدولة في معاملات الناس مع إداراتها الرسمية”. من هنا، “لا يمكن اعتبار هذا السعر سعراً رسمياً، فالموازنة لم تعتمد في أرقامها سعر صرف على أساس 15.000 الا للتحصيل الجمركي والضريبي دون الرواتب والأجور. بمعنى أبسط، ليس سعر 15.000 ليرة توحيداً لاسعار الصرف المتعددة. فتوحيد الأسعار يتحقق باعتماد السعر الأقرب إلى سعر السوق، وهو في هذه الحالة سعر منصة صيرفة، برغم نقاط الاستفهام حول قانونيتها. أما مطالب صندوق النقد الدولي فتمثلت باعتماد موازنة متوازنة وتوحيد سعر صرف بالإضافة الى إعادة تكوين الاحتياطي بالعملات الصعبة، والبدء بكل الإصلاحات المطلوبة، وكلّ ما يحكى غير ذلك كذب على الناس”، يقول يشوعي.

إيلي يشوعي لـ 180 بوست: “كلّ مسار تصحيحي بالليرة اللبنانية لا يترافق مع توفير دولارات، سيؤثر سلباً على سعر صرف الليرة”

الكيك: جريمة

قرار وزير المال “إداريّ وغير مستند إلى حقائق قانونية، وعليه يجوز الطعن فيه أمام مجلس شورى الدولة”، كما تؤكّد المتخصّصة في القوانين المالية والمصرفية سابين الكيك لـ180 بوست. وعليه أيضاً، “يعود لمجلس الشورى إقرار ما إذا كانت خطوة الوزير يوسف خليل من ضمن الصلاحيات الموكلة إليه عملاً بقانون النقد والتسليف أم أنه تجاوز، مع حاكم مصرف لبنان، حدود سلطتهما القانونية”.

الموازنة صكّ تشريعي تقدّر فيه نفقات الدولة وإيراداتها عن سنة مقبلة وليس سنة مالية فائتة. “أما الموازنة اللا-قانونية والمنتهية الصلاحيّة المقرّة ذات الأرقام غير الصحيحة وغير الموحّدة، فهي بحدّ ذاتها جريمة دستورية”، تقول الكيك.

وتعتبر أنّ ” الموازنة جاءت على قاعدة التشرذم الدستوري وعدم انتظام المالية العامة. فتغيير سعر الصرف الرسمي المعتمد يعني تغيير كلّ أرقام الموازنة. فما الحاجة لموازنة عن تسعة أشهر سابقة صرفت فيها الحكومة وفقاً للقاعدة الإثني عشرية وعلى أساس سعر صرف رسمي محدد بـ1507 ليرات، وثلاثة أشهر على 15 ألف ليرة؟”

وتضيف الكيك انه “قانوناً، يجب الطعن بالموازنة أمام المجلس الدستوري، وبقرار وزير المال الإداري لدى مجلس شورى الدولة، لتصحيح هذا المسار الدستوري والقانوني غير المنتظم. فيما الأهم هو فصل قضية الودائع ومعها قضية القروض المدولرة عن هذا البازار. اذ لا سعر للصرف يسري على الوديعة”.

فـ”الوديعة هي وديعة” بحسب الكيك، “ويجب ايفاؤها بالعملة التي أودعت بها أو بما يوازيها حسب القيمة السوقية للّيرة اللبنانية. أما في ما خصّ قروض التجزئة، فلا بد من التذكير بأن حجم التسليفات للمستهلكين والمدينين كان مبنياً على الدخل الفردي استناداً إلى سعر الصرف الثابت على مدى 30 عاماً. وقد عمدت البنوك التجارية ومعها مصرف لبنان على تشجيع التجار والأفراد والقطاعات على القبول بإبرام القروض بالعملة الأجنبية. لذا، فإنّ تحرير سعر الصرف على دولارات القروض لا يجوز قانوناً”، وهو الأمر الذي تقول مصادر في مصرف لبنان المركزي إنه سيتم أخذه بالإعتبار، ولا سيما دفع قروض الإسكان بسعر صرف 1507 ليرة لبنانية.

الكيك لـ180 بوست: يجب الطعن بالموازنة أمام المجلس الدستوري، وبقرار وزير المال الإداري لدى مجلس شورى الدولة، لتصحيح هذا المسار الدستوري والقانوني غير المنتظم

أسعار الصرف المتداولة كلّها غير قانونية. كلّها لا تطابق “الخسائر”. كلّها أسعار هندسيّة وهميّة. وكلّها ليست السعر الرسمي القانوني، كما ليست سعر السوق الفعلي. كلّها أسعار تجميليّة لواقع نقدي مشوه، وستزداد تشوّهاته كلّما انكشفت “بدع” البنك المركزي. وكلّها لن تُغني عن تسوية الحسابات بين مصرف لبنان المركزي وبين الخزينة اللبنانية، عاجلاً أم آجلاً والتي لا يمكن أن تتمّ إلا على أساس سعر صرف انتقالي مُقَونَن.

مخارج وهمية

{بعد معاهدة الاتحاد الأوروبي-“ماستريخت” (1991)، غيّرت البنوك المركزية الأوروبية قوانينها. حدّدت مهمتها الاقدس: صون استقلاليتها. حصرت جوهر دورها بتأمين استقرار الأسعار ولجم التضخّم المرتبطَين مباشرة بحجم الكتلة النقدية المتداولة في السوق، ضمان استقرار النقد الوطني وديمومة القطاع المصرفي.

أما حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة، فتمسّك بسياسة رفض بالاعتراف بالخسائر. يظنّ أن البنوك المركزية قادرة على تدوير خسائرها، ولو بـ”الكشاتبين”. هكذا، نراه مستمرا بعمليات خلق النقد وطباعة العملة. عمليّاً، استنزفت الرهانات الخاطئة كل موجودات البنك المركزي. وبدلاً من تأدية واجبها في تنظيم معدّلات الفائدة وإنعاش الاقتصاد وتشجيع الاستثمار، تراكمت الخسائر}.

Print Friendly, PDF & Email
إيڤون أنور صعيبي

كاتبة وصحافية لبنانية

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  ChatGPT ثورة في عالم التعليم.. هل انتهى الفرض المنزلي؟