ما بعد إنتصار بوتين في أوكرانيا.. أو إنكساره!

مرة جديدة تدفع الشعوب ثمن السياسة والصراعات الدولية. وها هو الشعب الأوكراني ينضم إلى قائمة الشعوب التي دفعت أثماناً باهظة من موت ودمار وتشرّد نتيجة مثل هذه الصراعات.

بعد فترة قصيرة من انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي ودخول العالم في نظام أحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ثمة تحذير وجّهه المفكر الاستراتيجي ومستشار الأمن القومي السابق زبغنيو بريجينسكي إلى الغرب في تلك اللحظة. ففي مقالة له نُشرت في خريف العام 1992 في “فورين أفيرز” بعنوان “الحرب الباردة وما بعدها” (The Cold War and its Aftermath)، حذّر بريجينسكي الغرب المُنتصر من أن انتهاء الحرب الباردة بانتصار طرف وهزيمة آخر لن يضمن مرحلة سلسة وهادئة لما بعد هذه الحرب لأن الهزيمة السوفياتية أدخلت المنطقة في فراغ جيوبوليتيكي، وهو ما يتطّلب من الغرب، من أجل تأمين السلام، نظرة جيوبوليتيكية بعيدة المدى تؤمّن إعطاء روسيا “ما بعد الامبراطورية” دوراً أساسياً ضمن نادي الدول الديموقراطية الكبرى في العالم.

لم يأخذ الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، بنصيحة وتحذير بريجينسكي، إذ كانت واشنطن مزهوة بانتصارها الكبير في الحرب الباردة وإسقاطها الاتحاد السوفياتي بعد صراع استمر لأكثر من 40 سنة كان له تأثير بالغ على العالم أجمع وحبس أنفاس الشعوب لسنين طويلة. وعلى الرغم من مساعدة الغرب للاقتصاد الروسي المُنهك والمُنهار بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، إلا أن تركيز الولايات المتحدة لم يكن على إعطاء روسيا الدور والحجم الذي اقترحه بريجينسكي، بل كان نقيض ذلك، وهو بناء نظام سياسي في شرق أوروبا ووسطها يضمن عدم إمكانية عودة السيطرة الروسية على بلدان هذه المنطقة لإعادة بناء الإمبراطورية الروسية واستعادة أمجاد الحقبة السوفياتية، وهذا الأمر تتطّلب دعم بلدان هذه المنطقة، سياسياً وعسكرياً وإقتصادياً، ودعم وتقوية حلف شمال الأطلسي لضمان تقليم أظافر النمر الروسي ومنعه من الإنقضاض على أي من هذه الدول.

هل يُمكن لواشنطن أن تكتفي بعقوبات اقتصادية على روسيا؟ ماذا عن المصالح الأميركية في أوروبا؟ وماذا عن اتهامها بالتخلي عن حلفائها هناك؟ وماذا لو شجع عدم الردّ الأميركي الحازم على تقارّب إضافي بين روسيا والصين بوجه واشنطن؟

وهذا الدور شبيه إلى حد ما (ولكنه أوسع وأشمل) بالدور الذي سبق لواشنطن أن تولته خلال حقبة الحرب الباردة، عندما كانت تدعم الحركات التحررية التي حاولت بعض دول أوروبا الشرقية القيام بها للتخلّص من السيطرة السوفياتية، ومنها المجر وبولندا (1956) وتشيكوسلوفاكيا (1968)، وقد انتهت هذه الحركات بسحقها من قبل النظام السوفياتي.

عندما تبوأ الرئيس فلاديمير بوتين السلطة في روسيا كان (وما يزال) أسير شعور الخيبة والخزي من العار الذي لحق بالإمبراطورية السوفياتية بعد سقوطها عقب نهاية الحرب الباردة، وصمّم منذ بداية حقبته على محو هذه الخيبة واستعادة أمجاد هذه الإمبراطورية. وهكذا بدأ بوتين يعمل على تحقيق هذا الهدف من خلال إعادة بناء القوة العسكرية لروسيا والنهوض باقتصادها. واستعادة هذا الدور تطّلبت بشكل حتمي، من المنظور الروسي، منع دول أوروبا الشرقية – وعلى رأسها أوكرانيا – وتلك التي تشكّلت من الجمهوريات السوفياتية السابقة (بالإضافة إلى دول أخرى تتشارك الحدود مع روسيا أو قريبة جداً إليها، مثل فلنندا والسويد) من الإنضمام للمعسكر الغربي لأن من شأن ذلك، ودائماً من المنظور الروسي، تشكيل خطر على الأمن القومي الروسي، كما أن سيطرة روسيا على هذه البلدان هو نتيجة طبيعية لإعادة توسع الامبراطورية التي تريد أن تولد من جديد.

ولذلك، لم يتردد بوتين في التدخل العسكري دفاعاً عن هذه الأهداف التي حدّدها داخل الفلك الإستراتيجي الذي رسمه لروسيا، فكانت الحرب على جورجيا في العام 2008 ومن ثم اجتياح شبه جزيرة القرم داخل العمق الأوكراني وضمها لروسيا في العام 2014. ولم تكتفِ روسيا بإظهار قوتها في شرق ووسط أوروبا بل وصلت إلى منطقة الشرق الأوسط من خلال تدخلها المباشر في الحرب السورية في العام 2015 الذي أثبت نجاحه ونجح في قلب موازين هذه الحرب، علماً أن خصوم موسكو توقعوا هزيمتها في سوريا ودخولها في مستقنع لن تقوى على الخروج منه.

ما يجري في أوكرانيا اليوم يدخل ضمن هذا الصراع الروسي – الغربي (الأميركي) الذي تم رسمه عقب انتهاء الحرب الباردة. فأوكرانيا تدفع ثمن انضمامها إلى المعسكر الغربي من دون التنبه (أو من دون الاكتراث أو ربما الإفراط بالثقة بالغرب) إلى مخاطر إثارة حفيظة روسيا ودفعها إلى عمل عسكري كبير ضدها، وهو ما لم تتردد به روسيا ليقينها بحتميّة ووجوب تحركّها وردّها على المغامرة الأوكرانية، ولحدس قائدها بوتين بأن الوقت مُناسبٌ للعملية التي قام بها لإداركه أو ترجيحه أن الولايات المتحدة الأميركية ليست بوارد الردّ القاسي على روسيا أو الدخول في صراع عسكري مباشر معها في ظل انشغال واشنطن في مسائل أخرى عديدة لا تقل تعقيداً عن الأزمة الأوكرانية، أهمها الصراع مع الصين.

إقرأ على موقع 180  في أوكرانيا.. نهايةُ نظامٍ دولي وبدايةُ آخر

ما زال من المُبكر معرفة إلى أي مدى سوف تتطّور العملية العسكرية الروسية وكيف ستنتهي وكيف ستكون ردة فعل الغرب التي اقتصرت حتى الآن على فرض بعض العقوبات الاقتصادية على روسيا (والتي يبدو أنها كانت مُستعدة لها). ولكن الأكيد هو أن تحوّلات النظام العالمي سوف تكون مُرتبطة بمآل الصراع الدائر في أوكرانيا، وفي هذا الإطار، يمكن تصوّر سيناريوهين سيحدّدان مسار النظام الجديد:

الأول؛ يتمثّل بانتصار روسي في أوكرانيا سوف يؤدي حتماً إلى تغيير جيوسياسي جذري في أوروبا وعلى صعيد النظام العالمي.

الثاني؛ يتمثّل بشن الغرب حرب استنزاف (أو حرب عصابات) ضد جيش روسيا في أوكرانيا سوف تكون مُكلفة جداً لموسكو وقد تؤدي إلى هزيمتها في هذه الحرب وتحجيمها مجدداً وبالتالي، تبدُّد حلم بوتين بإعادة أمجاد الامبراطورية.

ما هي الاستنتاجات والأسئلة الرئيسية؟

أولاً؛ نعود بدايةً إلى التحذير الذي وجّههه بريجينسكي (الصورة أعلاه) للغرب في العام 1992 والذي لم يؤخذ به. فتعامل الغرب والولايات المتحدة مع روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي كان إلى حد بعيد تعامل غالب مع مغلوب، على غرار التعامل مع فرنسا نابوليون في العام 1815 والمانيا بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، حيث دفعت هذه الدول المهزومة (وشعوبها) ثمن هذه الحروب. إلا أن طريقة التعامل هذه لم تؤتِ بثمارها، بدليل الفارق الزمني القصير بين الحربين العالميتين، حيث سعت المانيا المهزومة في الحرب العالمية الأولى، إلى محو هذه الهزيمة من خلال إطلاق الحرب العالمية الثانية. لذلك، ما كان ينبغي السعي إليه بعد انتهاء الحرب الباردة، بدلاً من مُعاقبة روسيا ومحاولة تطويقها، هو إرساء سلام شبيه بسلام ويستفاليا في العام 1648 الذي أنهى حرب الثلاثين عاماً وحتّم تقديم تنازلات من كلّ الأطراف، على عكس ما جرى بعد انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة وفرض شروطها وأجندتها على روسيا، الخاسرة في الحرب الباردة.

هل نشهد النهاية الرسمية للنظام العالمي الأحادي، أم أن الولايات المتحدة ستتدخل بحزم لمنع سقوطه واستمرار هيمنتها؟ وهل نحن على أعتاب الدخول في نظام عالمي جديد؟ وما هو هذا النظام، هل يكون ثنائياً (أميركياً- روسياً) وماذا عن العملاق الصيني وأين أوروبا؟

ثانياً؛ كيف سيتعامل الغرب وتحديداً الولايات المتحدة مع الحرب الروسية على أوكرانيا؟ لا شك أنه تنتظر الولايات المتحدة مهمة شاقة، لا سيّما أنها انتهجت لنفسها مع الرئيس جو بايدن سياسة خارجية تركّز بشكل أساسي على الخطر الصيني، وهي على هذا الأساس خرجت من أفغانستان ولم تعد مُستعدة لتولي أمن الخليج العربي ولا مُساندة إسرائيل بوجه إيران. ولكن هل يُمكن لواشنطن أن تكتفي بعقوبات اقتصادية على روسيا؟ ماذا عن المصالح الأميركية في أوروبا؟ وماذا عن اتهامها بالتخلي عن حلفائها هناك؟ وماذا لو شجع عدم الردّ الأميركي الحازم على تقارّب إضافي بين روسيا والصين بوجه واشنطن؟ فهل ستقوى حينها الولايات المتحدة على مواجهة روسيا والصين في آن معاً؟

ثالثاً؛ نحن أمام مُفترق جديد في السياسة والعلاقات الدولية. فهل نشهد النهاية الرسمية للنظام العالمي الأحادي، أم أن الولايات المتحدة ستتدخل بحزم لمنع سقوطه واستمرار هيمنتها؟ وهل نحن على أعتاب الدخول في نظام عالمي جديد؟ وما هو هذا النظام، هل يكون ثنائياً (أميركياً- روسياً) وماذا عن العملاق الصيني؟ أين أوروبا من هذا النظام العالمي الجديد؟ هل تستعيد أمجاد الماضي أم تستمر في عجزها ودفعها أثمان الصراعات؟ (فبعد أن دفعت ثمن الربيع العربي وتدفق اللاجئين إليها، يبدو أنها أمام أزمة لاجئين جديدة، تأتيها من أوكرانيا هذه المرة).

رابعاً؛ يُطرح التساؤل مُجدداً عن جدوى وفعالية المنظمات والقوانين والاتفاقيات الدولية في تفادي ومنع الصراعات لا سيما العسكرية منها. فما فائدة هذه المنظمات والقوانين الدولية إذا ما عجزت عن حلّ الخلافات سلمياً وتفادي إراقة دماء الشعوب؟ فهذه المنظمات تقف عاجزة أمام صراع القوى العظمى وتكتفي بالتنديد وبالمساعدات الإنسانية وبالتذكير بالمبادئ الدولية (مثل حقوق الإنسان والحرية والديموقراطية والسيادة إلخ..) التي بقيت على مر السنين مجرد شعارات لا تكترث بها القوى العظمى. فالمطلوب من المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، أن تسعى إلى منع هذه الصراعات بدلاً من الاكتفاء بالشجب والتنديد بعد اندلاع هذه الصراعات، وهو ما يتطّلب بحثاً صريحاً ومُعمقاً في أنظمة هذه المنظمات وآليات عملها.

Print Friendly, PDF & Email
طارق الحسن

باحث لبناني

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  "حرّاس الدين"... هل سيكون "كبش فداء" اتفاق موسكو؟