تداعيات “طوفان الأقصى” كشفت المخبوء وصحّحت الالتباس في المفاهيم وتأكدت لنا فطرة الإنسان السليمة؛ ولا سيما فطرة العدل، وخير دليل ما تشهده الولايات المتحدة الأميركية على صعيد جيل الشباب الجديد الذي يسمونه الجيل Z الذي يُعبّر معظمه عن الإنحياز لمصلحة قضية فلسطين، وفق أكثر من إستطلاع للرأي العام الأميركي، وكل ذلك بفضل الإعلام البديل وليس الإعلام التقليدي من صحف ومجلات وفضائيات إلخ..
واستنادًا إلى ما سبق، تُسجل في بريطانيا أسبوعيًا تظاهرات مركزية وأخرى فرعية، ووفق المتداول، تقدمت محطة الإذاعة البريطانية (بي. بي. سي) بسؤال مفتوح متقصّية محركات المشاركة في التظاهرات الداعمة لغزة، وكانت الاجابات بحسب المتابعين أن المنصات الاجتماعية الرقمية هي المحرك الرئيس لهم.
وأمام البيت الأبيض، جسّد مواطنون أميركيون المجازر التي ترتكبها إسرائيل بشكل تمثيلي ورفع المتظاهرون أعلام فلسطين منددين بوحشية وعنصرية الاحتلال. وهناك أيضًا اجتمع العديد من النشطاء السود للتنديد بالموقف الأميركي المساند لا بل الممول لإسرائيل في حربها ضد أهل غزة. وصدّح صوت الناشطة والكاتبة السياسية الأميركية السوداء أنجيلا ديفيس أمام المتظاهرين بقولها “إن فلسطين هي الاختبار الأخلاقي للعالم”، وأنجيلا من أصول أفريقية من المناضلات اللواتي عانين من محاصرة اللوبي الصهيوني لها بسبب مواقفها التقدمية من قضية فلسطين.
وكانت قد سبقهتا الشاعرة الراحلة جون جوردان وهي أيضاً من الأميركيين السود في التعبير عن موقفها حيال أهمية قضية فلسطين بالنسبة لحركات العدالة الاجتماعية، ما يشير إلى تاريخ من العلاقة التضامنية بين الأميركيين السود والقضية الفلسطينيّة.
من الناحية التاريخية، تميل البشرية نحو ظاهرة نصرة الإنسان إخوته في الإنسانية وكان ذلك بعيدًا عن دعوات المؤثّرين، وبعيدًا عن تلك الحوائج والمصالح العرقية والإثنية والحزبية، ما يُشير إلى أن ثمة حاجات نفسية أخرى للتضامن افتقر إليها العالم الغربي مؤخرًا لتعذر تحقيقها لأسباب تحتاج إلى مساحة أكبر في تناولها، ولكن هناك حاجات ضمنية أساسية في لاوعي البشر عامة؛ كالحاجة إلى التماسك والانتماء وصناعة التجانس والتوحد، وأن يكون الفرد جزءًا مهمًا من كل أكبر لإبعاد الشعور بالغربة النفسية والقلق على أنواعه، وكذلك هناك الحاجة إلى التنعّم بمشاعر ايجابية كالفخر والقوة والامتثال من خلال المشاركة والتضامن وخصوصًا إذا كان الحدث ذات أهمية قصوى كالذي يحدث في غزة.
هناك حاجة للتنعّم بمشاعر ايجابية كالفخر والقوة والامتثال من خلال المشاركة والتضامن وخصوصًا إذا كان الحدث ذات أهمية قصوى كالذي يحدث في غزة
ولدى الإنسان كذلك حاجة لمرجعية قيمية توجه سلوكه تحت أي ظرف من خلال سياق اجتماعي أو مواقف تثير الحاجة إلى الانضمام والتعبير والتفريغ، وفي غياب هذه المحفزات أو المرجعية التي يفتقدها الغرب لا شك أنه قد وجد ضالته في المشاركة وتلبية دعوات المؤثّرين للتعبير عن الرفض والغضب مما يحدث في غزة.
وبالإشارة إلى الحاجات الضمنية هي حاجات نفسية أولية لاشعورية مرتبطة بالعواطف الأولية مثل الحاجة إلى التعبير عن الغضب والحب ومشاركتها مع الآخرين، وقد تحدث سيغموند فرويد رائد مدرسة علم النفس التحليلية عن حاجة الإنسان إلى التوظيف العاطفي مع الآخر الذي يبدأ مع المثلث الأسري (أم/ أب/ طفل) ليصل إلى الأسرة النواتية ثم الممتدة والمجتمع الأوسع في ما بعد.
أما إجتماعيًا فالتضامن هو قيمة فطرية عالمية إنسانية بالدرجة الأولى لحفظ المجتمعات ويشير إلى الروابط التي تصل بين الأشخاص وجيرانهم ويصنف كنوع من الإشتراكية السياسية ومحركًا للمجتمعات الراكدة، وهذه النقطة تناولها الكثير من العلماء والدارسين وأبرزهم إبن خلدون في مقدمته حيث وجد في التضامن نوعًا من العصبية والضمير الجماعي واللبنة الأساسية في المجتمع الإنساني والقوة الدافعة له حيث يكتسب الأفراد داخل الجماعة وجودهم ومعنى حياتهم.
ويتغذّى مفهوم التضامن من المؤثرات المحيطة، ففي الدول الكبرى يقوم التضامن على حفظ المصالح والأمن المشترك، أما في الدول الفقيرة فيقوم التضامن على المسائل العاطفية والإنسانية والدوافع الدينية في نصرة الإنسان لأخيه الإنسان ولو كان هناك بعدًا جغرفيًا والمقاومة في اليمن ولبنان خير مثال على ذلك في دفاعهما عن غزة.
للتضامن خاصية وهي تداعي الأفراد والجماعات نحو صحوة الضمير، وكون التضامن عملية ضمنية كما ذكرنا فقد يكون هذا التداعي الذي شهدناه للشعوب لاواعيًا في أصله حتى لو كان مدفوعًا بطرق رقمية عن طريق وسائل التواصل. أما على مستوى الوعي فلا شك أن التضامن والتعبير عنه مسؤولية إنسانية تقع على عاتق الأفراد والجماعات كلٌّ حسب موقعه وقدرته وادراكه لحجم الواقع والمخاطر المحدقة بالإنسان حيث يكون جزءًا لا يتجزأ من عملية إحداث تحول في وجهة التاريخ وأحداثه، بالفعل والقوة معًا.