“الأرثوذكسية السياسية”.. أحلام موؤودة وزعامة مفقودة

للمرة الأولى تشذ طائفة الروم الأرثوذكس عن سيرتها في لبنان والمنطقة. سبب خروجها عن طورها كان منصب محافظ مدينة بيروت. هو المركز التنفيذي الأبرز والأفعل لهذه الطائفة في الإدارة اللبنانية. لقد وُصفت تاريخياً بـ"طائفة اللاطائفيين". توصيف على قدر كبير من الصواب السياسي. بل فيه الكثير من الحقيقة، لما انتجته من أدوار وعلمانيين ومتنورين كان لهم دور وازن في قضايا لبنان ومتعلقات الأخير بقضايا المنطقة والإقليم.

طائفة الروم الأرثوذكس المشرقية، وعلى مساحة لبنان ودول “سوريا الطبيعية”، بقيت بلا حزب سياسي (اللقاء الأرثوذكسي هو إطار يضم شخصيات نخبوية). لم يصبها ما انساق إليه الموارنة والدروز والسنة والشيعة، فتميّزت بامتناعها عن انشاء حزب خاص بها، ما حال دون جنوحها إلى أية مذهبية سياسية لبنانية على غرار مثيلاتها اللاتي وضعن لبنان دائماً على خط النار.

وإذ خرج من هذه الطائفة ساسة من قماشة الكبار وقادة حركات سياسية ورأي أثّروا في سياق أحداث كبرى، فإن امتناعهم عن تحويل إطارهم الإيماني إلى مذهبية سياسية كان غريباً جداً على السياقات اللبنانية. الأكثر غرابة قدرة هذه الطائفة ونجاحها المستمر ـ عن قصد أو عكسه ـ على التعايش مع جماعات تحكمها هوياتها الضيقة لا هويتها الوطنية في دولها. أبعد من ذلك، فقد كان لها دائماً أصدقاء وحلفاء مقابل صفر عداوات.

الأرجح أن انتشارها وعديد كنائسها وأفرادها في المنطقة منع عنها “داء الأقليات”. غيرها من المذهبيات السياسية اللبنانية اندفعت نحو جنون التحزب بدافع من ضيق الانتشار، أو على نحو أدق بسبب من معازل انشأوها للذات: هكذا حصل مع الشيعة. مع الموارنة. مع الدروز. وحتى مع السنة في لبنان، يوم أدارت الدول العربية ظهرها لهم. لكن السبب الأهم أن الأرثوذكس، أفراداً وجماعات، لم ينخرطوا في الحرب ضد السلطنة العثمانية بعكس غيرهم من المذهبيات السياسية، وكلها تحفظ لهذه السلطنة تاريخاً ناصع السواد.

هذا في الأساس. لكن الاستثناء هو انه حين حطت الارساليات الأجنبية رحالها في لبنان بعد مناوشات الموارنة والدروز في منتصف القرن الثامن عشر، مع تنامي وسائط العنف والتهجير، لم يكن الروم بمنأى عن “لعبة الأمم”. آنذاك أدركت حكومة روسيا القيصرية أن الأرثوذكس، اذا لم يكن لهم وجود في إطار منطقة جغرافية معترف بها، لن يستطيعوا التأثير على قرارات المتصرفية. وقد وُفّق المندوب الروسي م. نوفيكوف في وضع قضاء الكورة كقائمقامية أرثوذكسية في عداد القائمقاميات الثلاث في متصرفية جبل لبنان. كان المشروع قد وقّع بالأحرف الأولى من قبل ممثلي الدول العظمى، ما عدا مندوب فرنسا الذي لم يعترض عليه، بل أبلغ اللجنة تحفظه بذريعة حرص فرنسا على وحدة القسم المسيحي، وأنه في حال إقتطاع أي قسم منه سيضعف الوزن السياسي لحليفة فرنسا (طائفة الموارنة).

أقرّت الكورة ـ بفضل روسيا ـ  قائمقاميةً أرثوذكسيةً، وكان ذاك القرار الإداري الرافعة السياسية لدور الأرثوذكس في الحياة العامة في لبنان. لكن ثمة إشكالية جاءت على شكل سؤال طرحه الباحث وائل خير: من هو المنافس للأرثوذكس ومن هو الحليف السياسي لهم من بين المكوّنات الطائفية ـ الإجتماعية للبنان؟

الأرثوذكس.. ذروة التنوع

عملياً، مال الكثير من الأرثوذكس الى الجواب على هذا السؤال بأن المنافس للأرثوذكس هم الموارنة بالدرجة الأولى وسائر المسيحيين إلحاقاً. أما الحلفاء للأرثوذكس فهم المسلمون. وثمة مدرسة ثانية عززتها التطورات الأخيرة في المنطقة وفي لبنان، تنادي بأن الحلفاء هم سائر المسيحيين الذين يجمع الأرثوذكس بهم وحدة المصير في شرق يضجّ بالأصوليات الإسلامية. وهذا الإنشطار يتضح في مواقف الأرثوذكس، سياسيين وإكليريكيين، عبر تاريخ لبنان الحديث. ومن أهم الوثائق التي تبيّن هذا الشرخ في البنية الأرثوذكسية تقرير بعثة كينغ ـ كراين.

في ما يتعلّق بلبنان، سعت اللجنة للوقوف على خيارات المجموعات الدينية الرئيسية. الموارنة والروم الكاثوليك والروم الأرثوذكس على الجانب المسيحي، والسنّة والدروز و”المتاولة”، حسب تعبير النص، على الجانب الإسلامي. المكوّن الكاثوليكي، ويشمل الموارنة والروم الكاثوليك، إنحاز، بما يقرب من الإجماع، الى إستقلال لبنان، فإن كان لا خيار من سلطة منتدبة، لتكن فرنسا.

أما الروم الأرثوذكس فقد إنقسموا الى فريقين: الأول، بتأثير من البطريرك غريغوريوس حداد الذي كان شديد التقدير للأمير فيصل إبن الحسين. حينذاك، طالبوا بقيام دولة عربية تضم الشام وولاية بيروت، وإن لم يكن من الإنتداب بد، فلتكن السلطة المنتدبة بريطانيا. موقف أرثوذكس لبنان لم يكن موحّدًا. مطران بيروت جراسيموس مسرّة انضم الى موقف البطريرك، فيما بعض وجهاء المدينة أخذوا الخيار الفرنسي، وادّعوا أنهم يمثلون رأي الـ26000 أرثوذكسي في المدينة. أرثوذكس الكورة وقفوا الى جانب سائر المسيحيين، في حين انقسم أرثوذكس طرابلس بين متضامن مع الأكثرية السنيّة في المدينة، وأقلية تفضل لبنان موسّعاً مستقلاً مع إنتداب فرنسي في الفترة التحضيرية للإستقلال.

كثرٌ لا يعرفون أن أول رئيس للجمهورية اللبنانية كان شارل دباس الأرثوذكسي. فهو أول رئيس للبنان بعد وضع الدستور اللبناني موضع التنفيذ

لم تسع “الأرثوذكسية” لأن تكون “أمة”. لكن من داخل الطائفة خرجت شخصيات لها مشاريعها الضخمة والمتناقضة والنهضوية والمتخيلة والعصابية والاعلامية. فيتجاور داخل الطائفية الواحدة، أمة أنطون سعادة السورية القائمة على الجغرافيا. كيانية شارل مالك اللبنانية – المارونية المسيحية. شهابية فؤاد بطرس ومعادلته اللبنانية. أممية جورج حاوي الشيوعية العربية السوفياتية. تاريخية ميشال عفلق العروبية البعثية – الاسلامية. ثورية جورج حبش الفلسطينية. ليبرالية غسان تويني الأميركية. فلسطينية الياس خوري العربية. يسارية سمير قصير “الفتحاوية”. أوليغارشية ميشال المر وقبضنته. ديمقراطية ألبير مخيبر ووطنيته الصافية. حريرية فريد مكاري وهدوئه. عروبة إيلي الفرزلي السورية وزحلاويته الفصيحة. لاهوتية المطران جورج خضر. ماسونية جرجي زيدان.

كثرٌ لا يعرفون أن أول رئيس للجمهورية اللبنانية كان شارل دباس الأرثوذكسي. فهو أول رئيس للبنان بعد وضع الدستور اللبناني موضع التنفيذ. تولى الرئاسة من 1 أيلول/سبتمبر 1926 ولغاية 2 كانون الثاني/يناير 1934 فأقسم اليمين أمام رئيس مجلس الشيوخ الشيخ محمد الجسر بحضور المفوض السامي. وكثر غيرهم أيضاً لا يعرفون أن هناك ثلاثة رؤساء في لبنان غير موارنة، الى جانب شارل دباس، بترو طراد وهو ينحدر من عائلة أرثوذكسية أرستقراطية من بيروت. وأيوب ثابت البروتستانتي البحمدوني نسبة الى بلدة بحمدون الجبلية.

غساسنة وملحدون وقوميون!

والمسيحيّون من الروم الأرثوذكس لم يتلكّأوا: في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، عصف بهم حراك سياسي هاجسه الحدّ من وطأة الثنائيّة المارونيّة – السنّيّة الحاكمة والمهيمنة، والمشاركة في تأثيث البيت اللبنانيّ الجديد. فمهما قيل وكُتب عن علمانية الحزب السوري القومي الإجتماعي، فهو في الواقع، لا ينفصل عن الروم، وهو تأسس في بداية الثلاثينيات، وكذلك جريدة “النهار” التي أطلقها جبران تويني الجد في العام 1933. وفي سنة 1939، أسّس ناصيف مجدلاني “منظّمة الغساسنة” التي أحياها قريبه نسيم مجدلاني، وانضم اليها جبران تويني. وكان الوريث غسان تويني يباهي بأهله الغساسنة اليمنيين لأن “قبيلته” هي الأعرق، من دون أن يسمح للكيانيين من اللبنانيين بأن يذهبوا إلى معاداة العروبة. في العام 1944 أطلق جورج خضر وألبير لحّام “حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة” وخضر كان انتسب إلى الحزب القوميّ وأعجب بأنطون سعادة.

في خمسينيات القرن العشرين، صار للروم في الكورة وجهان أو اكثر. من جهة، تمدد القوميون هناك بعد أسوأ محاكمة قضت باعدام أنطون سعادة. لكن القوميين ركزوا في اخذ الثأر من رياض الصلح، وليس من اي أحد آخر في الدولة اللبنانية. من جهة ثانية، كان وهج ستالين يتمدد، فبرغم أنه “شيوعي ملحد” على النقيض من الكنيسة، لكن تزعمه لروسيا (مركز ثقل الروم) او الاتحاد السوفياتي السابق وانتصاره على النازية جعل له حضوراً في الكنيسة الأرثوذكسية في لبنان. وقد روى القيادي الشيوعي الراحل جورج البطل في مذكراته ان هناك من سعى الى ترويج صورة شارل ديغول في الاشرفية فكان يرفقها بصورة جوزيف ستالين الجورجي السوفياتي الشيوعي، والكنيسة اقامت قداساً بمناسبة رحيله في الاشرفية وفي بلدة رعيت البقاعية، وبدا ان الشيوعية “الكافرة” الآتية من بلاد القياصرة سابقا، قادرة على التمدد داخل الروم. ومن يقرأ في سوسيولوجيا الحزب الشيوعي يعرف ذلك. وكذلك القومي السوري كان الروم ركنه الأساس قبل أن يتمدد أفقياً. منطقة الكورة القومية والشيوعية، هي نفسها المنطقة التي انجبت شارل مالك وزير الخارجية في زمن كميل شمعون وأحد أركان “الجبهة اللبنانية”، لا بل أحد أبرز المنظرين لادبياتها ومشروعها السياسي والفكري تحت عنوان “التعددية واحترام الحرية الكيانية”.

أين الزعامة؟

لكن أين الزعامة الأرثوذكسية من هذا المسار؟ كتب المطران جورج خضر مقالة بعنوان “الروم الأرثوذكس”: “في السياسة الداخلية ليس للأرثوذكسيين موقف واحد لأنهم لا يرضون في عمقهم أنهم طائفة من الطوائف. يعرفون أنفسهم كنيسة. لذلك من المستحيل كيانيا أن يمشوا وراء زعامات أرثوذكسية. لم يكن لهم يوماً زعيم ليس لأنهم منقسمون ولكن لكونهم يحترمون الخيار السياسيّ لكل مؤمن بينهم باعتبار أن هذا الخيار لا يمسّ الحياة الأبدية”.

لقد أظهر صليبي استقلالية أرثوذكسية عن المارونية السياسية في ذلك الزمن، وهذا ما اتاح له رعاية حوارات في دار المطرانية بين معظم الفئات اللبنانية

كان الروم بالمعنى التقليدي، الى جانب الدولة، طوال مرحلة ما بعد الاستقلال، ولم تكن “الأرثوذكسية السياسية” تستند الى زعامة في البدايات بل إلى نوع من التمايز. دار المطرانية في بيروت، كان المدى المكانيّ لرسم السياسة اللبنانية بوجود قامات كبيرة إلى جانب المطران ايلي صليبي من أمثال منير أبو فاضل، غسان تويني، فؤاد بطرس، نسيم مجدلاني، ميشال ساسين، فؤاد غصن، ألبير مخيبر. لقد أظهر صليبي استقلالية أرثوذكسية عن المارونية السياسية في ذلك الزمن، وهذا ما اتاح له ان يرعى مجموعة من الحوارات في دار المطرانية بين معظم الفئات اللبنانية.

معالم “الزعامة” الأرثوذكسية بالمعنى الضيق للكلمة، أو بمعنى “المذهبية السياسية” بدأ بالتبلور والظهور مع الانتخابات النيابية في العام 1992، عندما بدأ ميشال المرّ يستثمر ما راكمه سياسياً خلال فترة الحرب الأهلية والدور الذي لعبه في “الاتفاق الثلاثي”، وتحالفه مع سوريا، فأصبح شريكاً في السلطة بدعم سوري مفتوح. آنذاك، عاش الموارنة احباطهم السياسي بإبعاد قادتهم (ميشال عون وريمون إده وأمين الجميل وسجن سمير جعجع)، بينما كان المر يعيش “فردوسه”. وتعاملت الوصاية السورية مع عائلة المر بوصفها “بدلاً عن الضائع” الماروني، مع ان المر كان يعتبر نفسه “ماروني الهوى”.

سوريا تكافىء وتعاقب

في علاقته مع سوريا، نجح المر في الاستحواذ على أوسع نفوذ ممكن. فهو رجل المال والاعمال والقبضاي الذي أطاح بـ”الرفيق” جورج حاوي الذي قاتل سوريا عند ضهر البيدر يوم دخلت لانقاذ المارونية السياسية، وهو أيضاً الذي قاتل إسرائيل من شوارع بيروت حتى الناقورة يوم احتلت العاصمة اللبنانية. كان حاوي “مشاغباً ومزعجاً”، وجعل الحزب الشيوعي على شاكلته في رفض المطواعية، برغم إستجدائه مقعداً نيابياً بالتعيين في العام 1991، آل في نهاية المطاف إلى القيادي النقابي إلياس الهبر (في قضاء عاليه)، بتواطؤ بين ميشال المر والإدارة السورية للملف اللبناني، فقرر الشيوعيون التضحية بالمقعد إلا إذا آل إلى الأمين العام جورج حاوي، وهذا ما كان صعب المنال.

لقد رمى جورج حاوي اوراقه ومشى في وقت كانت الشيوعية قد انهارت في معقلها. استقال من الامانة العامة للحزب الشيوعي وذهب يبحث عن الأعمال والتجارة وفشل. سأله الرئيس رفيق الحريري آنذاك: “ماذا بعد الاستقالة من القيادة الحزبية يا جورج؟”. اجابه حاوي “سأذهب الى الاعمال”، قال له الحريري “فاتك القطار”. وبقي حاوي زعيماً “محتملاً” مع وقف التنفيذ لما جوبه به من المذهبيات السياسية اللبنانية، وأيضاً لمغامراته “المعاندة” التي خلّفت أكلافاً كثيرة عليه وعلى الشيوعيين. أما ميشال المر، فكان في وزارة الداخلية يتصرف كـ”متصرف جديد”. فقد جعل وزارة الداخلية نوعاً من رئاسة رابعة، اذ جاز التعبير. من خلالها، يتغلغل في الإدارات والبلديات وكل ما يندرج في خانة العلاقات العامة. يتقرّب من الصحافيين على طريقته. وهكذا حافظ المرّ على موقعه المتقدّم في الحكم طيلة عقد كامل من الزمن، إلى أن تقدّم الملياردير العكاري عصام فارس لمنافسته، في زمن الرئيس اللبناني اميل لحود. فحين يحضر المال تصبح الأمور “سهلة” في السياسة. تبتسم الجموع لاإرادياً للدولار ومشتقاته. وكذلك مثلهم رجال الدين والسياسة.

إقرأ على موقع 180  لن تصبح فلسطين "إسرائيل".. والشعوب ستحاسب

في الأثناء، كانت حالة الكوراني المقرب من رفيق الحريري، فريد مكاري تنمو في عرين الأرثوذكس في الكورة. وبالطبع هذا يرتبط بالخدمات والقدرة على جذب الناس. لكن عصام فارس، الذي لم يُمثل أكثر من ثري بلا أي حماسة للسياسة وعقدها، لم يدم مشواره طويلاً. بدا أنه لا يحب الصراع في السياسة. أو أنه يعتقد وعن خطأ بوجوب الزحف إلى دارته لتسليمه راية الأرثوذكس السياسية لا لشيء، إلا لثرائه وقدراته الخدماتية. لكنه سريعاً ما أدار ظهره للبنان بالكامل بعد أن أصيب بالاحباط، خاصة بعد اغتيال الحريري وبدء الحملة على كل من تعاون مع النظام السوري. ولم تنجح كل محاولات إستدراجه للتورط مجدداً في السياسة أو توريط أحد أولاده ولا سيما كبيرهم نجاد، خصوصاً بعدما تيقن أن البعض يتعامل معه بوصفه “شنقولة مصاري”.

بحسب التصنيف الكلاسيكي، ميشال المر هو آخر رجال الأرثوذكسية السياسية المستمرة بين زمنين: الجمهورية الأولى وجمهورية الطائف (الثانية)

ومع خروج الجيش السوري وعودة ميشال عون من النفي وخروج سمير جعجع من السجن، تراجع دور ميشال المرّ وحضوره حتى في معقله التاريخي في المتن. بحسب التصنيف الكلاسيكي، المر هو آخر رجال الأرثوذكسية السياسية المستمرة بين زمنين: الجمهورية الأولى وجمهورية الطائف (الثانية). لقد كان من طراز مختلف كلياً عن الأرثوذكسيين الاوائل، كالاستقلالي حبيب ابي شهلا الذي لم يعرفه، وشارل مالك وفؤاد بطرس، حتى منير أبو فاضل المبدئي حتى العظم. كان المر براغماتياً إلى أقصى درجة. جل غايته الوصول الى السلطة أياً تكن الكلفة والوسيلة، حتى لو بأصوات المجنسين أو القادمين والمستقدمين بحافلات منشتى أنحاء العالم.

قيادتان سياسية وروحية

والحال عندما انقسم لبنان في العام 2005 بعد اغتيال رفيق الحريري بين جبهتي 8 و14 آذار/مارس، تقلص نسبيا حضور كل السياسيين من طائفة الروم الأرثوذكس المقربين من النظام السوري. حينذاك، انفرد فريد مكاري في تصدّر الزعامة الأرثوذكسية. حصل هذا التبدل في وقت خسر الروم بعضاً من أهم الشخصيات السياسية والثقافية ضمن موجة الاغتيالات التي حصلت في لبنان، من جبران تويني الى جورج حاوي وسمير قصير، ولكل واحد من هؤلاء شخصيته دوره، الاول، على رأس جريدة “النهار”؛ الثاني، “دينمو” اليسار اليساري برغم هفواته؛ الثالث، المثقف عاقد الصلات بين بلدان المشرق العربي: سوريا ولبنان وفلسطين.

لم تكن عودة عون في العام 2005، بما رافقها من شعبية عارمة، كفيلة بالإستحواذ فقط في شارع مسيحي واحد، بل مكنته من سرقة دور بعض القيادات الأرثوذكسية، فصار ممثّلاً لهم ويعيّن ممثليهم في الوزارات. هكذا في ذروة الانقسام السياسي، كانت مناصب الروم اشبه بجوائز ترضية: في انتخابات العام 2009 تكرّس “اقتسام” التمثيل الأرثوذكسي بين القوى السياسية. “تيار المستقبل” حصد القسم الأكبر من هذا التمثيل عندما فاز بـ 6 مقاعد من أصل 14 مقعداً للأرثوذكس في مجلس النواب. وتوزّعت المقاعد الثمانية الأخرى على “التيار الوطني الحر”(مقعدان) و”القوات اللبنانية”(مقعدان) والبقية توزعت بين “القومي” و”الإشتراكي”  و”الكتائب” والمستقلين.

في مرحلة ضمور تأثير القيادة السياسية الأرثوذكسية، ملأت القيادة الروحية الأرثوذكسية الفراغ القيادي في مراحل متعدّدة. فالبطريرك الراحل أغناطيوس هزيم لعب دوراً بارزاً في “حماية” موقع الأرثوذكس في التركيبة اللبنانية. وفي ما بعد، وتحديداً خلال مرحلة مرضه، حاول راعي أبرشية بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده ملء الفراغ، لكنه تعرّض لانتقادات بسبب حدّة خطابه السياسي السيادي الذي “لا يشبه الأرثوذكس التقليديين”. وكاد أن يكون الوجه الاخر لكاردينال الموارنة البطريرك صفير.. مع تشابه في نبرة الراحل جبران تويني.

المسكوبي يعود

ومنذ انتخاب البطريرك يوحنا العاشر يازجي خلفاً لهزيم، انكفأ الكرسي الأنطاكي الأرثوذكسي عن لعب “دور سياسي” في لبنان،  على الرغم من محاولات حثيثة بذلها العديد من قيادات الطائفة لتكون البطريركية “مظلّة حماية” سياسية لموقع الأرثوذكس في التركيبة السياسية للنظام اللبناني. غير أن يازجي إنصرف إلى الشأن الكنسي الديني الصرف وأعطى معظم وقته لأبناء طائفته في سوريا، ولم يبخل على الدولة السورية، بدعم موقفها، بل تماهى إلى حد كبير مع قرار التدخل العسكري الروسي في سوريا بدءأً من نهاية أيلول/سبتمبر 2015، وهو التدخل الذي أعاد إلى الأذهان دور روسيا الحامية التقليدية للأقلية الأرثوذكسية في المنطقة منذ زمن المتصرفية حتى يومنا هذا.

وفق تعبير إيلي فرزلي، فإن مشروع القانون الأرثوذكسي “يسحب الصراع من بين الطوائف ويدفنه ويفجره في قلب الطوائف”

هذا الحضور يذكر بدور الكنيسة الأرثوذكسية من خلال جولة قام بها البطريرك المسكوبي أليكسي الأول عام 1960، وشملت لبنان وسوريا، وأسفرت عن قرار بتوسيع وتجديد مستشفى القديس جاورجيوس في بيروت (مستشفى الروم)، وهو الأمر الذي أدى إلى فتح أعين الديبلوماسية الأميركية، في صورة تكررت في السنوات الأخيرة، عندما قررت البطريركية دعم مشاريع البلمند، فرد الأميركيون بواسطة مطرانية بيروت بالطلب من جامعة البلمند إخلاء كلية الطب في بيروت لأن الكنيسة الأرثوذكسية في العاصمة قررت نيل ترخيص كلية طب باسم جامعة القديس جاورجيوس!

بدأت فكرة القانون الأرثوذكسي تختمر في رأس ايلي فرزلي إثر سقوطه في انتخابات العام 2005 في البقاع الغربي. الفكرة تنهض على أن “كل مذهب ينتخب نوابه”. قال حينها في دردشة مع مقربين له في شتورة: “البلد قبائل، وكل قبيلة تنتخب شيوخها”. ازدادت قناعة فرزلي إثر انتخابات العام  2009، وفي المحصلة، كانت الانتخابات عام 2018 اقرب إلى “القانون الأرثوذكسي” من خلال ما سمي الصوت التفضيلي الواحد. “لبنان كناية عن إدارات مذهبية وهو يعيش يومياً تحت سقف إمكانية الصراع الداخلي بين الطوائف، ولأن المسيحيين تحولوا إلى “طبق شهي” تحت عنوان الصراع السني ـ الشيعي للاقتتال عليهم”، وفق تعبير إيلي فرزلي، فإن مشروع القانون الأرثوذكسي “يسحب الصراع من بين الطوائف ويدفنه ويفجره في قلب الطوائف”.

فرزلي يفعلها

قرر فريد مكاري الانكفاء انتخابياً، فاحكمت أحزاب القوات والمردة والعونيين والقوميين السوريون الخناق على مقاعد الكورة. وفي المتن، ضرب المر يده على الطاولة فأعيد انتخابه، برغم محاولات العونيين الحثيثة لالغائه. انتخاب المر كان وفاء لخدماته، وبرز في الميدان الياس أبو صعب العوني (المزيج من القومي والعوني والأميركي)، وهو حل محل غسان مخيبر، نسيب ألبير مخيبر الذي كان يجتهد في مشاريع القوانين والقضايا الحقوقية وكانت له أيضاً مواقفه الوطنية المشرفة الرافضة للإحتلال الإسرائيلي للبنان، فيما ظل مروان أبو فاضل، أمين سر اللقاء الأرثوذكسي، يغرّد خارج كل الأسراب. لم يقبل أن يلغي نفسه لمصلحة التيار الوطني الحر ولا أن يزايد درزياً على طلال إرسلان في الحزب الديموقراطي اللبناني، فيصبح أكثر درزية منه. إختار أن يكون وسطياً، على الطريقة الميقاتية، فما حصد شيئاً من كل المطارح.

على هذه الأنقاض، عاد ايلي فرزلي الى الواجهة في ظل قانون النسبية والصوت التفضيلي المعمول به حالياً. الأصح، عاد إليه منصبه الأحب “دولة نائب رئيس مجلس النواب” بشراكة كاملة مع نبيه بري. النائب البقاعي طبّاخ سياسي من طراز رفيع. معروف ببراغماتيته الرفيعة معطوفة على مرونة قياسية في التكيف السياسي وباداء أدوار وزارية وبرلمانية يزايد في العروبة والطائفية والمسيحية والوطنية والميثاقية وفي الشعر والغناء والزجل. كل هذه العوامل مجتمعة رشحته لتصدر زعامة أرثوذكسية لا تبدو محسومة بالكامل لصالحه حتى الآن، ولكن من حسن حظه أن من ينافسه هنا أو هناك، لا يبدو أنه وافر الحظ طالما أنه إما يأتمر بأوامر “معلمه” ويكاد يحمل محفظته أو أنه يكتفي بجعل أول مقام وزاري سياسي أرثوذكسي عبارة عن سكريتارية إدارية في السراي الكبير.

ترافق ذلك مع اسئلة كثيرة تتراكم في محافل الأرثوذكس، عمن يقرر مسار الامور في الطائفة خصوصاً ان يوحنا العاشر كما اسلافه يتخذ من دمشق مقراً رسمياً له

الكنيستان الإنطاكية والروسية

من دون شك، بيّن السعار الطائفي في لبنان في السنوات الأخيرة، أنه يجبر كل طائفة على العودة إلى قوقعتها. الثنائي الشيعي لا أحد يجرؤ على المس به. جبران باسيل يتصرف وكأن المسيحيين ملكية شخصية. سياسيو السنّة وشيوخها استنفروا على خلفية الوظائف الاولى أو حتى محاولة الاقتراب من فؤاد السنيورة. وكذلك فعل البطريرك الماروني “خوفاً” على الحاكم بأمر الليرة رياض سلامة. بالمحصلة صار الجميع في سلة واحدة. مع الروم حصل في المدة الأخيرة، أكثر من بلبلة في العلن وفي الكواليس، في بلد تحاول الطوائف الكبرى، أو تحاول كل طائفة التمدد على حساب الاخرى. خلاصة كل ما سبق تجلى في مشهدين:

ـ المشهد الاول تمثل في التوتر المبطن بين المطران الياس عودة اللبنانيوي الهوى والخطاب حتى في خضم حقبة الوصاية، والبطريرك يوحنا العاشر اليازجي السوري الهوى والمشرقي الهوية، على خلفية تدخل الأخير في تعيين بعض الموظفين ورجال الدين في الكنيسة. ترافق ذلك مع اسئلة كثيرة تتراكم في محافل الأرثوذكس، عمن يقرر مسار الامور في الطائفة خصوصاً ان يوحنا العاشر كما اسلافه يتخذ من دمشق مقراً رسمياً له. وبرغم أهمية هذه الميزة الروحانية، إلاّ ان أبعادها تتجاوز ذلك إلى حد مطالبة البعض سياسياً بوحدة الكنيستين الإنطاكية والروسية، في معرض تحصين الذات الأرثوذكسية في المشرق العربي.

ـ المشهد الثاني، كان مع حكومة حسان دياب على خلفية محاولة تعيين مستشارته محافظة لبيروت خلفا لزياد شبيب (لاحقاً، تم التوافق على إسم مروان عبود). وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير، بعدما سبق هذه المشكلة حرمان الأرثوذكس من وظيفتين في الفئة الأولى، واحدة أخذها الموارنة وثانية أعطيت للأقليات وتحديداً للسريان.

يعيش الأرثوذكس اللبنانيون صراعاً داخلياً حقيقياً بين إنتمائهم إلى فلاديمير بوتين الشريك الأرثوذكسي في النظام العالمي، وهو لم يعد بعيداً عنهم في الجغرافيا، بل على مسافة عشرات الكيلومترات (قاعدة حميميم)، وبين خضوعهم للمشيئة الأميركية التي لا تهزم، من منظور بعض الرموز الكنسية الأرثوذكسية.. وبين هذا وذاك، يُطل عليهم رئيس حكومة لا يتردد في القول أمام حاملي الرقمين 4 و5 في التركيبة اللبنانية “ليش وين بعد في أرثوذكس بلبنان”؟

صراع ذاتي داخلي، في سياقات وطنية لا تقل تناقضاً، وسياقات إقليمية ودولية أكثر تناقضاً وتعقيداً، وهو ما يستحق الكثير من البحث في انعكاساته على وجدان هذه الجماعة وسلوكها وحضورها وطبيعة تمثيلها في المرحلة المقبلة.

يشي هذا المسار كله بحراك تشهده البيئة الأرثوذكسية، وحتماً سيكون له أثره في الإنتخابات النيابية المقبلة، لكن الأهم من هو العقل السياسي الأرثوذكسي الذي يعطي للأرثوذكسية السياسية معناها، حتى لا تبقى مجرد أحلام موؤودة.. بزعامة مفقودة.

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  منشأة عسكرية صينية في الإمارات.. "تسقط" بالفيتو الأميركي