في قطاع غزَّة، ورغم 12 شهراً من العمليات العسكرية التي تسببت، حتى الآن، بسقوط ما لا يقل عن 45 ألف شهيد وتشريد وتجويع نحو مليوني فلسطيني وتدمير شبه كامل للقطاع، ما تزال حركة “حماس”، ومعها باقي فصائل المقاومة الفلسطينية، يقاومون. وهم- برغم الإنهاك – ليسوا بوارد الاستسلام ورفع الراية البيضاء.
وفي لبنان، ما يزال حزب الله يرابط على طول الحدود مع فلسطين المحتلة، ويتصدى مقاتلوه للهجوم البرّي- الذي بدأ قبل أيام – ببطولة وبسالة، وبطريقة مدروسة ومحسوبة جيداً. ويقدّم حزب الله أداءً قتالياً وتظيمياً يؤكد ثباته وتماسكه وصمود، وكأن قيادته لم تُصب بأذى، وكأن مئات- لا بل آلاف الغارات الجوية التي استهدفت مواقعه وكوادره على مدار عام كامل لم تُحدث تغييراً يُذكر، ولم تؤثر على عزيمة المقاومين.
إنها الأيديولوجيا والعقيدة التي يتحلى بها هؤلاء المقاومون الأتقياء بحسب تعبير جاكي خوجي، الكاتب الصحفي في صحيفة “معاريف” الإسرائيلية، الذي يقول في هذا المجال متسائلاً: “هل يسعى الجيش الإسرائيلي إلى تكبيد حزب الله ثمناً باهظاً والعودة إلى بلده، أم إنه يُعِد له مصيراً كمصير حركة حماس؟ فإسرائيل تلمح إلى عمليات محدودة، لكننا تعرضنا لضربة مؤلمة، ومن الصعب رؤية مؤشرات للانكسار في صفوف حزب الله. فقواته البرّية مستعدة وجاهزة لمواجهة توغل برّي للجيش الإسرائيلي. إنهم أشخاص أتقياء. والضربات القاسية التي لحقت بهم لن تمنعهم من مواصلة طريق مهمتهم”.
الإنجاز السراب
بدوره، يرى عوزي برعام، الكاتب في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، أن “الإضرار الكبير بقوة حزب الله العسكرية إنجاز يجب عدم التشكيك فيه. الحزب عدو أيديولوجي، يريد إزالة إسرائيل من الوجود. والسيّد حسن نصر الله نفسه رفع هذا التهديد.. ونحن لم نتمكن من هزيمة الحزب بعد. من هنا فإن نتنياهو (رئيس الوزراء الإسرائيلي) مسموح له التصفيق للإنجازات التي حققها خلال الأيام العشرة الأخيرة. ويحق لمواطني إسرائيل تنفس الصُعداء”.
ويضيف برعام: “لكن من المحظور الوقوع في الوهم والقول إننا في الطريق لهزيمة كل أعدائنا الذين هم من الإسلاميين المتعصبين، فهؤلاء لا يتأثرون بتغيير مؤقت في ميزان القوى. من السهل علينا التصرف كمن يشاهد سراباً في الصحراء يضمن الهدوء والأمان، ولكن كلما اقتربت منه يبتعد عنك”.
أما اللواء المقاعد يتسحاق بريك فيقول في مقال نشرته “يديعوت أحرونوت” إن “مشكلة أغلبية المجتمع والقيادات في إسرائيل أنها تنظر إلى الواقع من ثُقب الباب، ترى الأحداث من نقطة معيّنة وخلال وقت معيّن، بينما الصورة الكاملة غائبة تماماً، وليس لديهم نظرة بعيدة المدى إلى المستقبل”.
على إسرائيل تعلم الدروس من الحرب على غزة وألاّ تتورط في واقع مماثل في لبنان
ويطالب بريك الحكومة الإسرائيلية بأن تتصرف بذكاء لتحقيق أهداف مركزية، وهي:
1- تحرير الرهائن “المخنوقين في الأنفاق”، قبل أن يصبحوا أمواتاً.
2-إعادة المستوطنين النازحين من الشمال والجنوب إلى منازلهم، وترميم الدمار وإعادة دورة الحياة.
3-ترميم اقتصاد إسرائيل الذي يعيش حالة انهيار.
4-ترميم العلاقات الدولية مع العالم.
ويعتبر بريك أنه آن الأوان لأن يعترف نتنياهو والمجموعة المحيطة به بأن شعار القضاء على “حماس” وحزب الله ليست أهدافاً واقعية. وإن التمسك بتحقيق مثل هكذا أهداف تدفعه وتدفع حكومته إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية، وإلى استمرار حرب الاستنزاف التي تضر بإسرائيل كثيراً.
انتهى مفعول الابتهاج
من جهته، يشير دفنا ليئيل، في مقال نشره في موقع القناة “N12″، إلى أن التقديرات حتى الأشهر الأخيرة، وبعد قتال دام نحو عام مع حزب الله “تحت عتبة الحرب”، كانت تشير إلى “أن الحزب قادر على إلحاق أضرار جسيمة بالجبهة الداخلية الإسرائيلية. وعندما كان الحديث يدور بشأن تصعيد على الجبهة الشمالية، كان المقصود تحركاً محدوداً أكثر كثيراً مما نراه الآن. لكن القلق من وقوع خطأ عملياتي غيّر كل شيء؛ إذ أشارت معلومات استخباراتية إلى أن عملية أجهزة الاستدعاء (التي تُنسب إلى إسرائيل بطبيعة الحال) يمكن أن يتم كشفها، وهذا ما دفع إسرائيل، وفقاً لمصادر أجنبية، إلى التدخل في الجبهة الشمالية مبكراً وبقوة هائلة”.
ويلفت ليئيل النظر إلى أن حالة الابتهاج لدى الجمهور الإسرائيلي انتهى مفعولها “برغم أنه سعيد باغتيال نصر الله، والأهم من ذلك، سعيد بتقليص قدرات الحزب الذي لطالما نشر الرعب في إسرائيل.. الجمهور الإسرائيلي في هذه المرحلة لا يشعر بالابتهاج”.
ويرى ميخائيل ميلشتاين في “يديعوت أحرونوت”، بأنه “تستوجب المرحلة الحالية أن تتعلم إسرائيل دروس الحرب في غزة بصورة متعمقة؛ إذ بدأت تلك الحرب أيضاً بوعود بالقضاء على حماس، وبعد عام، ها هي إسرائيل تقف بلا حسم. ومن المهم ألاّ تتورط في واقع مماثل في لبنان، الأمر الذي من شأنه أن يوفر لحزب الله فرصة للتعافي وإثبات قدراته على الرغم من الضربات التي تلقّاها”.
لكن الباحثين عوفر شيلح وغاي حزوت، في دراسة مشتركة لهما نُشرت على موقع “معهد بحوث الأمن القومي”، يخالفان رأي كثيرين، ويرفضان تسوية منقوصة، ويشجعان على الحرب البرّية.
يقول شليح وحزوت: “سكان الشمال لن يعودوا إلى منازلهم في ظل أي بديل لا يعمل على إزالة خطر إطلاق النار بشكل مباشر على المستوطنات، ويوقف التهديدات بالاقتحامات. وإذا لم يكن لديهم ثقة في قدرة الجيش الإسرائيلي على حمايتهم من هذه التهديدات لفترة طويلة، فإن أي تسوية سياسية ستُستقبل بعدم الثقة، الأمر الذي سيكون له مبرر على خلفية تجربة الماضي”.
ويضيف الباحثان “الشرعية الداخلية في أوساط المجتمع الإسرائيلي للعملية البرية في الشمال بعد سنة على حرب استنزاف مرتفعة. مع ذلك فإن القدرة على تكبد خسائر كبيرة محدودة، بعد سنة من الحرب وأكثر من 1500 قتيل. أيضاً القتال بقوة زائدة في لبنان سيُضاف إلى مواصلة القتال في قطاع غزة والحرب المتزايدة ضد الإرهاب في يهودا والسامرة”.
دفن الرأس في الرمال
يشدد ميلشتاين على أن “هناك حاجة إلى ترتيب أولويات المهام. فقد تركت إسرائيل قضية غزة مفتوحة. وفتحت جبهة رئيسية مع لبنان. وفي الوقت نفسه تشعر بالقلق من تدهور الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية. كما أنها تحت تهديد قوى محور المقاومة في اليمن وسوريا والعراق، وربما تجد نفسها قريباً في مواجهة مباشرة أكثر حدَّة مع إيران. وفي معركة تضرب فيها كل الجبهات وتصارع فيها جميع الأطراف، يصبح من الصعب وضع أولويات، ناهيك بصوغ استراتيجيا طويلة المدى، ومن المستحيل توقع دعم دولي مستمر في جميع الصراعات”.
أما بريك، الملقب في إسرائيل بـ”نبي الغضب” بسبب آرائه حول الحرب على غزة بعد عملية “طوفان الأقصى”، فيقول: “إن إحدى أكبر مشاكل شعب إسرائيل هي أنه يغرق في النشوة حين ينجح، ولا يُصغي إلى المشاكل الصعبة المتوقعة أمامنا على الطريق من أجل التعامل معها. وهذا النهج يعني دفن الرأس في الرمال، ويمنح نتنياهو ويوآف غالانت (وزير الدفاع) وهرتسي هليفي (قائد الجيش) الدعم اللازم، وهو السبب وراء اليوم الأسود في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ويمكن أن يكون السبب وراء يوم أكثر سواداً في المستقبل”.