في وقت ربطت فيه وسائل إعلام عديدة بين المشروع الحكومي السوري لإحلال بدائل للمستوردات وبين قانون العقوبات الأميركية الجديد (قانون قيصر) الذي سيبدأ تطبيقه خلال الأيام القليلة المقبلة، والذي يتوقع أن يؤثر بشكل كبير على الاقتصاد السوري الذي أنهكته الحرب والعقوبات الأميركية والأوروبية الموجود حالياً، ناهيك عن الجدل الذي شهدته الحلبة السورية حول قضية رجل الأعمال رامي مخلوف، يبدو من المبكر الحكم فعلاً على وجود علاقة مباشرة بين الخطة الحكومية وما سبق، خصوصاً أن البرنامج الحكومي السوري مازال في بدايته، وتنتظره مجموعة كبيرة من المعوقات والتشعبات.
الطرح الحكومي السوري الذي جاء تحت عنوان عريض، يهدف أولاً إلى تخفيض فاتورة الاستيراد عن طريق إنشاء ودعم بدائل يمكن صناعتها محلياً، بإشراف حكومي مباشر، اعتبر وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية محمد سامر الخليل أنه سيوفر على سوريا فاتورة استيراد كبيرة تصل إلى نحو 2.5 مليار يورو سنوياً، موضحاً خلال اجتماع حكومي أن البرنامج يضم نحو 80 % من البضائع المستوردة والتي سيتم الاستعاضة عنها بمنتجات محلية.
ويشمل البرنامج في الوقت الحالي 67 مادة رأى وزير الاقتصاد السوري أنه يمكن الاستغناء عن استيرادها مستقبلاً في حال تم تصنيعها محلياً.
وتضم القائمة الأولية للبرنامج منتجات مختلفة من بينها الحليب المجفف والنشاء والخميرة والأسمدة والمعدات الطبية وبعض مواد البناء وغيرها.
وبحسب وزير الاقتصاد السوري فإن لهذا البرنامج أربعة أهداف هي: “تخفيف فاتورة الاستيراد للسلع التي يمكن إنتاجها محلياً، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وبالتالي تحقيق استقلالية القرار الاقتصادي، والهدف الاجتماعي المتمثل بتشغيل اليد العاملة، ورد فعل على الأزمات الاقتصادية”.
ولتنفيذ هذا المشروع، أعلنت الحكومة السورية عن مجموعة من “الحوافز” أبرزها تخفيض الرسوم الجمركية على بعض مدخلات الإنتاج، وإجراءات حمائية من منافسة البضائع والسلع المستورد المماثلة، وإمكانية تشجيع بعض القطاعات بحوافز التصدير مستقبلاً، بالإضافة إلى إمكانية تخصيص مقاسم في المدن الصناعية، وتخفيض أعباء وتكاليف الحصول على التمويل، من خلال برنامج دعم أسعار الفائدة، حيث تتحمل الدولة نسبة سبعة في المئة من سعر الفائدة المحدد على القروض التي سيتم منحها.
غموض وإجراءات منقوصة
الباحث السوري والأكاديمي المقيم في بريطانيا محمد صالح الفتيح، رأى خلال حديثه إلى “180” أن هناك “غموضاً ومشكلات واضحة تحيط بالبرنامج الذي أعلنت عنه الحكومة السورية”، موضحاً أن ” الحكومة السورية لم تشر إلى وجود أية نية لرفع الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة، وهي أولى الخطوات التي يجب فرضها لإظهار الجدية في السعي لإيجاد بدائل محلية للمستوردات ولتشجيع رجال الأعمال على الاستثمار في القطاع الصناعي، وكذلك لتشجيع المستهلك على التخلي التدريجي عن البضائع المستوردة من الخارج”.
واعتبر الفتيح أنه “يوجد غموض حول طيف البضائع الذي سيتم العمل على إيجاد بدائل محلية له خصوصاً أن تصريح الحكومة السورية المقتضب حول هذا الموضوع يتحدث عن أن برامج إحلال بدائل المستوردات سيتم بوساطة القطاع الحكومي”.
وتابع “هنا لا بد من التساؤل عن مدى جاهزية القطاع الحكومي لتوفير طيف واسع من البضائع المنتجة البديلة للبضائع المستوردة، وهو الذي فشل في تحقيق مثل هذا الهدف في ظروف اقتصادية أفضل من الظروف الحالية”.
كذلك، انتقد الفتيح إشارة الحكومة السورية إلى أن هذا المشروع ينتظر تدفق الاستثمارات، واعتبر أنّ هذا الأمر “يثير التساؤلات لكون وزير المالية السوري مأمون حمدان قد قال في شهر أيلول/سبتمبر عام 2019 إن المصارف الحكومية تمتلك مبالغ جاهزة للإقراض تبلغ 2400 مليار ليرة سورية، أي ما يعادل حوالي 1.5 مليار دولار وفق سعر الصرف الحالي”.
وتابع “إن مثل هذا المبلغ أكثر من كافٍ لإطلاق برنامج بدائل للمستوردات”، مضيفاً أن “مشاركة المصارف الحكومية في تمويل عملية إحلال بدائل المستوردات هي أمر ضروري لتشجيع رجال الأعمال من القطاع الخاص على ضخ استثماراتهم في هذا البرنامج. ومن الطبيعي أن يتحفظ القطاع الخاص عن مثل هذه المشاركة إذا ما وجد أن المصارف الحكومية نفسها غير مستعدة للتمويل”.
إضافة إلى ذلك، رأى الفتيح أن الحكومة السورية لم تتطرق إلى مسألة التوسع في الدور الحكومي في الاقتصاد المحلي خصوصاً “مع استمرار الحكومة، بشكل غير مبرر، في اللجوء للقطاع الخاص، كما هي الحال في مسألة توزيع الدعم عبر البطاقة الذكية، أو عبر استيراد بعض المواد الغذائية الأساسية، مثل السكر والأرز والتي تصر الحكومة على منح حقوق استيرادها لعدد محدود من رجال الأعمال بالرغم من أن هذه المستوردات يتم تمويلها من قبل الحكومة بالنقد الأجنبي، ويتم شحنها بحراً إلى الموانئ الحكومية وتوزيعها عبر شبكات النقل الحكومية، وصولاً إلى فروع المؤسسات الغذائية الحكومية”.
ورأى الباحث السوري أن “أية استراتيجية لاستبدال المستوردات لن تكون ذات فائدة حقيقية ما لم تكن مترافقة مع تغييرات واسعة في دور الحكومة في الاقتصاد، وفي طبيعة الاقتصاد عموماً”، مشيراً إلى أن “الأمثلة الفاشلة لبرامج إحلال المستوردات هي أكثر من الأمثلة الناجحة والمسألة لا تتعلق بتوفر التمويل. والنموذج الفنزويلي هو أحدث الأمثلة التي ثبت فشلها بالرغم من توفر موارد بمئات مليارات الدولارات، من عوائد الذهب والنفط”.
مؤسسات الدولة و”بيضة القبان”
بدورها، رأت الباحثة الاقتصادية الدكتور رشا سيروب أن “ما يؤخذ على البرنامج أنه أعطى الأولوية للوزن النسبي للمواد من قائمة المستوردات (الرسمية)”، مشيرة إلى أنه “كان من الأفضل أن يكون تحديد المواد بناءً على الفجوة بين المتاح محلياً من السلع وبين حاجة السوق (الطلب المحلي) في إطار سلسلة متكاملة من الإجراءات والتكتيكات، فلا تكفي إجراءات خفض الرسوم الجمركية ورفع السعر الاسترشادي للمستوردات أو دعم سعر الفائدة أو أية تسهيلات أخرى، في ظل وجود سوق تهريب كبيرة واقتصاد ظل متضخم وسعر صرف غير مستقر وقدرة شرائية منخفضة”.
الدكتورة سيروب وخلال حديثها إلى “180” اعتبرت أن “دور الدولة هو الحاسم في إنجاح البرنامج”، وأوضحت أن “ذلك مرهون بتضافر وتنسيق بين جميع الجهات الحكومية، فالمسؤولية لا تقع فقط على عاتق وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية، بل على مدى استجابة القطاع الخاص للاستثمار في القطاعات والمواد المنوي إحلال استيرادها، ونجاح البرنامج يبدأ من المزايا الاستثمارية مروراً بضبط المنافذ الجمركية وتسعير المنتجات بأسعار تناسب القدرة الشرائية للمستهلك وضمان جودة المنتجات في بيئة تنافسية، وإعادة النظر باتفاقيات التجارة المجحفة بحق المنتج المحلي، وإلا فإن أية مزايا أو دعم أو إعفاء جمركي وضريبي ستضيف خسارة إضافية على خسارات الاقتصاد”.
وعن دور القطاع الخاص، إن وجد، في البرنامج، أشارت الباحثة إلى “إن التعاون بين الدولة وقطاع الأعمال أمر ضروري، لكن يجب أن تسيطر عليه الحكومة بصرامة، فالواقع الراهن أثبت أن القطاع العام كان وما زال – برغم جميع المعوقات والتحديات التي يعاني منها- هو الحامل الرئيسي للاقتصاد، وسنوات الحرب كشفت حقيقة مفادها أنه لا يجب التعويل كثيراً على القطاع الخاص المحلي، فمعظم أنشطته اتجهت نحو القطاعات الريعية من سياحة وعقارات وخدمات وتجارة، لذا اعتقد أن إحياء القطاع العام الصناعي سيكون الذراع التنفيذي لإنجاح خطة بدائل المستوردات”.
وتابعت “في ظل العقوبات الدولية (وتطبيق قانون قيصر على الأبواب) وتذبذب سعر الصرف والتضخم الجامح يعتبر من شبه المستحيل توقع قيام استثمارات لأن عامل عدم اليقين واحتمالية تعرض المشروع لمخاطر تكلفتها (في حال حصلت) تفوق العوائد المتوقعة للمشروع، لذلك فإن القطاع الخاص سيفكر مطولاً قبل اتخاذ قراره بالمغامرة بالدخول في هذه المشروعات”.
وأضافت “إن كانت الحكومة غير قادرة على القيام بتمويل هذه المشروعات، وفي حال إحجام القطاع الخاص عن الدخول بهذه الاستثمارات، يمكن للحكومة أن تلزم من حقق ثروات طائلة خلال الحرب بتنفيذ هذه المشروعات، أو إلزامهم بتمويلها بسندات خزينة غير مستحقة الأجل”، وفق تعبيرها.
وختمت الباحثة السورية حديثها بالإشارة إلى أنه “لا يجب التركيز كثيراً على هدف تخفيض الواردات أو توفير القطع الأجنبي عند رسم السياسات، لأنهما عبارة عن نتيجة حتمية وتحصيل حاصل عندما ينصب التركيز الأساسي على تعزيز الاستثمار ورأس المال البشري، والقيام بذلك يتطلب استراتيجية استثمار محلية، خلفها مجموعة مؤسسات اجتماعية وسياسية تحافظ على استقرار الاقتصاد الكلي”.
تمثل المرحلة المقبلة بالنسبة للاقتصاد السوري تحدياً حقيقياً، فبالإضافة إلى الآثار التراكمية للحرب، تأتي العقوبات الأميركية الجديدة لتضييق الخناق أكثر على سوريا
نظرة على الميزان التجاري السوري
سجّل الميزان التجاري للعام الماضي 2019 خسارة قدرها 4.6 مليارات يورو، حيث بلغت قيم المستوردات نحو 5.2 مليارات يورو، في حين لم تتجاوز الصادرات السورية 523.3 مليون يورو.
وتظهر هذه الأرقام مقارنة مع الميزان التجاري للعام 2018 تحسناً نسبياً في حجم الصادرات وتراجعاً في حجم المستوردات، حيث بلغت الصادرات السورية العام 2018 حوالي 430 مليون يورو، وحجم المستوردات بلغ 6.3 مليار يورو.
ولا يمكن النظر إلى هذه الأرقام على أنها تمثّل مؤشراً على تحسن الاقتصاد السوري مقارنة بالأعوام السابقة، حيث تؤثر عوامل عدّة على فاتورة المستوردات بينها العقوبات المفروضة على سوريا، وحالة الركود في الأسواق السورية، إضافة إلى عوامل أخرى تتعلق بإجازات الاستيراد الممنوحة وغيرها.
كذلك لا تظهر أرقام وزارة الاقتصاد السورية العمليات التجارية التي جرت في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة، سواء المناطق التي تسيطر عليها تركيا والفصائل التي تواليها في الشمال السوري والتي تمثل سوقاً مفتوحة للبضائع التركية، أو المناطق التي تسيطر عليها “قسد” في الشمال الشرقي من سوريا، إضافة إلى البضائع التي تدخل الأسواق السورية أو تخرج منها بطرق غير نظامية عن طريق التهريب.
برغم ذلك، يمكن ملاحظة أثر المنتجات الزراعية في حجم الصادرات السورية، خصوصاً بعد إعادة فتح معبر نصيب الحدودي مع الأردن، والذي يمثل بوابة تصدير البضائع السورية إلى دول الخليج.
وبعيداً عن الأرقام، تمثل المرحلة المقبلة بالنسبة للاقتصاد السوري تحدياً حقيقياً، فمن جهة يعاني الاقتصاد من الآثار التراكمية للحرب المندلعة منذ نحو عشر سنوات، ومن جهة أخرى تبرز العقوبات الأميركية الجديدة التي تسعى إلى تضييق الخناق أكثر على سوريا بشكل غير مسبوق، الأمر الذي يحتاج فعلاً إلى اتخاذ خطوات حقيقية وملموسة على الأرض، سواء توسيع دائرة الدعم للقطاع الزراعي، أو تسريع وتيرة البرنامج الحكومي لإحلال بدائل المستوردات وتلافي المشكلات التي يعاني منها واتخاذ إجراءات جادة وملموسة، إضافة إلى دعم المشاريع المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر التي تشكل اقتصاد ظل كبير مهمل وغير منظم في سوريا.