هل أنت لبناني صهيوني؟

ليس هذا عنوان التقرير الذي نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" عن أبناء اللحديين الذين هربوا إلى الكيان الإسرائيلي قبل عشرين عاماً وصاروا حالياً جنوداً في الجيش الصهيوني، وإنما كان السؤال الأخير في التقرير، والذي أجيب عليه: "يبدو هكذا".

كان عنوان التقرير هو “جيش لبنان الجنوبي.. الجيل المقبل”، وهو يروي قصة ثلاثة من أبناء جنود الجيش اللحدي الذين يخدمون حالياً في الجيش الصهيوني وهم، غانم وجورج وشادي (وهذه أسماء وهمية)، والذين كانوا أطفالاً حملهم أهلهم عند هروبهم بعد انسحاب الجيش الصهيوني في أيار/مايو العام 2000. ويتحدث هؤلاء الجنود عن أزمة الهوية عندهم، وعن أشواقهم، وعما سيفعلون إذا اضطروا للقتال في لبنان.

يبدأ التقرير بعرض ما حدث لشادي عندما صعد أول مرة كجندي في الجيش الصهيوني إلى الحدود اللبنانية ومقدار انفعاله. يشير إلى أنه “بالزي العسكري التقليدي، وبحذاء أسود وطاقية حمراء، هذا الجندي في لواء جولاني من الكتيبة 51 رفع سلاحه ووجه منظار مهدافه ليتفحص بفضول كبير الناس، البيوت والسيارات التي مرت قرب السياج الأمني. وكذلك فحص مواقع حزب الله، والأعلام الصفراء-الخضراء ترفرف فوقها. كان لبنان في الجانب الثاني، ولكن شادي لم ير فقط أمامه دولة عدو. لقد كان ينظر إلى وطنه. ابتسم وقال: رفاقي في الكتيبة ضحكوا عليّ. قالوا لي ها قد عدت إلى بيتك”.

كلام الجنود كان صحيحاً بدرجة كبيرة. قبل عشرين عاماً بالضبط، كان شادي في الجانب الآخر من الحدود، محمولاً على ذراعي أمه. وهو يقول: “ولدت في عين إبل، قرية مسيحية غير بعيدة عن بنت جبيل. وكان والدي ووالدتي يخدمان في جيش لبنان الجنوبي. والدي قائد سرية وأمي إدارية. كما كان جدي في الجيش الجنوبي. فهذا أمر متوارث في عائلتنا”.

اعتاد والد شادي التدرب في قاعدة للجيش داخل إسرائيل، وأقام علاقات جيدة مع ضباط خدموا معه. ويقول شادي أن “له أصدقاء من تلك الفترة حتى اليوم، يصلون لزيارته في الإجازات. وهو يشعر على الدوام بأن الإسرائيليين وهو يقاتلون سوياً كأنداد”، وأن تلك كانت حرباً مريرة: ذات مرة أصيب الوالد في كمين لحزب الله، ونجا بعدما نقله أحد رفاقة إلى ملاذ آمن. وحتى الآن لديه ثغرة في رجله من طلق أصابه.

رواية 25 أيار/مايو 2000

كان عمر شادي أقل من سنتين عندما انسحب الجيش الإسرائيلي بسرعة من الحزام الأمني، تاركاً خلفه أرثاً نازفاً من 18 عاماً تمرغ في وحل الجنوب اللبناني. كما أن مقاتلي جيش لبنان الجنوبي الذين حاربوا إلى جانب الجيش الإسرائيلي، اضطروا للمسارعة بالهروب. ويردد شادي قصصاً سمعها من والديه: “الأمر جرى فجأة. لم نعرف شيئاً مسبقاً. كان ينبغي حزم أمتعتنا بأسرع وقت. وودعنا الجد والجدة، من دون أن نعلم أن هذه آخر مرة نراهم”.

وصلت حافلات إلى القرية، ونقلت جنود الجيش الجنوبي وعائلاتهم نحو الحدود. ويقول شادي: “وصلنا إلى البوابة واستغرق الأمر وقتاً طويلاً لأن الفوضى كانت سائدة، لكننا في النهاية دخلنا إلى إسرائيل وكنت طوال الوقت في حضن والدتي”.

ما هو شعور عائلتك إزاء طريقة انسحاب الجيش الإسرائيلي؟

“على الدوام هناك صرخة أنهم تركونا. لم يكن معروفاً ما سيجري وشعرنا بالخيانة. ولكن لاحقاً أقول لنفسي إنّ من حظنا أننا وصلنا هنا. الظروف هنا أفضل. ووالدي الذي شعر بالخيانة، فهم في مرحلة معينة ما جرى. واضح أنه لم يترك لبنان مختاراً. حتى الآن نحن مقتلعين من بيوتنا”.

تم استيعابهم في كيبوتس غيشر هزيف، غير بعيد عن الحدود، وناموا في مهجع. ويستذكر شادي “بأن في رأسي شذرات صور من تلك الأيام. وأنا أتذكر الأطفال الصغار للجنوبيين، جالسين على العشب في الكيبوتس ويلعبون”.

أكوام الأطفال في حديقة الكيبوتس ربما كانت المرحلة الأولى في تكوين شخصية شادي كإسرائيلي. بعد ذلك، إنتقلت العائلة إلى نهاريا، “ومثل كل طفل إسرائيلي آخر، بدأتُ التحدث باللغة العبرية، وتعلم القراءة والكتابة في الصف الأول. لم أشعر أني مختلف. صحيح أنني في بيت أهلي أتحدث اللغة العربية، ولكني بسرعة فقدت هذه اللغة لأن أغلب الوقت كنت أقضيه مع يهود. حتى اليوم لغتي العربية ليست على ما يرام. كل أصدقائي هم من اليهود، وطوال اليوم أتحدث بالعبرية”.

متى بدأت لديك فكرة التجند في الجيش (الإسرائيلي)؟

“على الدوام أردت أن أكون مقاتلا وأن ألتحق بلواء جولاني”.

هل ترددت في التجند؟

لا، كان هذا خياري الطبيعي، فعلاً مثلما تجند والدي وجدي في الجيش الجنوبي.

كشخص ولد مسيحيا في لبنان، ولا يزال قسم من عائلته هناك، هل ظهرت عندك مشاكل أثناء خدمتك العسكرية؟

على الدوام كان أصدقائي يسألوني: هل إذا وقعت حرب مع لبنان ستذهب هناك أم لا؟ وهذا يعني أن أحارب الدولة التي ولدت فيها. ولكن هذه ليست مشكلة عندي. حزب الله هو عدو عائلتي قديماً في لبنان، وهو اليوم عدو إسرائيل. العدو هو العدو. وعدا ذلك أنا معني بتقديم إسهام لدولتي.

شادي ليس وحيداً. تعيش حالياً 600 عائلة لجنود “الجنوبي” الذين فروا إلى هنا بعد الانسحاب من جنوب لبنان. وأبناء الجيل الثاني والثالث من هؤلاء “الجنوبيين” معفيون من الخدمة العسكرية. وأغلب هؤلاء الجنود يفضلون عدم الانكشاف، خشية تعريض أبناء عائلاتهم الباقين في لبنان للخطر.

جورج وغانم..  والإندماج

وعشية “عيد الاستقلال” وبمناسبة مرور 20 عاما على وصولهم لإسرائيل وافق شادي واثنان من رفاقه، الملازم جورج والرقيب غانم أبو ساري على نشر قصتهم الشخصية. والمقابلة التي أجريت معهم بروحية هذه الأيام تمت عبر برنامج “زووم”. شادي حاليا في بيت والديه في نهاريا، تم تسريحه من الخدمة العسكرية وسط عاصفة كورونا. وقال مستخفاً: “كل رفاقي في السرية وأنا اشترينا تذكرة سفر إلى امستردام لإجازة نهاية الخدمة. كان يفترض أن نطير إلى هناك، ولكن الأمر حالياً غير ممكن”.

والملازم جورج في الثالثة والعشرين من عمره، ولد أيضا في عين إبل. كان والده ميكانيكي دبابات في الجيش الجنوبي، وهو يقود حاليا سرية في قاعدة الأغرار “دوتان”. ويقول جورج: “نحن هنا في حالة انعزال، لا نخرج من البيت كي نمنع العدوى. بل احتفلنا هنا بعيد الفصح”. وجورج مسيحي لكن كل جنوده متدينون يخدمون في مساق طلاب المدارس الدينية اليهودية. يقول: “نحن نتدبر أمرنا جيداً وصدقوني أنني أعرف الديانة اليهودية بقدر ما أعرف الديانة المسيحية”. وهو يردد غيباً مقاطع من التراتيل.

يستذكر جورج “أنني أتذكر نفسي طفلاً صغيراً مع حرام على المعبر الحدودي، وغير فاهم ما يجري حولي. كل شيء جرى بسرعة. لم يكن أحد يعرف ما نحن ذاهبون إليه. الناس كانوا واثقين أن الأمر لأسبوع أو أسبوعين، لشهر أو شهرين، ونعود بعدها إلى بيوتنا. ما حمله الناس معهم من أغراض كان يعكس اقتناعهم أنهم عائدون بسرعة كبيرة إلى بيوتهم. لم يأخذ أحد في الحسبان أننا سنبقى هنا عشرين عاماً”.

أما الرقيب أبو ساري، فهو أيضا في الثالثة والعشرين من عمره، انضم إلى الحوار من قاعدة الإمداد “طيره” في طيرة الكرمل. كان والده قائد دبابة في الجيش الجنوبي. وأيضا هو أراد أن يكون محارباً لكنه أصيب قبيل التجنيد وتراجع تصنيفه. وهو يخدم في الجيش الإسرائيلي كسائق شاحنة. وهو يقول بعدما سمع أن شادي من لواء جولاني يخدم على الحدود مع لبنان أن هذا “حلم”، مضيفاً “أنا أستميت لرؤية أين كان يقع بيتي. وصلت إلى إسرائيل في سن الثالثة ولا أذكر شيئا من هناك”.

ثلاثتهم لبنانيون إسرائيليون، قدم هنا وقدم هناك. ولغتهم الأم عربية، لكنهم يتحدثون العبرية بطلاقة وبنكهة عسكرية لأبناء العشرينات. وهم مسيحيون لكنهم في ليلة الجمعة-السبت، يؤدون الصلاوات مع رفاقهم ويعرفون متى يقولون آمين. وللمراقب من بعيد فإن هذا الخليط “سيبدو ربما غريباً، لكنهم لا يعرفون شيئا آخر. في يوم الاستقلال يحتفلون مثل أغلب الإسرائيليين بإيقاد النار”. ويقول شادي: “مؤسف أننا لن نتمكن هذا العام من إيقاد النار”.

ومع ذلك، فإن لبنان جزء من هويتهم. يقول جورج: “عائلتي جاءت من لبنان، هناك جذوري. ولبنان هو تقاليدي، وعاداتي، وهو العقلية التي تربيت فيها، وثمة أهمية عندي لأن أحافظ على ذلك. هذا مثلما تسأل أحداً هاجر من المغرب، حتى قبل 60 عاماً، عما هو هام عنده للحفاظ على تراثه من هناك. وإذا كان بعد جيل أو جيلين لن نعرف ماذا كان يعمل والدينا أو ما هو جيش لبنان الجنوبي”.  ويقتبس جورج عن قائد البلماخ الجنرال يجئال ألون قوله: “حينها نفقد حقنا في الوجود كطائفة، فالشعب الذي لا يتذكر ماضيه، يكون حاضره ضعيفا ومستقبله ضبابي”. ويضيف أن “هذه الجملة دقيقة جدا في نظرنا”.

ولا شيء مثل وباء الكورونا لوصف مقصدهم. يقول أبو ساري أن “والدايّ يصغيان كثيرا للأخبار من لبنان، ومهم لهما أن يطلعا على كل جديد. لا تُنشر هناك معلومات كثيرة عن أعداد المصابين، والفحوصات هناك تكلف مبلغا كبيرا، ليس كما في إسرائيل”.

على مدى سنوات اثيرت اتهامات من خريجي جيش لبنان الجنوبي بشأن تعامل الدولة العبرية معهم. قال ممثلو الجيش الجنوبي فقط قبل عامين، في نقاش خاص بشأنهم جرى في الكنيست “أننا بقينا فاقدين لكل شيء والدولة أخذت منا حتى الكرامة”. ويتعلق قسم من الاتهامات بواقع أن عددا من كبار قادة الجيش الجنوبي السابقين يحظون بدعم كبير من وزارة الدفاع، فيما أن أصحاب الرتب المنخفضة يتلقون مساعدة ضئيلة من وزارة الاستيعاب.

عدد من كبار قادة الجيش الجنوبي السابقين يحظى بدعم كبير من وزارة الدفاع، فيما أصحاب الرتب المنخفضة يتلقون مساعدة ضئيلة من وزارة الاستيعاب.

ويحلل جورج الوضع ويقول: “الأمر كان صعبا على الجيل الأول، فالانسحاب من طرف واحد من لبنان، والوصول إلى هنا لم يكن بسيطاً. الأمر جرى بسرعة عندما فهموا أن الجيش الإسرائيلي ينسحب وكلنا انسحبنا معه. لم يكونوا مستعدين لذلك. شعور بأنك تصل إلى دولة جديدة في سن الأربعين من دون أن تعرف العقلية ولا اللغة. هناك فوارق كبيرة بين المجتمع المسيحي في لبنان والمجتمع اليهودي في إسرائيل. وفي الجيش الجنوبي كان هناك رجال خدمة دائمة تلقوا رواتب جيدة، وفجأة جاؤوا إلى هنا من دون رتبة، ومن دون مهنة يمكنهم العيش منها. أنت بحاجة لأن تعمل من الصبح حتى الليل لكي تعيل نفسك وعائلتك. الأمر ليس بسيطا”.

إقرأ على موقع 180  خطوط الترسيم تتعدد: لبنان يقاتل خلف خطوط العدو

ويضيف: “من جهة أخرى الأمر يتعلق بك، إذا اخترت أن تغدو جزءاً من المجتمع في إسرائيل، أو البقاء كشخص غريب. والأمر كله يتعلق بالمقاربة، والفهم بأنك جزء من مجتمع جديد، والسؤال الآن ما الذي تقدمه أنت وما الذي تأخذه بالمقابل”.

هم اختاروا الاندماج، بل والتجند في الجيش. وفي الجيش استقبلوهم بأذرع مفتوحة. يقول شادي: “لم أشعر بأنني غريب ولا مرة. فالمنظومة العسكرية الإسرائيلية تتعامل مع الجميع بالطريقة نفسها، كما أن الجنود يتعاملون معي على الدوام باحترام. في البداية عندما سمعوا عن خلفيتي، كانوا مصدومين بعض الشيء، ولكنهم أخذوا الأمر بسخرية. بل أنهم صاروا يقدروننا لأننا لسنا ملزمين برغم كل شيء بالتجند للجيش”.

ويقول جورج: “أنا سأبدأ بعد قليل عامي الخامس في الجيش. وطوال الوقت كنت قائدا. كل جنودي عرفوا في مرحلة ما خلفيتي، ولكنني أبدا لم أشعر بالتخوف لديهم. إن الجيش هو المكان لأن تكون متساوياً. ولا يهم من أي جنس أو دين أو قومية أنت”.

ويقول جورج: “إن فرصتنا أكبر في الاندماج في المجتمع الإسرائيلي. فالجيش يحتل مكانة مركزية في كل ما يتعلق بالحياة في الدولة وفي الثقافة الإسرائيلية. وهذا فصل جوهري في قدرتك على الاندماج وأن تسهم وأن تعطي من نفسك بالضبط مثل باقي أبناء جيلك”.

جيش لبنان الجنوبي

لقد بُدئ بإنشاء جيش لبنان الجنوبي في نهاية سبعينيات القرن الماضي، كقوة عسكرية أعدت لمساعدة الجيش الإسرائيلي أساسا في الحزام الأمني. وقد تأسس على سكان محليين، وحتى العام 1986 كان يعد 2500 مقاتل، مسيحيين، شيعة، ودروز وسنة.

يقول جورج أنه “من ناحية والدي، كان الانضمام لجيش لبنان الجنوبي نابع من حاجة دفاعية. في السبعينيات، نشبت حرب أهلية كبرى في لبنان. في تلك الفترة، كانت هناك منظمات إرهابية فلسطينية انتقلت من الأردن إلى جنوب لبنان. ونشأ عدم استقرار في المنطقة تحول إلى نقطة احتكاك مع إسرائيل. وكانت هناك حاجة أساسية للدفاع عن حياة الناس في قرى الجنوب”.

والجيش الجنوبي الذي عمل أصلا في ظروف وأوضاع معقدة، بدأ في التفكك في العام 2000، بعد قرار من حكومة إيهود باراك بالانسحاب من الحزام الأمني. وبدأ الكثير من أعضاء التنظيم بترك مواقعهم. وفي 24 أيار/مايو، مع تنفيذ الانسحاب فعليا، هرب كثير من رجال الجنوبي وأبناء عائلاتهم باتجاه الحدود مع إسرائيل، خشية أن يذبحهم حزب الله وأنصاره.

والحياة في إسرائيل كانت سهلة لدى أغلب الفارين من لبنان. ومن بين 6000 من رجال الجيش الجنوبي وعائلاتهم الذين دخلوا إلى إسرائيل في أيار/مايو 2000، فقط النصف بقي هناك. الباقي ذهب إلى أوروبا أو عادوا إلى جنوب لبنان، معظمهم بعدما دفعوا فدية لحزب الله.

وترك الفارون خلفهم ليس فقط أملاكا كثيرة، وإنما أيضا أبناء عائلات. ويقول جورج: “أنا أتذكر بشكل ضبابي بيت جدي وجدتي في لبنان. وكان والداي في حمى بناء بيت لهم. ولم يكتمل البناء طبعا حتى اليوم”.

الجزء الأكبر من عائلات الجيش الجنوبي موجودة في نهاريا، طبرية، كريات شمونه. وهم يعيشون وسط السكان اليهود. ويتذكر جورج “أننا في البداية تعلمنا في مدرسة في نهاريا خصصت للجنوبيين. وبعدها تفككت المدرسة وقالوا: من هنا كل واحد يذهب إلى مدرسة بجوار مكان سكنه. وكانت هذه أغرب الفترات، لأننا حتى ذلك الوقت كنا منفصلين عن المجتمع اليهودي

ولأبو ساري وشادي أبناء بقوا في لبنان، لكنهم حذرون من التواصل معهم. يسكن أبو ساري وشادي حاليا في نهاريا، في تجمع لبضع مئات من خريجي الجيش الجنوبي. ويوضح جورج: “هناك علاقة وثيقة بين أبناء الجالية. معظم رجال الجيش الجنوبي اختاروا السكن في الشمال بسبب ارتباطهم بالمنطقة. وهذه دائرة أصدقاء من جيش الوالد وتستمر حتى الآن”.

ويضيف انهم “في الأعياد يلتقون كثيرا، ويصل إليهم كاهن من لبنان يتنقل عبر الحدود الإسرائيلية، ويملك تصريح رجل دين، ويدير الجالية من ناحية دينية. وفي كل أسبوع هناك صلاة في الكنيسة في عكا، تعود فقط للجنوبيين. وأيضا في مراسم الذكرى السنوية للانسحاب من لبنان يلتقي أبناء الجالية”.

هناك عدة أمور توحدهم. يقول شادي: “أمي دوماً تعد أكلات لبنانية. مناقيش، مجدرة، ملوخية”. ويملأ وجه أبو ساري المبتسم شاشة الحاسوب. ويضيف الجندي الباقي في قاعدة طيرة الكرمل “وأيضا التبولة”.

كما أن علاقات الزواج لاصق يحفظ الصلات بين خريجي الجيش الجنوبي. ويقول جورج “حوالي 80 في المئة من حالات الزواج تتم داخل الجالية. من ناحية الأهل هذا مثالي. ولكن الأمر في أساسه ديني. فالدين جزء جوهري من عالمنا الذي نعيش فيه. وهذا يصح أيضا على اليهودي الراغب في الزواج”.

الجزء الأكبر من عائلات الجيش الجنوبي موجودة في نهاريا، طبرية، كريات شمونه. وهم يعيشون وسط السكان اليهود. ويتذكر جورج “أننا في البداية تعلمنا في مدرسة في نهاريا خصصت للجنوبيين. وبعدها تفككت المدرسة وقالوا: من هنا كل واحد يذهب إلى مدرسة بجوار مكان سكنه. وكانت هذه أغرب الفترات، لأننا حتى ذلك الوقت كنا منفصلين عن المجتمع اليهودي، وكنا منطوين على أنفسنا، ولكن التكيف كان سريعاً نسبياً”.

ويقول جوزيف:”اخترنا الاندماج وليس الانعزال داخل القرى العربية. قسم من العرب هنا رأوا فينا خونة. ولكن اليوم عندي أصدقاء من عرب إسرائيل، وأنا لا أصطدم بأقوال اتهامية من جانبهم، بل على العكس. عموما هم يميزوننا سريعا من لهجتنا، وحينها يتحمسون. حتى إذا كان في البداية عداء، فإن الأمر غير ملموس حاليا”.

بنظرة إلى الوراء 20 عاما، هل أهلكم فرحين لتركهم لبنان؟

أبو ساري: “نعم. لو بقي والدي هناك، لما كان سيقيم عائلة. في اللحظة التي ترك هناك كان يعرف أن كل شيء بات خرابا خلفه”.

جورج: يستحيل القول أنهم سعداء تماما، فقد أبقوا هناك الكثير. ولكن عندما تنظر إلى الوضع، الحياة هنا مقابل الحياة هناك، والحقوق التي ننالها، تفهم أن جودة الحياة في إسرائيل وقدرتك على التطور، أكبر. في لبنان شبان ينهون درجات جامعية ولا يجدون عملا، وهم يهاجرون إلى الخارج. الابتعاد عن المكان الذي نشأوا فيه صعب، ولكن ربحنا هنا حياة جديدة، أفضل بكثير”.

شادي: “والداي ما كانا ليعودا إلى هناك. ولو تمكنا فسوف يقومان فقط بزيارة صغيرة للبنان، فقط من أجل رؤية عائلتهم”.

إلى أي حد من المهم لأهلكم الحفاظ على هويتكم اللبنانية؟

جورج: “الأمر كان مهما فقط للجيل الأول أساسا. وأنا أشعر أن الجيلين الثاني والثالث لخريجي الجنوبي، هويتهم تضيع. الجيش الأول منشغل كثيرا في إعالة البيت والاهتمام بالأولاد، فكم من الوقت يمكنك أن تستثمر في الحفاظ على هويتك اللبنانية؟ أنا كنت سأكون مسرورا لو أنهم انشغلوا بذلك أكثر”.

لماذ؟

“ننظر إلى الجيل الثالث، الذي ولد في البلاد، ونرى الاضطراب. اللغة العربية اللبنانية ضعيفة. هناك أزمة هوية. إذا سألت قسماً منا عن هويته فلن يرد لك كل واحد منهم جوابا صحيحا”.

إذن من أنتم وماذا أنتم؟

شادي: “أنا إسرائيلي تماما، خصوصا بعد تأدية الخدمة العسكرية. وصلت إلى هنا عندما كنت في عمر السنتين، حينها لا أذكر كثيرا عن لبنان، عدا عادات عائلتي، التي وصلت معي. أنا أشعر أنني إسرائيلي مسيحي”.

جورج: أنا أعتقد أن الهوية الإسرائيلية تحتل مكانا أكبر لدى كل واحد منا. وهذا يعبر عن نفسه باللغة العبرية، بالتعرف على الدولة والخدمة العسكرية، وفي نظري هذا يسمى صهيونية، أن تحب البلاد التي تعيش فيها وأعطتك الكثير جدا. ومع ذلك أعتقد أنه مهم جدا لي الحفاظ على الرابطة مع الجذور. في نهاية المطاف، لبنان هو الوطن”.

إذن أنت لبناني صهيوني؟

“إذا كنت أجلس هنا مرتديا البزة العسكرية، فيبدو أن الجواب نعم”.

Print Friendly, PDF & Email
حلمي موسى

كاتب متخصص في الشؤون الاسرائيلية

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  "زعران المستوطنين" يُهجّرون قرى عربية.. تحت غطاء الحرب