“شهد العام 2019 حراكين شعبيين هما الأكبر في كل من العراق ولبنان هدفا إلى تقويض الأنظمة السياسية المترهلة في كلا البلدين، والسعي إلى إنتاج بديل يعبّر عن مصالح المشاركين في هذه الحراكات. وفي كلتا الحالتين، تشابكت، بنسب مختلفة العوامل المحلية والخارجية، في تحفيز انفجار الشارع، ولا سيما أن البلدين يديرهما نظاما حكم يعتمدان على المحاصصة الطائفية والزبائنية والفساد ومنتهكان بالتدخلات الخارجية، إضافة إلى كون البلدين يقعان في صلب الصراع الإقليمي بين محور المقاومة والولايات المتحدة، حيث تخوض إدارة ترامب حملة “الضغوط القصوى” (ضد إيران) بزخم غير مسبوق.
في كلا البلدين، برزت أدوار منظمات المجتمع المدني، إضافة إلى قوى من المجتمع الأهلي وكتل من الطبقة الوسطى (خاصة في الحالة اللبنانية)، وهي جميعها تسعى لملء الفراغ المتمدد في المجال العام نتيجة فشل البنى الرسمية. وبدا أن الولايات المتحدة تطمح إلى أن تستولد من داخل هذه الحراكات نخبًا ليبرالية تنسجم مع مشروع الهيمنة من باب تجديد الوكلاء المحليين ليكونوا قادرين على المنافسة السياسية لخصوم الولايات المتحدة خلال السنوات المقبلة(…).
العراق: بؤرة توترات ومأزق الوجود الأميركي
انفجرت الاحتجاجات الشعبية في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2019 في بغداد والمحافظات الجنوبية، أي المناطق ذات الغالبية الشيعية. وتتقاطع عدة عوامل في نشوء هذه الاحتجاجات أبرزها الأزمة الاقتصادية وآثارها الاجتماعية ولا سيما على الشباب[1] والفشل السياسي في التمثيل واستيعاب المطالب الاجتماعية وإعادة توزيع الموارد المتاحة والتنافس الجيوسياسي المحتدم في العراق، حيث تسعى واشنطن ضمن حملة “الضغوط القصوى” على إيران إلى إضعافها في العراق بما يمثّله من ثقل للمصالح الإيرانية والأمن القومي لطهران.
وقد ساهمت الانقسامات داخل المجال الشيعي العراقي في تزخيم الاحتجاجات، بالاضافة إلى أعمال العنف وقمع التظاهرات واقتحام المتظاهرين لمقرات رسمية وحزبية وسقوط ضحايا من كل الأطراف ولا سيما من المحتجين. وكذلك يقال إن الاحتجاجات العراقية تتركّز حول معاداة الأحزاب وليس الدولة كونها مسؤولة عن كل ما سبق.
وقد حظيت الاحتجاجات بنوع من الغطاء من المرجعية الدينية في النجف كجزء من دورها في استيعاب المطالب الشعبية وحفظ مناخات الاستقرار الداخلي ورعاية الإصلاح السياسي وتحييد العراق عما تعتبره صراعات الآخرين على أرضه.
يمكن أن يؤدي احتدام التنافس الإيراني – الإميركي إلى وقوع فوضى واضطرابات واسعة في العراق
وللولايات المتحدة نفوذ عميق داخل العراق، سواء على المستوى الرسمي ومستوى النخب والأحزاب والمجتمع المدني ووسائل الإعلام، وهي توظّف ذلك لتسخين الاحتجاجات وتحويلها ضد إيران في إطار المنافسة الجيوسياسية ولا سيما بعد أن أفضت الانتخابات النيابية الأخيرة إلى فوز القوى المحسوبة على إيران والصديقة لها. وقد تمكنت الاحتجاجات من الدفع إلى استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي والدفع نحو إقرار قانون انتخابي جديد لبّى جزءًا من مطالبها ويمكّن القوى الجديدة من الدخول إلى البرلمان.[2]
وفي العام 2020 يكون العراق أمام جملة تحديات وسيناريوهات أبرزها:
أولًا، القدرة على تشكيل حكومة جديدة والانطلاق في استيعاب الأزمة الاقتصادية، وإلا ستعاود الاحتجاجات الانفجار في وجهها ولا سيما إن عجزت عن إجراء الانتخابات النيابية المبكّرة.
ثانيًا، سيشتد الخلاف حول طرح المحتجّين إجراء انتخابات برلمانية مبكرة تتيح تغيير التوازنات الحالية وقد عبّرت المرجعية الدينية عن موقف إيجابي تجاه فكرة الانتخابات المبكرة.
ثالثًا، مسألة القدرة على إعادة تنظيم صفوف الحشد الشعبي وتوحيد قيادته بعد استشهاد أبو مهدي المهندس، ثم كيف سيؤثر ذلك على تعريف الحشد لأجندته الوطنية، وهل يجري تعريفها بشكل ضيق أم من ضمن سياق الصراع الأكبر في المنطقة؟ وتعزز الخلافات حول القيادة البديلة للمهندس من هذا السؤال.
رابعًا، يمكن أن يؤدي احتدام التنافس الإيراني – الإميركي إلى وقوع فوضى واضطرابات واسعة في العراق. فمن ناحية، هناك جهود محور المقاومة لإخراج القوات الأميركية من العراق والضغط عليها قبل الانتخابات الأميركية نهاية العام، ومن ناحية أخرى، هناك جهود مكثفة من الأميركيين لإحداث تحوّل داخلي في ميزان القوى من خلال الشارع والعملية السياسية، مع استمرار التوترات الأمنية في المناطق الغربية، وهذا كله قد يدفع البلاد مجددًا نحو مزيد من الانقسامات والتوترات الأمنية ويفكّك المؤسسات السياسية.
خامسًا، هل تنجح القوى المناوئة للوجود السياسي في إلزام الأميركيين بالانسحاب من العراق أو إجبار واشنطن على تحديد سقف زمني قصير للانسحاب؟ أم أنه سيكون من غير المتاح تحقيق ذلك سياسيًا بفعل الانقسامات الموجودة وتنتقل الأمور إلى العمل الميداني؟
لا يبدو أنّ الأميركيين في وارد الانسحاب قبل الانتخابات الأميركية بما يظهر ذلك على أنه هزيمة سياسية، بل الأرجح أن يسعوا للاتفاق مع الحكومة العراقية على برنامج زمني يبدأ بعد الانتخابات. وفي ظل الانقسامات العراقية، قد تهدد عمليات استهداف الأميركيين بمزيد من التوتر الداخلي ولا سيما إن لم يكن هناك من غطاء سياسي وشعبي كاف لهذا الخيار وتحديدًا من البيئة الشيعية. وفي حال وقوع هجمات ناجحة ضد القوات الأميركية، فإن الخيارات الأميركية ستكون تصعيدًا مضادًا وإحداث توترات داخلية لاحتواء الهجمات.
سيكون العراق من أكثر البؤر توترًا وضبابية في المنطقة خلال العام 2020. لقد قرر الأميركيون من خلال عملية الاغتيال (سليماني والمهندس) تحويل العراق إلى ساحة للمواجهة مع طهران وليس لدى الأخيرة خيار إلا قبول التحدي. فالتوازنات في كل محور المقاومة استقرت إلى حد بعيد ورست قواعد اللعبة بشكل ما، فيما لا يزال العراق الساحة الأكثر رخاوة وسيولة، وهنا سيضع كل طرف ثقله في العام 2020 لإرساء توازنات تحقّق القدر الأكبر من مصالحه.
لبنان: أزمات متزامنة
انتهى العام 2019 في لبنان بحراك شعبي ذي زخم غير مسبوق منذ نهاية الحرب الأهلية، وهو حراك عبّر عن فشل النظام المالي والسياسي لما بعد الطائف[3] وتقلّص البيئة الاجتماعية للقوى السياسية التقليدية والترهل في التوافقات السياسية بين النخبة اللبنانية وصعود لقوى شعبية من هامش السياسة بعد سنوات من المراكمة الاعتراضية في الشارع والفكر.
استطاع الحراك الشعبي في لبنان تأسيس مشروعية إضافية فرضت نفسها على المجال السياسي
بعد الانتخابات النيابية في العام 2018، حاولت منظومة المال والسياسة في لبنان تأجيل الأزمة وكسب الوقت من خلال محاولة فرض ضرائب على الطبقات محدودة الدخل واقتطاع نسبة من رواتب ومكتسبات الموظفين والمتقاعدين وتقليص الإنفاق الاجتماعي. إلا أن بعض القوى ومنها حزب الله وضعت فيتو أمام هذه الخيارات ودفعت باتجاه إقرار سلسلة الرتب والرواتب وزيادة الضرائب على أرباح المصارف والأرباح العقارية. وقد ساهم هذا الأمر في منع تلك المنظومة من تجديد نفسها على حساب الطبقات الدنيا.
وقد ساهمت جملة تقاطعات في تزخيم الحراك: انفجار الأزمات الاقتصادية والنقدية والمالية، وتخوف الطبقات الوسطى من خسارة مكتسباتها، والنقمة في أوساط جيل ما بعد الحرب الأهلية، وتوسّع بؤر الفقر والعوز، والانقسامات العمودية بين فريق الحكم، ونضوج حركات الاعتراض الشعبية في المجتمع الأهلي والمعارضة السياسية ومنظمات المجتمع المدني،[4] واشتداد الضغوط الأميركية والسعودية على لبنان بهدف إنهاء نتائج الإنتخابات النيابية 2018 التي فاز فيها حزب الله وحلفاؤه.
استطاع الحراك الشعبي في لبنان تأسيس مشروعية إضافية فرضت نفسها على المجال السياسي، وهو ما برزت أولى ملامحه في تشكيل حكومة حسّان دياب بداية العام 2020 بعد استقالة حكومة سعد الحريري. لم يكن من الممكن تجاوز مشروعية نتائج الانتخابات البرلمانية حيث أن الفائزين يستندون إلى دعم شعبي واسع جدًا. وجد حزب الله على وجه التحديد في الاحتجاجات فرصة لتزخيم السياسات الإصلاحية، وإن كان حذّر من محاولات لحرفها عن شعاراتها المطلبية ومن مساع خارجية لإشاعة الفوضى إستهدافًا للمقاومة وحلفائها. بهذا المعنى، تعكس تركيبة الحكومة الحالية من خبراء واختصاصيين ممن لم يتلوثوا بالفساد تقاطعًا بين مطلب المحتجين بحكومة جديدة توحي بالثقة وبين رغبة قوى إصلاحية وازنة بالاستفادة من لحظة الاحتجاجات لتشكيل حكومة يُمكن لها أن تكون أكثر تحررًا من شبكات المصالح المالية والسياسية الضيقة والمستحكمة منذ سنوات ما بعد الحرب الأهلية.
أمام الحكومة الحالية في لبنان استحقاقات إعادة هيكلة الدين العام والقطاع المصرفي وإقرار قوانين ومراسيم مرتبطة بالاصلاح القضائي والمالي ومكافحة الفساد وتطوير النظام الضرائبي، وإعادة تنشيط الدورة الإقتصادية وتمكين القطاعات الإنتاجية من بدء مسار النهوض، ثم الاستجابة للأزمة الاجتماعية من خلال تقديم الدعم والضمانات والرعاية للشرائح الأكثر فقرًا المتوقع أن تزداد نسبتها بشكل ملحوظ خلال هذا العام.
وسيكون العام 2020 من الأشد قساوة وضبابية في لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية في ظل تدحرج الأزمة النقدية والمالية والاقتصادية نحو الانهيار مصحوبة باضطراب في العملية السياسية واستمرار موجات من الاحتجاجات الشعبية. إن العجز في الموازنة والانكماش الاقتصادي وضعف القدرات الإنتاجية والكتلة المحدودة المتوفرة من العملة الأجنبية ومتطلبات خدمة الدين العام وأزمة السيولة في المصارف، عوامل كلها تشير إلى استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية (بطالة وانكماش وغلاء وفقدان سلع متزايدة من الأسواق) والاجتماعية في العام 2020.
ستستمر الأزمة في لبنان بالتدحرج ولكن يمكن ضبط سرعة الانهيار وكسب مزيد من الوقت، كما أنّ الاحتجاجات ستستمر بزخم متباين مرتبط بتداعيات الأزمة وقوة التعبئة السياسية من الأطراف المعادية للحكومة. كل ذلك يجعل الوضع اللبناني ومستقبل الحكومة محفوفين بمخاطر عالية في العام 2020
ستتحرك حكومة حسان دياب في ظل هذا الواقع إضافة إلى إنقسام سياسي حاد بين فريق الحكومة والمعارضة المستجدة وانقسام بين كتلة من اللبنانيين الناقمين والطبقة السياسية عامة. وما يزيد الأمور ضبابية انقسام المواقف الخارجية تجاه لبنان (مثلًا بين الفرنسيين والأميركيين وبين الخليجيين أنفسهم) وضبابيتها وحتى لا مبالاتها. فبعض القوى الخارجية ترى في استمرار تدهور لبنان اقتصاديًا فرصة للضغط على حزب الله وحلفائه ولإخضاع لبنان للمؤسسات الدولية بما يزيد التأثير السياسي المعادي للمقاومة.
ولذا سيكون لبنان أمام جملة سيناريوهات في العام 2020:
الأول، عودة الاحتجاجات بقوة مع استمرار الأزمة وتداعياتها مصحوبة بتحريض سياسي لأهداف مرتبطة بالتوازنات المحلية. وهذا إن حصل يضع الحكومة تحت مخاطر جدية، إضافة إلى مخاطر الصدام في الشارع. وفي حال استقالة الحكومة تحت ضغط الشارع سيتصدّر مطلب إجراء انتخابات نيابية (مبكرة) صدارة المطالب السياسية، وهو مطلب يتقاطع مع المصلحة الأميركية.
الثاني، احتواء نسبي للأزمة من خلال مساعدات دولية، لا سيما من الأوروبيين، والقيام ببعض الإصلاحات، وأن يؤدي ذلك لإبقاء موجة الاحتجاج تحت السيطرة.
الثالث: في ظل العجز عن جذب مساعدات دولية كافية، ترتفع احتمالية لجوء لبنان إلى صندوق النقد الدولي بما يسمح بكسب وقت إضافي للحكومة ولكن التحدي هنا يكمن في مقدار المساعدة المطلوبة من الصندوق وطبيعة الإصلاحات المشروطة لذلك.
بناء عليه، ستستمر الأزمة في لبنان بالتدحرج ولكن يمكن ضبط سرعة الانهيار وكسب مزيد من الوقت، كما أنّ الاحتجاجات ستستمر بزخم متباين مرتبط بتداعيات الأزمة وقوة التعبئة السياسية من الأطراف المعادية للحكومة. كل ذلك يجعل الوضع اللبناني ومستقبل الحكومة محفوفين بمخاطر عالية في العام 2020″.
*****
[1] عجز النظام السياسي عن استيعاب التحولات المجتمعية العراقية المتمثلة بالنمو السكاني السريع والزيادة الكبيرة في نسبة الشباب بين السكان ما فاقم من أزمة البطالة خصوصاً بسبب الفساد البنيوي واستباحة الموارد من النخب والتراجع المستمر في أسعار النفط منذ 2013. أنظر: حارث حسن، الاحتجاجات التشرينية وبنية السلطة في العراق.. مقاربة سياسية، في فارس نظمي وحارث حسن (تحرير)، الاحتجاجات التشرينية في العراق.. احتضار القديم واستعصاء الجديد، مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون، 2020، ص: 24.
[2] يتيح القانون الجديد الترشح الفردي والدوائر المتعددة، الأمر الذي يقول المتظاهرون أنه يضمن صعود أجيال جديدة من الشباب إلى الساحة السياسية، وسيساعد في تغيير الطبقة السياسية الحاكمة في البلاد. ويمنع القانون الأحزاب من خوض الانتخابات بقوائم موحدة، وهو ما ساعدهما في الماضي على اكتساح كل المقاعد في محافظة معينة بسهولة. وتذهب المقاعد وفق القانون الجديد لمن يحصل على أكبر عدد من الأصوات في الدوائر الانتخابية. ويغير القانون الجديد كل الدوائر الانتخابية في محافظات البلاد الـ 18، وينتخب نائب مشرّع لكل مئة ألف شخص.
[3] توسع النظام المالي الريعي بعد الحرب الأهلية على حساب الاقتصاد الوطني، وعلى حساب المالية العامة للدولة، والطبقات الفقيرة والوسطى، حتى صار تصنيف لبنان السلبي من أسوأ التصنيفات في العالم: لجهة تركّز الثروة، والتباينات الاجتماعية، ونسبة الدّين العام إلى الناتج المحلي، ونسبة ودائع المصارف إلى الناتج المحلي، ونسبة فوائد الدين إلى إيرادات الموازنة.
[4] منذ عام 2011 بدأتْ محاولاتٌ لإحداث تغييرٍ من خارج القوى التقليديّة. فانبثقتْ تجمّعاتٌ مدنيّةٌ وشبابيّة، إضافة إلى قوى المعارضة السياسيّة، وبدأتْ جميعُها بتحدّي النظام القائم. وكان لانفجار انتفاضات العالم العربيّ سنة 2011 أثر المحفِّز والمسرِّع لهذه المحاولات. وقد برزت الموجة الاحتجاجيّة الأولى في العام 2011 تحت عنوان “إسقاط النظام الطائفيّ. ثمّ خفتتْ لتعودَ فتنفجرَ عام 2015 مع اندلاع أزمة النفايات.
(*) هذا التقرير يعبر عن وجهة نظر المركز الإستشاري للدراسات والتوثيق