نفاق الليبراليّة الغربيّة.. وإبادة الإنسانية في الإنسان

موضة هذه الأيّام أن تنشر كلّ جامعة في أمريكا على صفحتها على الإنترنت تصريحاً تعترف فيه بأن الأرض التي هي عليها كانت موطناً لبعض قبائل أمريكا الأصلية، على أن يُقرأ هذا التصريح علناً عند افتتاح مناسبات رسمية ومؤتمرات علميّة في هذه الجامعات.

الإعتراف بالذنب فضيلة، والإعتذار عنه هو أيضاً فضيلة. لكن عندما يصبح الإعتراف بالذنب أو الإعتذار عنه مدخلاً للتهرّب من الجرائم التاريخيّة (مثل تلك التي تعرّض لها سكّان أمريكا الأصليّين) بدل أن يكون مؤسّساً لسياسة جديدة تهدف إلى عدم تكرار تلك الجرائم في عالمنا الحالي، يصبح الإعتراف والإعتذار نوعاً من الإدعّاء بالفضيلة (virtue signaling)، أي “بالعربي المشبرح”: نفاق.

هناك الكثير من الليبراليّين الغربيين يعتبرون هذه الإعترافات والإعتذارات ضروريّة كخطوة أولى نحو بناء مجتمع أكثر إنسانيّةً. نعم، كل عمل يبدأ بخطوة أولى. لكن ما نعرفه أيضاً عن حضارة الغرب الليبراليّة أنّ الخطوة الأولى دائماً ما تكون الخطوة الأخيرة.

دعونا نسأل: أين هي شرعة حقوق الإنسان حتى نحتكم إليها بمواجهة ما فعلته وتفعله وستفعله إسرائيل في فلسطين؟ أين هو القانون الدولي؟ أين هي مفاهيم عصر التنوير؟ أين هي تلك “الفضائل” التي تُدرّس في المدارس والجامعات ويتبجحّ بها الليبراليّون؟

في أوروبّا، وأنا أتحدّث عن حالة جماعيّة وليس عن أفراد، أي نقد لإسرائيل بات ممنوعاً. أي تظاهرة ضد المذبحة التي تُمارس بحقّ الفلسطينيّين ممنوعة. لماذا هذه الهستيريا الجماعيّة؟ عندما قام النظام النازي بشحن اليهود إلى المحرقة، ألم تلتحم وراءه حالة جماعيّة (في ألمانيا وكامل أوروبا) شجّعته على القضاء على اليهود؟ والآن، عندما ترتكب إسرائيل محارق أفدح مما ارتكبه النازيّون قبلاً، ألا نرى نفس التقبل الجماعي الأوروبّي لجرائم الكيان الصهيوني؟ أيدلُّ هذا على أنّ الألمان والإنكليز والفرنسيّين و.. قد أقرّوا فعلاً بخطأ ما ارتكبوه أمّ أنّ النازيّة كانت وما تزال في صلب وعيهم الجماعي (مع إستثناءات فرديّة)؟ أليست إذاً مبادئ الإنسانيّة والحريّة و.. عبارة عن ورقة توت تستخدمها المجتمعات الليبراليّة الأوروبيّة لتغطّي عورتها بها؟

لماذا تلك الهرولة من أجل الإعتراف بالمحرقة والإعتذار من اليهود بينما من تعتذر لهم ألمانيا وأوروبا يقومون بمحرقة ضدّ أهل فلسطين؟ هل هناك أي تأثير على سياسة تلك الدول في ألا يكون هناك محرقة أو محارق أخرى حول العالم؟ الجواب قطعاً لا.

هذه هي مصيبة الفكر البروتستانتي المُؤسّس لحضارة الغرب الليبراليّة. تُعمينا بعض الجماليات والتسهيلات والكماليات التي نتلذّذ بها عن معرفة ووعي الثمن الذي علينا دفعه من أجلها. فأصبحنا كالعالق في الرمال المتحرّكة، كلّما أدرك ما يجري حوله و”شبّط ولبّط” ليُنقذ نفسه، وجد نفسه غارقاً أكثر فيها

منذ المحرقة، شهدنا محارق كثيرة موّلتها دول أوروبا الليبراليّة وسخّرت الكثير من سكّانها ومصانعها ومصارفها وشركاتها وامكانياتها و.. لإنتاج أسلحة لتدمير دول وتشريد شعوب وتلويث أراضٍ. مهمّا اختلف منبعهم الإيديولوجي، عندما وصولوا إلى السلطة في بلادهم، داسوا مبادئهم الليبراليّة بأرجلهم في كلّ مرّة اصطدموا بها مع بقيّة العالم. وهنا بيت القصيد عندما ننعتهم بالمنافقين.

من دون شك، هناك الكثير من الجرائم التي تُقترف بحقّ البشريّة. وهناك الكثير من الأفكار التي تبيّن مع الوقت أنّها أفكار إجراميّة. النازيّة والفاشيّة والصهيونيّة هي أفكار إجراميّة. والرأسماليّة كما الكثير من التجارب الشيوعيّة أنتجت ويلات ومعاناة كبيرة. وثمة قوميّة سياسيةّ هي أيضاً من جرائم الحداثة، لأنها قسّمتنا (شئنا أم أبينا) إلى دويلات متقاتلة، كما كانت وظيفة الدين، سواء الآن أو في الماضي، حجّةً لدى البعض لقتل الآخرين.

ومن اللعنات التي عرفها العالم هي حركة الإصلا ح الديني المسماة “بروتستانتيّة”. هذه الحركة ظهرت في أوائل القرن السادس عشر مع مارتِن لوثر (Martin Luther 1483-1546) وتميّزت بمعارضة هيمنة وسياسة الكنيسة البابويّة في روما. أشاع مارتن لوثر (والبروتستانتيّة) فكرة أنّ القارئ ليس بحاجة لأي مساعد أو وسيط بينه وبين الكتاب المقدّس. اللعنة التي نتجت عن ذلك أنّ معظم الناس (خصوصاً من يعتقدون أنّهم متعلّمون) أصبحوا مقتنعين بعنجهيّة أنّهم قادرون بأنفسهم على تقرير وفهم الأمور، فأصبحوا “كَمَثَلِ الذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ” (راجع سورة البقرة في القرآن). لا يدرون كم هم ضحايا التضليل والتلاعب والاحتيال الذي يُمارس عليهم. فانتقلنا من حالة الخضوع للجماعة وسلطة الكنيسة إلى حالة الخضوع إلى نوع آخر أساسه جهلنا بالأمور، ما يجعلنا صمٌّ بكمٌ عميٌ لا ندري مّا يُحضّر لنا في الكواليس، ولا نرى من الأشياء إلاّ الظاهر منها. وليس خافياً أن من تُبهره القشور أو يقشعر بدنه لها، من السهل أن نقوده إلى حيث نريد وأن نتلاعب به وبأحاسيسه وأحكامه وردّات فعله. كلّ ذلك وهو مقتنع بيقينيّة قناعته وأفعاله وبأنّه على صواب!

هذا هو الجهل بأمّه وعينه. وهذه هي مصيبة الفكر البروتستانتي المُؤسّس لحضارة الغرب الليبراليّة. تُعمينا بعض الجماليات والتسهيلات والكماليات التي نتلذّذ بها عن معرفة ووعي الثمن الذي علينا دفعه من أجلها. فأصبحنا كالعالق في الرمال المتحرّكة، كلّما أدرك ما يجري حوله و”شبّط ولبّط” ليُنقذ نفسه، وجد نفسه غارقاً أكثر فيها.

إقرأ على موقع 180  بايدن ليس محايداً بين العرب وإسرائيل

نعم، أصبحنا في عالم همّه الإدّعاء بالفضيلة أكثر من الفضيلة نفسها. أصبح تركيزنا على الإعتذار عن أخطاء سابقة بدل العمل الدؤوب على أن لا تتكرّر هذه الأخطاء. ما معنى التعاضد مع “الهنود الحمر” ومع غيرهم ممن أخطأنا معهم وما معنى الإعتذار عن جرائم من الماضي البعيد فيما نُمارس (أو نُغطي) منذ العام 1948 ضدّ الشعب الفلسطيني ممارسات العنصريّة والتطهير والقتل والترويع، أي الممارسات نفسها التي مُورِست ضدّ سكان القارّة الأمريكيّة (من شمالها إلى جنوبها) ولا يمكن لأحد أن يوقف ذلك اليوم؟ ما معنى التعاضد مع من قُتلوا أو أُنقذوا من المحرقة وإدانة مسبّبيها، فيما العالم يُبرّر المحرقة التي تقوم بها إسرائيل وأمريكا ضدّ أهل غزّة؟ ما معنى أن نتغنى بالمبادئ والأخلاق والقوانين إذا قررنا السكوت عمّا يحصل للفلسطينيّن أو رضينا به أو تجاهلناه أو ارتعدنا منه وصرخنا “لا حول لنا ولا قوّة”؟

الكرامة لا تُعطى لأي مجتمع بالإستجداء. بل يصنعها الناس بسواعدهم وعرقهم وقيمهم وعملهم المشترك. والاستجداء لا ينتج عنه إلاّ المذلّة. وللأسف، نحن نعيش في زمن يتطلّب منّا أن نستخفّ بالكرامة الجماعيّة إرضاءً لـ الأنا الفرديّة أو خوفاً على مصالحنا الشخصيّة.

نحن الآن نشهد بأعيننا السقوط المدوي لعصر الليبراليّة الغربيّة، الذي هرعنا إليه ليُنقذنا ممّا اعتقدنا أنّه سبب سباتنا ورجعيّتنا وتخلفنا.

إنّه عصر النفاق الذي يتلطّى وراء الفضائل والمبادئ والأخلاق والإنسانيّة والحقوق والقوانين والأعراف إلخ.. عصرٌ أنتج مقابل كلّ ميزة جميلة من ميزاته آلاف المآسي والويلات، من حروب لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، وتلوث لم يبلغ هكذا مستويات، وتهجير ولجوء وهجرة لم يجابه البشر مثيلاً لهم من قبل، وفحش لا حدود له، وثروات فاقت قدرتنا العقليّة على تصوّرها، ويأس لا علاج منه. إنه عصر يُبيد الإنسانيّة في الإنسان.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  نهاية السنوار.. توقيت وسيناريو لا يُناسبان نتنياهو!