تراكم المجتمعات الحيّة الإنجازات العلمية والثقافية والاقتصادية، لكن يبقى للإنجاز العسكري حضوره وسرديته، خصوصاً في مواجهة عدو خارجي. إنجاز يستولد شعوراً بالعزة والكرامة والعنفوان والعظمة، ويشهد على عمق التضحيات التي قدمتها الشعوب للذود عن تراب وطنها.
يمكن أخذ رواية المنتصر في الحرب العالمية الثانية مثالاً على ذلك، حيث لا تزال تلك الرواية تشكل مادة للسجال بين الدول التي شاركت في قهر النازية، حتى يومنا هذا.
وقد كانت بارزةً في الذكرى الـ 75 للنصر، المحاولات الأميركية والبريطانية لفرض رواية غربية مغايرة للحرب تحاول طمس الدور التاريخي البارز للاتحاد السوفياتي، فالرئيس الأميركي دونالد ترامب، قدّم رواية مناقضة للتاريخ بقوله إن بلاده وبريطانيا حققتا الانتصار على النازية، وهو ما إستدعى رداً روسياً بلسان وزارة الخارجية التي إتهمت البيت الأبيض الأميركي بمحاولة تزوير التاريخ وطمس دور الإتحاد السوفياتي في إنجاز نصر الحرب العالمية الثانية. أضف إلى ذلك محاولات “فايسبوك” بمنع تداول الصورة التاريخية لرفع العلم الشيوعي الأحمر على مبنى الرايخستاغ في برلين.
واللافت للإنتباه أن روسيا تولي أهمية روحية وأخلاقية ليوم النصر على النازية، كونه “العيد الأهم” و”الأغلى” و”الأروع”، و”يبقى موقفنا منه مقدساً”، على حد تعبير فلاديمير بوتين، فمنذ تولي الأخير السلطة قبل 20 عاماً، عمل جاهداً على تعزيز حضور الرواية الروسية للحرب بعد أن استجارت القوى الغربية في نسب النصر إليها وتبخيس تضحيات الشعب الروسي.
لم يقتصر الأمر على عودة العرض العسكري السنوي في المناسبة والذي كان قد غاب إبان “العشرية السوداء”، أي في زمن الرئيس بوريس يلتسين، بل تعداه إلى تعزيز كل الفعاليات المرافقة لحفظ الإرث التاريخي، من مسيرة “الفوج الخالد” التي يشارك فيها الصغار والكبار حاملين صور أجدادهم المشاركين في الحرب العالمية الثانية في كل المدن الروسية وحيث يوجد مواطن روسي في أرجاء المعمورة، إضافة لذلك، فإن الحكومة الروسية تواصل البحث عن جثث الشهداء المجهولي المصير منذ 75 عاماً.
يقودنا هذا المثل للإطلالة على عيد المقاومة والتحرير في لبنان، وهو الحدث الأبرز في تاريخ الكيان اللبناني منذ الإستقلال في العام 1943. لكن طريقة تعامل اللبنانيين، حكومة وشعباً، مع هذا اليوم (25 أيار/مايو) طوال عشرين عاماً مضت، لا يمكن القول عنها سوى أنها مخزية ومخجلة. تكفي مراجعة أرشيف السنوات العشرين الماضية، حتى نكتشف أن البعض يريد جعله فقط يوماً مذهبياً أو عيداً طائفياً بإمتياز، يخص طائفة أو منطقة!
في المدن الروسية، حتى تلك التي لم تتعرض لهجوم نازي في الحرب الوطنية العظمى، قامت نصب تذكارية تخلد أسماء الشهداء إضافة إلى المتاحف الحربية، فضلاً عن التقديمات الخاصة لأهالي الضحايا والأحياء من المشاركين بالحرب.
هذا يوم غيّر سياق التاريخ في عالمنا العربي وأعطى نموذجاً عالمياً يقتدى به عند كل الشعوب قاطبة… والعيب كل العيب أن نختار هذه الأيام تحديداً، لتشريع العفو عن العملاء الذين خانوا وطنهم
في لبنان، للأسف، لم تكتب سير الشهداء بعد، سواء المعروفين منهم أم المجهولين، بدءاً من الشهداء الأوائل الذين شاركوا في ثورة فلسطين 1936 وصولاً إلى كل من إستشهد في مواجهة الإحتلال حتى إنجاز التحرير، مروراً بمئات الشهداء الذين سقطوا في مواجهات فدائية في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، من كل الأطياف السياسية والطائفية والمناطقية في لبنان. السؤال البديهي: هل أقيم نصب تذكاري واحد بمبادرة رسمية في أية مدينة لبنانية؟ هل أقيم متحف حربي رسمي جامع؟
الكل يستشعر أن الحكومات اللبنانية المتعاقبة لا تقوم بالحد الأدنى من أجل تعزيز حضور عيد التحرير في الذاكرة الجمعية للشعب اللبناني على اعتباره عيداً وطنياً يخص الشعب كله وليس فئة منه. هذا الواقع المتمادي قلّل من قيمة العيد وجعله محصوراً بحزب الله، الذي، وللأسف، وبرغم كل ما يقوم به من أنشطة إحتفالية، إلا أنه ساهم في حصره ببيئته (نموذج إحياء العيد في إحتفالات تجري في مناطق نفوذ الحزب، بينما لم نشهد إحتفالاً مركزياً في العاصمة بيروت بعيد التحرير). الأكيد أن حزب الله لا يلام وحده على ذلك، في ظل التقصير الرسمي، بل إن غياب الأحزاب الوطنية التي ساهمت بهذا الإنجاز يجعل الأمر مدعاة للسؤال: هل أن المناسبات الحزبية (ذكرى تأسيس هذا الحزب أو ذاك وميلاد هذا القائد أو ذاك) باتت أهم من هكذا مناسبة وطنية جامعة؟
بعد عشرين عاماً على أول هزيمة فعلية لإسرائيل، لا بد من حفظ العيد في الوعي الجمعي للشعب اللبناني لا بل لكل شعوبنا العربية. علينا أن نبدأ أولاً بالاحتفال به على المستويات الرسمية وتعميمه شعبياً بشكل لا يقتصر على فعاليات حزب الله حصراً. لا بد من تشكيل لجنة مختصة لكتابة هذا التاريخ قبل أن نفقده مع تقادم الأيام. هذا التاريخ مهم لنا ولأجيالنا القادمة حتى نفهم وندرك ونقدر أهمية ما قدمناه من تضحيات أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم. نعم، أقل الواجب إزاء شهدائنا وجرحانا وأسرانا وكل من ضحى أن نقيم الأعراس والأفراح في 25 أيار/مايو. هذا يوم غيّر سياق التاريخ في عالمنا العربي وأعطى نموذجاً عالمياً يقتدى به عند كل الشعوب قاطبة… والعيب كل العيب أن نختار هذه الأيام تحديداً، لتشريع العفو عن العملاء الذين خانوا وطنهم.