كان الاستيلاء على القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية أو المقدسة حلم آل عثمان وكان مطلباً صعب المنال نظراً لأسوارها الأسطورية في ضخامتها ومتانتها، مما جعل كل محاولات اقتحامها تفشل عبر العصور… تسرد القصة أن السلطان مراد وضع ذات مرة تفاحة حمراء، في منتصف سجادة مفروشة، ووقف حولها هو وكبار جنرالاته ووزراءه، وسألهم عمن يستطيع أن يلتقط التفاحة دون أن تطأ قدماه السجادة، فحاروا جميعاً إلا ابنه الطفل تقدم طالباً الأذن له بالمحاولة، ثم ركع على الأرض، وبدأ يطوي السجادة حتى وصل إلى التفاحة، فالتقطها وأعطاها لوالده.. كان هذا الطفل هو محمد الذي تولى الحكم بعد والده باسم محمد الثاني، ثم لقب بمحمد الفاتح بعد نجاحه في فتح القسطنطينية، مما أفسح أمام العثمانيين الأراضي الأوروبية وكان ذاك بداية نشوء الإمبراطورية العثمانية وازدهارها.
***
إرتبطت قصة التفاحة الحمراء بالاستيلاء على القسطنطينية، وأصبحت بعد ذلك رمزاً للأهداف المبتغاة وصعبة المنال. التفاحة الحمراء الأخرى التي استولت على عقل قائد عسكري أقل كفاءة وأكثر غشامة وأضيق أفقاً، هي طرابلس التي جعلت الجنرال حفتر في سعيه المحموم لالتقاطها يطأ بحذائه الثقيل على السجادة الليبية، مخلفاً دماراً وخراباً، من دون أن يحقق أهدافاً، بل أضاع معظم المكاسب، كما أضاع فرصة نادرة أتيحت له لكي يدخل طرابلس – ليس غازياً- وإنما كقائد عام للجيش الليبي الوطني ووزيراً لدفاع الحكومة المعترف بها شرعياً. كان ذلك العرض متاحاً، وفي الواقع كان أهم “جزرة” ستقدم للجنرال حفتر لحثه على قبول الصفقة التي عمل من أجلها المبعوث الدولي غسان سلامة، في إطار الإعداد لمؤتمر برلين الذي كان مقررا أن يبدأ في نيسان/إبريل من العام 2019 لولا زحف حفتر المفاجئ على طرابلس.
لم يعِ اللواء حفتر أن لديه عناصر قوة كثيرة غير القوة العسكرية، لو أحسن استخدامها لكانت له اليد العليا الآن، وأن القوة العسكرية ليست هي العنصر الوحيد من عناصر القوة
لم يعِ اللواء حفتر أن لديه عناصر قوة كثيرة غير القوة العسكرية، لو أحسن استخدامها لكانت له اليد العليا الآن، وأن القوة العسكرية ليست هي العنصر الوحيد من عناصر القوة. استهان بما تملكه حكومة الوفاق من عناصر قوة، وعلى رأسها أنها “الحكومة المعترف بها شرعياً”، فهو الوضع الذي مكّنها من طلب المساعدة العسكرية والتدخل، وهو طلب مشروع والاستجابة له مشروعة، ما أتاح الفرصة النادرة لتركيا التي سارعت لإقتناصها.
***
لو كان حفتر لديه مهارات سياسية ودبلوماسية، لكان هو الآن وزير دفاع الحكومة المعترف بها شرعياً، ولو أحسن استخدام هذه المهارات لأمكنه توسيع نفوذه داخل هذه الحكومة، ولأمكنه أن يحكم سيطرته عليها.
***
ولكن للأسف.. أقول للأسف لأن ذلك كان أفضل الحلول بالنسبة للشعب الليبي وبالنسبة لتأمين الحدود المصرية وبالنسبة لاستقرار ليبيا ونموها وازدهارها ووقف التدخلات الخارجية في شئونها، حتى أني أكاد أعزو ما حدث إلى “نظرية المؤامرة” الشهيرة.. قد يكون هناك مَن لعب على أوتار العظمة لدى الجنرال حفتر، وزيّن له الإنجاز التاريخي المتاح أمامه وأن الأمر لن يستغرق أكثر من أسبوعين ويحقق ما لا يمكن تحقيقه على مائدة التفاوض ويحقق ما لم تستطعه الأوائل. ويحضرني، في هذا السياق، مثال أبريل جلاسبي ( April Glaspie ) سفيرة الولايات المتحدة في بغداد، وكيف زيّنت لصدام حسين غزو الكويت، في آخر مقابلة معه، قبل الغزو بخمسة أيام، وبعد إشارتها إلى قيام العراق بحشد قواته على حدود الكويت، دسّت في حديثها عبارات مثل “نحن لا نتدخل في النزاعات العربية – العربية مثل نزاعكم مع الكويت”، وأن التعليمات لديها أن هذه القضية ليس لها ارتباط بأمريكا، الأمر الذي فسّره صدام بأنه ضوء أخضر للتصرف وفق ما يحلو له.
***
بعد مرور عام على إقدام حفتر على مغامرته، اتسعت النتائج الكارثية لهذه المغامرة، ولم يقتصر الأمر على فقدانه معظم “المكاسب” التي حقّقها في الغرب، ولكن الأمن تزعزع في المنطقة الجنوبية وبدأت فلول داعش ترى فيها ملاذاً آمناً. كما أن الجريمة المنظمة بدأت تنشط في المنطقة الشرقية نفسها، حيث ذكر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في تقريره، أن شرق ليبيا بدأ يشهد تدهوراً في النظام العام، بما في ذلك حالات عديدة من الجرائم والترهيب، وأصبحت بنغازي مركزاً للأنشطة الاقتصادية غير المشروعة، بما في ذلك تجارة المخدرات وتجارة السلاح وجرائم الاختطاف. وحذر الأمين العام من أن تنظيم داعش لا يزال يشكل تهديداً للأمن والاستقرار في ليبيا، خاصة بعد أن أعلن زعيم التنظيم في ليبيا المدعو عبد القادر النجدي تحالفه مع زعيم داعش الجديد الذي يدعى “الهاشمي”، وأصبحت أنظار التنظيم تتجه إلى ليبيا كمكان مناسب لتمركزها.
***
كل ذلك، كان بالإمكان تجنبه، ولكن دعونا نبحث الآن في ما يمكن عمله، وهل هناك مخرج من هذه الأزمة التي ازدادت تعقيداً بعد مرور عام كامل على هذه المغامرة التي مزّقت جهود السلام، خاصة وهناك خطر داهم يهدد إخوتنا في ليبيا وهو فيروس كورونا.. لقد أفادت بعثة السلام في ليبيا أن الوضع الإنساني تدهور في ليبيا إلى مستويات غير مسبوقة بينما فيروس كورونا آخذ في الانتشار. وقد ناشد الأمين العام للأمم المتحدة الأطراف المتحاربة بالوقف الفوري للقتال والتعاون مع وكالات الإغاثة الإنسانية لمواجهة جائحة كورونا.
***
الحقيقة أن الكوارث الطبيعية قد تؤدي في بعض الأحيان إلى وقف النزاعات وإحلال السلام. هناك نموذج التسونامي الذي أوقف الحرب الأهلية في مقاطعة “آتشيه” في إندونيسيا التي كانت مسرحاً لقتال عنيف بين قوات الحكومة والمتمردين المطالبين بالانفصال. فما أن انحسرت موجات التسونامي عن المنطقة مخلفةً دماراً مهولاً حتى بدأت قوات الحكومة والمتمردين في التعاون من أجل إنجاح جهود الإغاثة الدولية، وما هي إلا ثمانية شهور حتى تم توقيع اتفاق سلام بين الجانبين في آب/أغسطس عام 2005 وافقت فيه الحكومة على منح الإقليم حكماً ذاتياً كاملاً مقابل التنازل عن مطلب الانفصال.
***
إنني أناشد الدبلوماسية المصرية أن تبدأ تحركاً مع دول الجوار للضغط على كل الأطراف الليبية من أجل قبول مناشدة الأمين العام للأمم المتحدة لوقف القتال لإتاحة الفرصة لالتقاط الأنفاس ولتنسيق جهود المنظمات الدولية لمساعدة ليبيا في مجابهة خطر الفيروس القاتل.. كخطوة أولى قد تليها خطوات على طريق السلام، إذا أخذت مصر زمام المبادرة، خاصة وأن عناصر الحل السلمي أصبحت واضحة للعيان، فالطرفان يتفقان الآن على عدم وجود حل عسكري للنزاع ولا يوجد سوى الحل السياسي، وقد كررت حكومة الوفاق إعلان هذا الموقف حتى بعد الهجوم على طرابلس، كما أن رئيس البرلمان الليبي (برلمان طبرق) السيد عقيله صالح طرح مع بداية رمضان الحالي مبادرة للخروج من الأزمة ترتكز على الحل السياسي وتقصي الحل العسكري، وهذا الموقف له أهميته لأنه صادر عن الجهة الوحيدة التي يستمد حفتر منها شرعيته، ولأنه صدر بعد خطاب الجنرال حفتر الناري في أول رمضان الذي دعا فيه لاستمرار القتال حتى إتمام الاستيلاء الكامل على طرابلس، ثم إعلانه الانسحاب من اتفاق الصخيرات… هذا “البيان” الغشيم الذي زاد موقفه ضعفاً وزاد من عزلته الدولية وقوبل بردود فعل سلبية على نطاق واسع تتراوح بين الرفض والاستجابة والدهشة. فقد قوبل برفض دولي على لسان الأمين العام للأمم المتحدة ورفض أمريكي وتفاجؤ روسي وعدم قبول أوروبي حيث اعتبرته المفوضية الأوروبية قراراً أحادياً ثم الصمت من المؤيدين.
إذن فالأمر يحتاج إلى تدخل وسيط “من ذوي القربى” يحفظ ماء الوجه لمن يريد التراجع ويعمق مفهوم الحل السياسي ويمهد الطريق، ليس إلى مبادرات جديدة ولكن لتنشيط مبادرة المبعوث الأممي غسان سلامة والعودة إلى ترتيبات مؤتمر برلين.
ولا أجد أفضل من دول الجوار للنهوض بهذه المهمة، ولا زلت آمل أن تقود مصر هذا التحرك، الأمر الذي يتطلب منا أن نحرك موقفنا قليلاً نحو المنتصف، فمصر كانت إلى وقت قريب مقبولة من الطرفين باعتبارها الأخ الأكبر في محيطها العربي، بالرغم من تأييدها الواضح لخليفة حفتر، وإن كان ذلك قد تغير بعض الشيء في الآونة الأخيرة لازدياد انحيازها لخليفة حفتر وصدور بيانات من جانبنا تتضمن اتهامات لحكومة السراج. ومع ذلك، هناك من المؤشرات ما يشير إلى استمرار الترحيب بدور مصري في جهود إحلال السلام.
فلتتقدم مصر لقيادة تحرك قوي يدعو إلى القبول الفوري لمبادرة الأمين العام للأمم المتحدة لوقف القتال وإعلان هدنة إنسانية لخدمة أغراض الإغاثة وإجراءات الوقاية من جائحة فيروس كورونا… ويمكن لمصر دعوة الاتحاد الروسي للمشاركة في هذا التحرك، الأمر الذي يضفي عليه ثقلاً دولياً له قيمته، خاصة وأن روسيا مقبولة بل ومرحب بها من جميع الأطراف المعنية.