فضيحة الفيول المغشوش.. سوناطراك تسلم “العقد الماسي”

علي نورعلي نور26/04/2020
بلغ عدد الموقوفين في قضيّة الفيول المغشوش في لبنان حتى الآن 17 شخصاً، بينهم الوكيل المخلّص لمعاملات شركة "سوناطراك" البتروليّة الجزائريّة، وموظّفين في المنشآت النفطيّة ومختبراتها. وبينما تتجه النائبة العامة الإستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون إلى إصدار إدعائها يوم الثلاثاء المقبل، تتعدد الأسئلة حول الأطراف المتورّطة في الملف، ودرجة تورّط الشركة الجزائريّة فيه.

في أواخر شهر نيسان/أبريل من سنة 2013، طرأت وبشكل غير مفهوم أعطال في باخرة “فاطمة غول سلطان”، أدّت إلى خفض إنتاجها من الكهرباء إلى حدود الـ15% من قدرتها التشغيليّة. في ذلك الوقت، تبيّن أن السبب الأساس وراء الأعطال هو رداءة نوعيّة الفيول المستخدم كونه غير مطابق للمواصفات، ما أدى إلى تعطّل 9 مولّدات في الباخرة من أصل 11 مولّداً. دخل ملف العطل في تلك المرحلة في نفق من تقاذف المسؤوليّات بين مؤسسة الكهرباء وشركة “كارادينيز” ووزارة الطاقة، ثم جرت لفلفته ولم يتم فتح ملف عقود توريد الفيول الموقّع منذ 2005 مع شركة “سوناطراك” الجزائريّة على مصراعيه.

أعطال جديدة تثير الريبة

منذ أشهر، وبعد سنوات من تلك الحادثة، تكرّرت ظاهرة الأعطال المفاجئة في معامل شركة “كارادينيز” العائمة، وللسبب نفسه، ما أدى إلى تحريك قضيّة تشغيل البواخر ومعامل المحرّكات العكسيّة في الذوق والجيّة، وأعاد تسليط الضوء على مسألة نوعيّة الفيول المستخدم.

وفي شهر آذار/مارس الماضي، جرى توريد شحنة جديدة من الفيول إلى منشآت النفط اللبنانيّة لتسليمها للمشغلين، مرفقة بنتائج فحصين يؤكّدان مطابقة الفيول للمواصفات المطلوبة: الأوّل، صادر عن منشآت النفط في طرابلس والزهراني ليمثّل بذلك تحقّق الدولة من المواصفات قبل الإستلام، والثاني، صادر عن مختبرات شركة “بيرو فيريتاس” في مالطا ويمثّل تحقق الشركة المورّدة، أي “سوناطراك”، من المواصفات قبل التسليم.

لم يسلّم المشغلون في البواخر ومعامل المحرّكات العكسيّة بهذه النتائج، في ظل الشكوك التي أثارتها الأعطال الأخيرة في معاملهم. فأرسلوا عيّنات جديدة من الفيول إلى مختبرات شركة “بيرو فيريتاس” في دبي، فتأكّدت شكوكهم وتبيّن بنتيجة هذه الفحوصات أنّ النتائج التي عرضتها الشركة المورّدة ومنشآت النفط غير صحيحة. بإختصار: الفيول مغشوش وغير مطابق للمواصفات المطلوبة، وهناك عمليّة تزوير واضحة للنتائج. لذلك، رفض المشغلون إستلام شحنة الفيول تحت طائلة وقف إنتاج الكهرباء، وقررت مؤسسة كهرباء لبنان عدم تحويل ثمن الشحنة إلى الشركة المورّدة.

إنطلاق المسار القضائي

بعد إنكشاف هذه المعطيات، تحرّكت المدعية العامّة في جبل لبنان القاضية غادة عون، فباشرت تحقيقاتها في الملف منطلقةً من صلاحيّتها بحكم وجود شبهة فعل جرمي هو التزوير في نتائج الفحوصات. لكنّ في الوقت نفسه، تحرّك المدعي العام المالي علي إبراهيم للتحقيق بالملف، فأصبح هناك مساران قضائيان. هذا التطوّر، دفع وزير الطاقة والمياه ريمون غجر إلى مراسلة النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، لطلب البت بالجهة القضائيّة المخوّلة بالتحقيق في الملف. وبنتيجة طلب وزير الطاقة والمياه، أصدر عويدات قراره بإحالة كل تفاصيل القضيّة إلى المدعي العام المالي علي إبراهيم. وضع إبراهيم يده على المسألة، ثم قرّر بشكل مفاجئ حفظ الملف لعدم تكبّد الخزينة أية خسارة نتيجة العمليّة.

هل يحق لشركة “سوناطراك” بموجب العقود الموقّعة مع لبنان أن تقوم بإعادة تلزيم عمليّة التوريد هذه على النحو الذي جرى؟ وإذا كانت عمليّة إعادة التلزيم لصالح شركات أخرى (بالباطن) عمليّة قانونيّة بموجب العقود، فلماذا عمل المورّدون الفعليون على إخفاء هويّاتهم من خلال عمليّات التزوير هذه؟

كل هذه التطوّرات لم تثن القاضية عون عن متابعة إستقصاءاتها في المسألة، وربّما مثّلت التشكيلات القضائيّة التي أثارت حفيظتها دافعاً إضافياً للمضي قدماً في تحقيقاتها. جاءت التمريرة التي إحتاجتها عون لإعادة فتح الملف من وديع عقل، المحامي العوني ورئيس “لجنة مكافحة الفساد في التيار الوطني الحر”، الذي قدّم إخباراً للقاضية عون أعاد فيه سرد تفاصيل القضيّة، ومطالباً بتحديد المسؤوليات الجزائيّة وتوقيف الفاعلين والمشاركين حماية للمال العام.

وهكذا، إنطلقت عون مجدداً في تحقيقاتها التي نتج عنها توقيف 17 شخصاً، بينهم موظّفون في المنشآت النفطيّة والوكيل المخلّص لمعاملات شركة “سوناطراك” في لبنان. آخر تطوّرات المسار القضائي تفيد بأن عون تستعد لإصدار إدعائها على الموقوفين يوم الثلاثاء القادم، وهو ما سيوضّح الأدوار التي لعبها كل من هؤلاء في القضيّة.

“سوناطراك” مجرّد واجهة؟

العقد الأساسي الموقّع منذ سنة 2005 يقضي بتوريد الفيول لصالح لبنان من قبل شركة “سوناطراك”، وهي شركة النفط الوطنيّة الجزائريّة. بمعنى آخر، من المنطقي أن يكون العقد في الشكل، من دولة إلى دولة، ويٌفترض بالتالي أن تقوم الشركة بتأمين الفيول المطلوب بالمواصفات المحددة إلى منشآت النفط اللبنانيّة وعلى مسؤوليّتها الخاصّة.

لكنّ تفاصيل الملف تفيد بأن ما جرى فعليّاً كان مختلفاً تماماً. بعض الموظّفين الذي جرى توقيفهم على ذمّة التحقيق خلال الأيام الماضية تبيّن أنّهم قاموا بأعمال تزوير وتلاعب في المستندات، إستهدفت إخفاء مصدر الفيول المستورد الحقيقي، والشركات التي قامت بتوريده. ما يعنيه ذلك فعليّاً هو أن شركة “سوناطراك” لم تكن في العقد الموقّع مع الدولة اللبنانيّة سوى مجرد وسيط، أو واجهة للشركات المورّدة الحقيقيّة التي كانت تقوم بتزويد الدولة اللبنانيّة بالفيول المطلوب. وبالتالي، من المفترض أن يتركّز جزء كبير من المسار القانوني للملف على سؤال محدد: هل يحق لشركة “سوناطراك” بموجب العقود الموقّعة مع لبنان أن تقوم بإعادة تلزيم عمليّة التوريد هذه على النحو الذي جرى؟ وإذا كانت عمليّة إعادة التلزيم لصالح شركات أخرى (بالباطن) عمليّة قانونيّة بموجب العقود، فلماذا عمل المورّدون الفعليون على إخفاء هويّاتهم من خلال عمليّات التزوير هذه؟

إقرأ على موقع 180  الكويت ولبنان: الأزمة الإقتصادية.. والفرصة السياسية

في الأيام الأخيرة، أصر ممثل “سوناطراك” على قانونية كل ما قامت به الشركة، وعندما طلبت عون نسخة من العقد، أحضره إليها ممثل عن الشركة، وتبين أنه منذ توقيعه قبل حوالي 15 سنة، لم يطلع عليه أي مسؤول في الدولة اللبنانية، وهذا ما يشكل فضيحة أخرى، طبعاً إذا قررت القاضية عيد نشر هذا العقد أو توزيعه على الصحافيين بالتزامن مع الإدعاء يوم الثلاثاء المقبل.

وفي كل الحالات، وبمعزل عن الإجابة التي ستحدد درجة مسؤوليّة الشركة الجزائريّة، من المؤكّد أن أي إجابة على هذا السؤال لن تنفي مسؤوليّة الأطراف اللبنانيين الذين تورّطوا طوال الفترة الماضية في أعمال إستهدفت تزوير نتائج الفحوصات المخبريّة لعيّنات الفيول، كما لن تنفي مسؤوليّة هذه الأطراف عن الأعمال التي إستهدفت إخفاء مصدر الفيول الحقيقي. ويقودنا هذا البحث إلى سؤال آخر: من هي الأطراف المحليّة التي إستفادت من عمليّة إعادة التلزيم هذه، ومن تكون الشركة – أو الشركات – التي كانت تقوم فعلياً بتزويد لبنان بالفيول بدل “سوناطراك”؟

هناك جهات محليّة تعرف بكل دهاليز الصفقات في لبنان، وتمثّل المستفيد النهائي من كل عمليّات التزوير التي جرت، فهل تصل التحقيقات إلى درجة كشف هذه الجهات؟

بحسب التحقيقات، كان بعض الموظّفين في منشآت النفط بتقاضون رواتب ثابتة يصل بعضها إلى حدود 2500 دولار أميركي شهريّاً من طرف ما، بالإضافة إلى  الرواتب التي كانوا يتقاضونها من الدولة اللبنانيّة. وبلغة أوضح، هناك جهات محليّة تعرف بكل دهاليز الصفقات في لبنان، وتمثّل المستفيد النهائي من كل عمليّات التزوير التي جرت، فهل تصل التحقيقات إلى درجة كشف هذه الجهات؟

“سوناطراك”: تاريخ من الشبهات

لا تمثّل حكاية “سوناطراك” مع لبنان إستثناءً في تاريخ الشركة الحافل بقضايا وتحقيقات فساد في أماكن مختلفة من العالم.  في العام 2010، جرى توقيف محمد مزيان رئيس الشركة وإحالته مع بعض مساعديه إلى التحقيق، بتهم فساد مختلفة. وإمتدّت قائمة المتهمين في القضيّة لتشمل إثنين من نوّاب مزيان، وخمسة من المديرين التنفيذيين في الشركة. ولاحقاً، إنفجرت أخبار قضايا الفساد تباعاً أمام الرأي العام على مراحل، وعُرفت القضايا بقضايا “سوناطراك” 1 و2 و3 و4، وتتعلّق بشبكة فساد مالي وسياسي واسعة ضمّت مسؤولين جزائريين في قطاع النفط، وشملت القضايا تلقي رشاوى وعمولات كبيرة مقابل توقيع صفقات ضخمة بين الشركة وشركات عالميّة.

وفي العام 2014 بدأت المحاكم الجزائريّة بالبت في أكبر قضايا الفساد النفطي التي عرفتها البلاد، وتعلّقت بصفقات أبرمتها شركة “سوناطراك” مع شركات أجنبيّة ألمانيّة وإيطاليّة. وتبيّن في التحقيقات في ذلك الوقت أن شبكة واسعة من المسؤولين الحكوميين إمتلكوا حسابات سريّة في دول مختلفة من العالم، تلقوا من خلالها عمولات كبيرة مقابل توقيع عقود بإسم “سوناطراك” مع شركات أجنبيّة لتنفيذ مشاريع بتروليّة معيّنة.

وفي العام 2019، جرى منع المدير التنفيذي لشركة “سوناطراك” عبد المؤمن ولد قدور من السفر في الجزائر، للإشتباه في ضلوعه في قضايا فساد مختلفة، فيما أعلن رئيس أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح في ذلك الوقت أن القضاء سيعيد فتح ملفّات الفساد بما فيها تلك المتعلّقة بالشركة.

إمتدّ فتح الملفّات المتعلّقة بالشركة، ليشمل قضايا في المحاكم الكنديّة والمصريّة والإيطاليّة، وإرتبطت كل تلك القضايا بمسائل متعلّقة بإستغلال نفوذ وتقاضي رشاوي وعمولات مقابل عقود، وهي قضايا لا تختلف كثيراً عن التهمة التي تواجهها الشركة اليوم في لبنان. وفي القضايا التي عُرضت أمام المحاكم الأجنبيّة، وتحديداً إيطاليا وكندا، جرى عرض تفاصيل تلك الصفقات بوضوح أمام الرأي العام، بما فيها الأطراف المحليّة التي إنخرطت في تلك الأنشطة غير المشروعة. فهل تصل التحقيقات في لبنان إلى نفس النتيجة؟ وهل يمكن للرأي العام اللبناني أن يعرف هويّة المستفيدين المحليين من صفقة غامضة أبرمت مع “سوناطراك” منذ سنة 2005؟

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  الأوهام المنتفخة، الجدران المتكسرة.. والخيمة الباقية