مصارف لبنان تدفع ثمن توسعها.. العراق نموذجاً

علي نورعلي نور18/06/2020
في بغداد، قرر المصرف المركزي العراقي إتخاذ إجراءات تستهدف توظيفات الكيانات المصرفية العراقية المملوكة من مصارف لبنانيّة. وفي بيروت، تواجه المصارف اللبنانية أسئلة تتعلّق بطريقة التعامل مع هذا النوع من الضغوط، وإمكانيّة تكرار السيناريو العراقي في دول أخرى تملك فيها المصارف اللبنانية إستثمارات وازنة.

باتت قرارات المصرف المركزي العراقي المتتالية تمس جديّاً قدرة المصارف اللبنانيّة على الإستمرار في السوق العراقيّة، هذا ما تؤكّده التطوّرات المتسارعة في ملف الكيانات المصرفيّة العراقيّة المملوكة من مصارف لبنانيّة.

منذ سنوات، تعاني المصارف اللبنانيّة من تعاقب تعاميم المصرف المركزي العراقي، الذي بدأ باكراً بالتعامل بحذر مع وجود المصارف اللبنانيّة في العراق، وإمكانيّة تسبب ذلك بإنتقال جزء من مشاكل القطاع المالي اللبناني إلى العراق من بوابة ترابط ميزانيات المصارف اللبنانيّة مع ميزانيّات كياناتها المملوكة في العراق.

توحي معطيات هذا الملف أن ما يجري في العراق لا يمكن فصله عن أزمة المصارف الداخليّة في لبنان، سواء من ناحية الأسباب التي بدأت بتحريك هذه المشاكل بوجه المصارف، أو من ناحية التبعات التي ستؤثّر على وضعيّة المصارف وأوراق قوّتها في ظل الإنهيار الإقتصادي الذي يشهده لبنان حالياً.

قرارات نيسان/أبريل 2019

منذ عام 2007، بدأت المصارف اللبنانيّة بالتوجّه نحو السوق العراقية تدريجيّاً في ضوء قرار القطاع المصرفي العراقي بفتح أبوابه أمام المصارف الأجنبيّة. خلال هذه السنوات الـ13، إرتفع عدد المصارف العراقية المملوكة من مصارف لبنانيّة في السوق العراقيّة إلى نحو 10 مصارف. وطوال هذه الفترة، تمكّنت المصارف اللبنانيّة من الإستفادة من وجودها في العراق، من خلال توظيف جزء من سيولة مصارفها المملوكة في العراق في المصارف الأم في لبنان، سواء على شكل حسابات دائنة تُستعمل كحسابات مراسلة، أو ضمانات نقديّة مقدّمة لقاء الإعتمادات التي تفتحها المصارف المملوكة منها في العراق لزبائنها.

وكما هو حال علاقة المصارف الأم مع فروعها دائماً، حصل تلقائيّاً تداخل كبير بين ميزانيّات المصارف اللبنانيّة وفروعها (العراقية)، ولو أنّ المصارف العاملة في العراق كانت تملك دائماً كيانها الخاص وميزانيّاتها وحساباتها المستقلّة. هذه الحقيقة أقلقت المصرف المركزي العراقي مؤخّراً، وخصوصاً لجهة إمكانيّة تأثّر كيانات مصرفيّة عاملة في السوق العراقيّة بأزمة القطاع المصرفي اللبناني، نتيجة التداخل بين ميزانيّات المصارف في العراق ولبنان. ولذلك، كان من الواضح أن تعاميم المصرف المركزي العراقي منذ شهر نيسان/أبريل من العام 2019 توجّهت إلى معالجة هذه الثغرة تحديداً، من خلال الطلب من جميع المصارف العاملة في العراق تخفيض أرصدتها في الخارج لتوازي نسبة 30% من ودائعها بالعملة الأجنبيّة، أو 20% من رأسمالها وإحتياطاتها.

أصبح من غير الممكن أن تحتفظ الكيانات المصرفيّة العاملة في العراق، والمملوكة من مصارف لبنان، بأي أرصدة في المصارف الأم، كون تصنيف المصارف اللبنانيّة يقل عن مستوى B المحدد في التعميم

بإختصار، كان على المصارف اللبنانيّة العاملة في العراق تخفيض توظيفاتها في المصارف الأم (في لبنان)، في خطوة هدف من خلالها المصرف المركزي العراقي منذ ذلك الوقت إلى خفض ترابط مخاطر المصارف العاملة في العراق مع مخاطر الأزمة التي بدأت بالظهور تدريجيّاً في لبنان.

في ذلك الوقت، إمتثلت المصارف اللبنانيّة لطلب المصرف المركزي العراقي، برغم أن الطلب إنطوى على خسارة موجعة بالنسبة إليها من ناحيتين. من الناحية الأولى، كان على المصارف اللبنانيّة أن تتخلّى عن مستويات مرتفعة من السيولة التي وظّفتها فروعها العراقيّة في المصارف الأم، وهو ما مثّل ضربة مؤلمة للمصارف اللبنانيّة الأم في الوقت الذي كان يعاني فيه القطاع المصرفي اللبناني من ضغوط ماليّة شديدة. ومن ناحية أخرى، مثّلت العمليّة برمّتها ضربة موجعة لربحيّة الفروع العراقيّة للمصارف اللبنانيّة، خصوصاً كون التوظيفات في لبنان كانت تعود بنسبة فوائد تفوق تلك التي كانت الفروع العراقيّة تستفيد منها في السوق العراقيّة المحليّة.

محاولة فصل الميزانيّات

مؤخّراً، قرر المصرف المركزي العراقي تضييق الخناق أكثر، ربما في مسعى منه لفصل ميزانيّات المصارف العاملة في العراق كليّاً عن المصارف اللبنانيّة. فالتعميم الأخير للمصرف المركزي العراقي طلب من المصارف العاملة في العراق نقل نسبة ال30% من قيمة الودائع، والتي سمح لها بتوظيفها خارج العراق، إلى مصارف مراسلة تملك تصنيف B وما فوق، أو نقلها إلى داخل العراق. بإختصار، أصبح من غير الممكن أن تحتفظ الكيانات المصرفيّة العاملة في العراق، والمملوكة من مصارف لبنان، بأي أرصدة في المصارف الأم، كون تصنيف المصارف اللبنانيّة يقل عن مستوى B المحدد في التعميم.

لاحقاً، تبين أن المصارف اللبنانيّة لا تملك القدرة على تنفيذ بنود هذا التعميم، فحجم الأرصدة المطلوب سحبها من النظام المصرفي اللبناني بات مرتفعاً قياساً بقدرة المصارف اللبنانيّة على توفير السيولة في ظل ظروفها الحاليّة. عمليّاً، ستؤدّي العمليّة إلى تدهور كبير في ربحيّة الكيانات المصرفيّة العراقيّة المملوكة من مصارف لبنانيّة، بالنظر إلى الفارق الكبير بين الفوائد التي كانت تجنيها من توظيفاتها في لبنان من جهة، والفوائد التي ستنتج عن التوظيف في مصارف مراسلة أخرى أو في العراق نفسه، من جهة أخرى.

إقرأ على موقع 180  إسرئيل "دولة قدوة" في "الأبارتايد".. لقاحات كورونا نموذجاً

خيارات مؤلمة

لكل هذه الأسباب، باتت المصارف اللبنانيّة مضطرّة إلى مراجعة خيارتها بالنسبة إلى إستثماراتها في السوق العراقيّة، وبرز حديثٌ جدّيٌ عن توجّه عدّة مصارف لبنانيّة إلى الإنسحاب من السوق العراقية بشكل كلّي عبر بيع الكيانات المصرفيّة المملوكة منها هناك. عمليّاً، يمكن أن يؤدّي بيع هذه الكيانات إلى توفير سيولة شديدة الأهميّة بالنسبة إلى المصارف اللبنانيّة في هذه الظروف، كما سيمكّن هذا الخيار المصارف اللبنانيّة من التخلّص من الضغوط التي يفرضها المصرف المركزي العراقي على المصارف اللبنانيّة بتعاميمه المتعاقبة منذ حوالي السنة تقريباً.

لكن وبمعزل عن مصير الإستثمارات المصرفيّة اللبنانيّة في العراق، ستبقى إشكاليّة إلتزامات المصارف اللبنانيّة لكياناتها المملوكة في العراق أزمة عالقة بين المصرف المركزي العراقي والمصارف اللبنانيّة، خصوصاً أن بيع الكيانات المصرفيّة اللبنانية العاملة في العراق لا يعني شطب هذه الإلتزامات أو التخلّص منها. مع العلم أن المصرف المركزي العراقي يبدو مصرّاً على المضي في هذه المعركة حتّى النهاية، وهو ما عبّرت عنه رسالته الموجهة إلى حاكم المصرف المركزي اللبناني وأصرّ فيها على معالجة هذه الإشكاليّة، من خلال إستعادة هذه السيولة التي جرى توظيفها في المصارف اللبنانيّة. وتردد أن هذه النقطة تحديداً أثارها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي مع المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم خلال الزيارة التي قام بها الأخير إلى بغداد مؤخراً.

السؤال التي يقلق المصارف اللبنانية بات يرتبط بإمكانيّة تكرار السيناريو العراقي في دول أخرى تملك فيها المصارف اللبنانيّة إستثمارات مشابهة، كتركيا ومصر والعديد من الدول الأوروبيّة والخليجيّة

هل هناك خيارات بديلة؟

تؤكد مصادر مصرفيّة لبنانية على وجود خيارات بديلة لدى المصارف اللبنانيّة، من قبيل بيع كياناتها المصرفيّة العاملة في العراق والتفاهم مع مصرف لبنان على إستعمال جزء من مردود عمليّات البيع هذه لسداد إلتزاماتها لصالح هذه الكيانات. عمليّاً، يعني هذا الحل تخلّص المصارف اللبنانيّة من إلتزاماتها الإشكاليّة مع الكيانات العراقيّة، لكنّها ستكون قد فرّطت في المقابل بموجودات إستثماريّة بالعملة الصعبة، وهو ما يدفع المصارف اللبنانية حاليّاً إلى التردد إزاء هذا النوع من الخيارات في ضوء حاجتها الكبيرة إلى الدولارات الطازجة من الخارج. مع العلم أن التفاوض الجدّي مع السلطات النقديّة العراقيّة قد يفضي إلى حلول وسط، من قبيل سداد جزء من هذه الإلتزامات بعد بيع إستثمارات المصارف اللبنانيّة في العراق، على أن يتم جدولة الجزء المتبقي من هذه الإلتزامات وفقاً لترتيبات خاصّة مع المصرف المركزي العراقي.

مخاوف من تكرار السيناريو

متاعب المصارف اللبنانيّة في العراق ليس جديدة، فمنذ سنوات والمصارف اللبنانيّة تعبّر بشكل واضح عن إمتعاضها من كثير من قرارات المصرف المركزي العراقي التي فرضت عليها توظيفات عديدة في صناديق إستثماريّة ومؤسسات مختلفة بشكل إلزامي وغير قابل للتفاوض. ولذلك، من الواضح أن الملف يتجه إلى الحسم من خلال تصفية المصارف اللبنانيّة لوجودها الإستثماري في العراق، مع إبقاء الباب مفتوحاً أمام حلول بديلة لأزمة ترابط الميزانيّات بين المصارف الأم وكياناتها العراقيّة.

لكنّ السؤال التي يقلق المصارف اللبنانية بات يرتبط بإمكانيّة تكرار السيناريو العراقي في دول أخرى تملك فيها المصارف اللبنانيّة إستثمارات مشابهة، كتركيا ومصر والعديد من الدول الأوروبيّة والخليجيّة.

حتّى الآن، لا مؤشّرات تدل على إتجاه المصارف المركزيّة في هذه البلدان إلى إتخاذ قرارات مشابهة، لكنّ التدهور الأخير في التصنيف الإئتماني للمصارف الأم، وإثارة المصرف المركزي العراقي لموضوع ترابط الميزانيّات وتسليطه الضوء عليه، كلّها عوامل تدفع للحذر من إمكانيّة فتح المصارف المركزيّة الأجنبيّة لهذا الملف على مصراعيه، وهو ما قد يؤدّي إلى إتخاذ خطوات مشابهة لخطوة المصرف المركزي العراقي.

الجدير ذكره أن بعض فروع المصارف اللبنانيّة في الكثير من الدول الأجنبيّة الأخرى، كتركيا ومصر، تفوق بحجمها فروعها العراقيّة، وهو ما يدفع إلى الخشية من تبعات هذا النوع من التطوّرات.

في الخلاصة، بات على المصارف اللبنانية اليوم أن تدفع ضريبة توسّع أنشطتها في الخارج، والتي لطالما تم تسويقها كأحد عناصر قوّة النظام المصرفي اللبناني. كما بات على المصارف أن تدفع أيضاً ضريبة إستعمال جزء كبير من السيولة التي كانت تحصل عليها فروعها الأجنبيّة من خلال توظيفها وبأحجام كبيرة في المصارف الأم في لبنان، للإستفادة من العوائد المرتفعة التي كانت تحققها توظيفاتها اللبنانيّة. أمّا الخشية الفعليّة، اليوم، فتكمن في إمكانيّة تأثير هذه التطوّرات على الوضع المالي الداخلي في لبنان، وتحديداً من خلال تسببها بالمزيد من الهشاشة والفجوات في ميزانيّات المصارف اللبنانيّة، وهو ما سيتحمّل نتيجته حكماً جمهور المودعين في لبنان.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  كتاب"أيام مع الخميني": رصاصة تنطلق في القرن الـ14 وتصيب القرن الـ20