قانون “قيصر”.. متضررون ومستفيدون
Men ride a motorbike past cars, in line at a gasoline station, waiting to fuel up in Aleppo, Syria April 11, 2019. Picture taken April 11, 2019. REUTERS/Omar Sanadiki

يأتي قانون العقوبات الأميركي الجديد، المعروف باسم "قانون قيصر"، في وقت حساس بالنسبة إلى سوريا، التي تراجعت فيها حدة المعارك، ودخلت ملفات ميدانية عدة فيها ضمن سراديب السياسة.

يترافق تطبيق “قانون قيصر” مع بدء الانتعاش الزراعي في سوريا، سواء بسبب انحسار المعارك وسيطرة الحكومة السورية على مناطق واسعة من البلاد، أو بسبب تحسن الظروف الجوية، التي ساهمت بدورها في زيادة المحاصيل الزراعية بمختلف أنواعها.

كما يأتي تطبيق هذا القانون بعد إبعاد الحرب عن حلب التي كانت تمثل عاصمة الاقتصاد السوري، وبدء التخطيط لما يمكن إنجازه في مراحل إعادة الإعمار المبدئية في المدن والمناطق المتضررة، والتي تعول عليها الحكومة السورية كـ”فرصة” استثمارية ذات عوائد كبيرة يمكن أن تبنى عليها سلسلة من الاستثمارات المتلاحقة التي يمكن أن تمثّل فرصة هامة لدول حليفة لدمشق.

كذلك، يتزامن تطبيق هذا القانون مع التعثر الاقتصادي الذي تعيشه سوريا سواء بسبب الآثار التراكمية للحرب، وحالة الكساد التي تعيشها الأسواق السورية في الوقت الحالي، أو بسبب الأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان والتي تسببت بمجملها في تدهور قيمة الليرة السورية بشكل كبير ومتسارع، الأمر الذي زاد من الهوة الموجودة أصلاً بين مستويات الدخل وتكاليف المعيشة والانفاق، ما ساهم بمجمله في زيادة تعقيد المشهد الاقتصادي السوري بشكل عام.

في أول ردة فعل رسمية سورية حول طريقة التعامل مع هذه العقوبات، أعلن وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية السوري الدكتور محمد سامر الخليل أن دمشق درست آليات التعامل مع العقوبات الواردة في “قانون قيصر”، وآثارها، بهدف التخفيف من حدتها، داعياً إلى “عدم التهويل” في ما يتعلق بآثار هذا القانون على الاقتصاد السوري، والنظر إليه “بواقعية”. وأشار في تصريحات نشرتها صفحة وزارة الاقتصاد السورية إلى أن “سوريا تتمتع بعدد من المقومات للاعتماد على الذات اقتصادياً، وهو ما يتم العمل عليه اليوم، كما في الفترة السابقة بشكل حثيث”، مشدداً في الوقت ذاته على “دور الأصدقاء”، حيث قال ” تشير الوقائع إلى أنّه كلما ازدادت الضغوط، ازداد التعاون الوثيق بين سوريل وأصدقائها، لتجاوز المحن والمصاعب”.

حلفاء وجيران على “الميزان”

يركز قانون العقوبات الأميركي بشكل مباشر على الدول والأشخاص الذين يتعاملون مع الحكومة السورية، الأمر الذي تنتظر واشنطن منه أن ينعكس بشكل مباشر على حليفي دمشق الرئيسيين: روسيا و إيران، سعياً للحد من إمكانية قطف ثمار الانتصارات العسكرية التي تمكنا من تحقيقها في سوريا إثر انتصارات الجيش السوري الذي استعاد مناطق واسعة، خصوصاً بعدما أصرت دمشق على منح أحقية الاستثمارات في ملفات إعادة الإعمار، وفي مجالات اقتصادية واستثمارية مختلفة لحلفائها، حيث استفادت روسيا بشكل كبير من تدخلها في سوريا عبر استثمار مرفأ طرطوس، أو عن طريق المشاريع المختلفة في قطاعات الثروات الطبيعية ( فوسفات، غاز.. وغيرها)، كما استفادت إيران من استثمارات مختلفة آخرها عقد استكشاف البترول وتنميته وإنتاجه في البلوك رقم 12 في منطقة البوكمال، والذي جاء لصالح سداد الدين الائتماني طويل الأجل وفق بيان “لجنة الشؤون الاقتصادية والطاقة” في مجلس الشعب السوري.

وتحتل روسيا وإيران مرتبة متقدمة في قائمة الدول التي تستورد منها سوريا، حيث تحتل روسيا المرتبة الرابعة وفق بيانات وزارة الاقتصاد السورية بحجم مستوردات بلغ نحو 69 مليون يورو، تسبقها كل من الهند، ومصر، والصين التي تتصدر القائمة بأكثر من 700 مليون يورو، في حين تحتل إيران المرتبة السادسة.

ولم تظهر بعد ردة فعل واضحة من هذه الدول حول آليات التعامل مع العقوبات الأميركية الجديدة، برغم إسراع روسيا خلال الأسبوعين الماضيين إلى اتخاذ بعض الإجراءات المبدئية، أبرزها تسليم سوريا طائرات “ميغ 29” محدّثة، والدخول في مفاوضات تسمح لموسكو بالتوسع في مياه المتوسط، إضافة إلى تعيين السفير الروسي في دمشق سيرغي يفيموف مبعوثاً رئاسياً خاصاً إلى سوريا.

وفي وقت اعتبر فيه كثيرون أن القانون الأميركي من شأنه أن يضيق الخناق على الاستثمارات الروسية في سوريا، والحركة التجارية بين البلدين، قلل آخرون من تأثير هذا القانون على روسيا، خصوصاً أن موسكو تعتبر المصدّر الأبرز للسلاح في سوريا، إضافة إلى وجود استثمارات روسية كبيرة ومختلفة في سوريا على الرغم من وجود عقوبات أميركية وأوروبية سابقة، معتبرين أن الأثر الوحيد لهذه العقوبات على روسيا هو مجرد “ورقة ضغط تفاوضية سياسية جديدة” في يد واشنطن خلال محادثاتها مع موسكو.

كذلك، تظهر بيانات وزارة الاقتصاد ارتفاع حجم الصادرات السورية إلى كل من لبنان وعدد من دول الخليج، أبرزها السعودية التي تتصدر قائمة الدول المستوردة من سوريا، وذلك بعد فتح معبر “نصيب” الحدودي إثر سيطرة الجيش السوري على الحدود السورية الأردنية قبل نحو عامين.

وعلى الرغم من عدم عودة نشاط معبر البوكمال – القائم الحدودي بين سوريا والعراق، ارتفع حجم الصادرات السورية إلى العراق خلال العامين الماضيين، عبر الأردن، حيث استورد العراق سلعاً وبضائع بنحو 50 مليون يورو ليأتي ثانياً في قائمة الدول التي تصدر إليها سوريا. ومثّلت المنتجات الزراعة العمود الفقري لقائمة السلع التي تصدرها سوريا، خصوصاً أن هذا النوع من السلع يتمتع بإرث تاريخي.

وبرغم عدم وجود بند في قانون “قيصر” يمنع المنتجات الزراعية السورية من الوصول إلى الأسواق الخليجية ودول الجوار، فإن تأثير هذا القانون قد يكون محتملاً، خصوصاً أنه يمنح الرئيس الأميركي صلاحيات واسعة تسمح له بمعاقبة أي شخص أو كيان أو دولة تربطها بسوريا علاقات اقتصادية جيدة.

روسيا وإيران خبرتا العقوبات الأميركية على مدار عقود طويلة، وخبرتا أيضاً سبل الالتفاف عليها

ويأتي القانون ليزيد الضغوط على إيران التي تعاني من عقوبات هي الأخرى، وتتعرض لضغوط كبيرة في العراق وسوريا، الأمر الذي يزيد بمجمله من تعقيد المشهد، ويفتح الباب أمام دائرة جديدة من العلاقات الاقتصادية خارج نطاق هذا القانون، سواء عبر وسطاء، أو عن طريق إنشاء شركات خاصة تتولى متابعة النشاطات التجارية والاستثمارية في ظل العقوبات دون أن تتأثر شركات أخرى بها، خصوصاً أن روسيا وإيران خبرتا العقوبات الأميركية على مدار عقود طويلة، وخبرتا أيضاً سبل الالتفاف على هذه العقوبات، وإن كانت أخف وطأة من “قانون قيصر”.

إقرأ على موقع 180  السادات لهيكل.. إقرأ أوراق سامي شرف

أبواب خلفية… ومستفيدون

ضمن الظروف الحالية، يمكن اعتبار تركيا من أكثر الدول استفادة من القانون الأميركي، سواء بسبب الآثار السياسية لهذا القانون والتي تعطي أنقرة متنفساً في ظل تعقيدات المشهد الميداني في الشمال السوري الذي يمثّل قنبلة موقوتة في ظل انحشار عدد كبير من المقاتلين والجهاديين في مناطق ضيقة قرب الحدود مع سوريا، أو لأسباب اقتصادية، حيث استفادت تركيا بشكل كبير من الحرب السورية، ووسّعت حضورها في الأسواق العراقية، إذ تشير الإحصاءات الرسمية التركية إلى أن أكثر من 12 ألف شركة تركية تصدر منتجاتها إلى العراق، إضافة إلى المنتجات الزراعية، ليصل حجم الصادرات التركية نحو 9 مليارات دولار العام الماضي، ومن شأن أي نشاط استثماري أو تجاري سوري في العراق أن يزاحم النشاط التركي، خصوصاً أن المنتجات السورية تتمتع في الوقت الحالي بأسعار منافسة جداً في ظل تراجع قيمة الليرة السورية، إضافة إلى مكانتها التاريخية في الأسواق العراقية.

يمكن اعتبار تركيا من أكثر الدول استفادة من القانون الأميركي

كذلك، قد تمثّل تركيا باباً خلفياً لعمليات التهريب التي قد تستفيد منها الفصائل المسلحة كمصادر تمويل إضافية عن طريق تنشيط عمليات التهريب، القائمة أصلاً، في ظل النقص المتوقع في بعض المواد نتيجة للعقوبات، وإحجام بعض الدول عن عمليات التصدير المباشرة إلى سوريا، خصوصاً أن أنقرة استثمرت المناطق الشمالية من سوريا خلال السنوات الماضية، وحولتها إلى سوق لتصريف البضائع الرديئة، حيث رفعت من حجم صادراتها إلى سوريا من 200 مليون دولار العام 2010 إلى نحو 600 مليون دولار العام 2016، معظمها سلع غذائية يتم إدخالها إلى سوريا بطريقة غير رسمية، وفق دراسة نشرها مركز “كارنيغي” للأبحاث العام الماضي حملت عنوان “سوريا والأمن الغذائي في المنطقة”.

وإضافة إلى تركيا، تظهر “الإدارة الذاتية” الكردية (مناطق قسد) التي تسيطر على مناطق حدودية مع العراق كمستفيد محتمل أيضاً من هذه العقوبات، خصوصاً أن العقوبات استثنتها، حيث تسيطر “قسد” بدعم أميركي على أبرز منابع النفط في سوريا، الأمر الذي قد تستثمره أيضاً في ظل نقص الامداد النفطي المتوقع جراء العقوبات الأميركية الجديدة التي ضاعفت من مصاعب توريد المشتقات النفطية.

في هذا السياق، ربط محللون بين تسيير دوريات روسية على طريق M4 الذي يربط المناطق الشرقية والشمالية الشرقية من سوريا بالشمال السوري ويتفرع نحو المناطق الجنوبية والساحلية، وبين “قانون قيصر”، حيث تم اعتبار هذه الخطوة “استباقاً” للقانون الأميركي الجديد، الأمر الذي أشار إليه المحامي والباحث الاقتصادي عمار يوسف خلال حديثه إلى “180”، معتبراً أن فتح الطريق ذو دلالة سياسية واجتماعية أكثر منها اقتصادية في الوقت الحالي. وأشار يوسف في الوقت ذاته إلى إمكانية الاستفادة من هذا الطريق بالتنسيق مع الأكراد لتجاوز العقوبات الأميركية، لكنه لفت إلى أن “هذا الأمر مرهون بالموقف الأميركي”. وتابع “علينا أن ننتظر لنرى مفاعيل هذا القانون وتأثيراته الفعلية”.

ومن شأن قانون العقوبات الأميركية أن يعزز أيضاً دور الشركات الوسيطة، التي تنشط فعلياً في الوقت الحالي بسبب العقوبات الأميركية والأوروبية القائمة، والتي تسببت بارتفاع تكاليف الاستيراد بنسب تراوحت بين 40 و60 في المئة، حيث يمثل “قيصر” فرصة جديدة لهذا النوع من الشركات، سواء تمت عمليات الاستيراد عبر الحدود الرسمية، أو عن طريق عمليات التهريب التي قد يزداد نشاطها في ظل الازمات المتوقعة في بعض السلع والمواد جراء العقوبات الجديدة.

وتأتي هذه الضغوط الاقتصادية الجديدة لتحل بكامل ثقلها على المواطن السوري الذي يمثّل الحلقة الأضعف وسط هذه المعادلة، في ظل التدهور الاقتصادي الكبير الذي حل بسوريا جراء الحرب والعقوبات، حيث قدرت أحدث دراسة نشرها “المركز السوري لبحوث السياسات” حجم الخسائر الاقتصادية في سوريا حتى نهاية العام 2019 بنحو 530 مليار دولار، في زيادة قدرها نحو 130 مليار دولار على التقديرات السابقة حول حجم الخسائر والتي كانت بحدود 400 مليار دولار.

Print Friendly, PDF & Email
علاء حلبي

صحافي سوري

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  نجاح العطّار.. إمرأة الدولة