“السي طيب” بوضياف.. حفاوة الاغتيال التلفزيوني  
ARRIVAL OF THE PRESIDENT OF NEW HIGH STATE COMMITTEE (Photo by Pascal Parrot/Sygma/Sygma via Getty Images)

يوم الإثنين في 29 حزيران/يونيو 1992، لقي الرئيس الجزائري محمد بوضياف مصرعه. هي ذكرى إغتياله الثامنة والعشرين. قبل خمسة أيام، مرت أيضاً ذكرى ميلاده الواحدة بعد المئة، إذ هو من مواليد الاثنين 23 حزيران/يونيو 1919.

كأنها البارحة فقط، لا زلت أتذكر ذلك اليوم الرهيب بتفاصيله المحزنة. كنت في شارع فرحات حشاد في الدار البيضاء، حين تقاطع معي على رصيف الشارع زميل مصور فوتوغرافي (مصطفى بلواهلية)، وهو يولول كالمجذوب، بل كان حقاً مكلوماً. استوقفته أسأله، فلم يأبه واستمر في طريقه وولولته المثيرة: “لقد قتلوه.. قتلوه.. قتله أولاد الحرام.. غدره أولاد العاهرات…”. مشيت وراء المصور أستفسره. وبصعوبة بالغة أنقذني، حين أكدت عليه وانتبه فنطق باسم المغدور، قبل أن يمضي في طريقه مستكملا ولولته المجنونة، كأن واحداً من ذويه الأقرباء هلك. وكان القتيل هو الرئيس الجزائري محمد بوضياف.

أرخى الحدث الدامي بظلاله الحزينة المثقلة بالألم فوق سماء المغرب كما في الجزائر، وخاصة في مدينة القنيطرة (شمال العاصمة الرباط). فإن كان المغاربة تفرقت مشاعرهم حول وفاة الرئيس السابق الهواري بومدين، فقد اجتمعوا على بكاء ورثاء خلفه محمد بوضياف، الذي كانوا يعدونه واحدا منهم، هو الذي لجأ إلى المغرب وعاش بين ظهرانيهم حوالي ثلاثة عقود، فأحبه جيرانه القنيطريون، وأعجب بوفائه وبنزاهته ولطفه كل من تعامل معه كصاحب معمل لآجور البناء. مناضل وسياسي جزائري اختار المنفى بعيدا عن الوطن، متجنباً الخوض في عنف الصراعات الداخلية التي اندلعت بين رفاق الأمس، حكام الاستقلال.

***

في آخر سنة 1991، كنت أتابع في المركب الثقافي المعاريف في الدار البيضاء (مركب محمد زفزاف اليوم)، للقيام بالتغطية الصحافية لوقائع المؤتمر الوطني الثاني للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، عندما تم منح الكلمة لضيوف المؤتمر، وكان من بينهم جزائريان، الأول هو المحامي يوسف فتح الله، وكان من مؤسسي الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان ورئيسا لها. والثاني كان أيضا محاميا، واسمه الحسين زهوان، لم أكن أعرفه قبلها أو سمعت باسمه، برغم أنه كان من المعروفين في الساحة الجزائرية والدولية كشخصية يسارية متشددة، وسبق له أن كان عضوا في الحكومة الجزائرية المؤقتة. وقد وصل ضيفا على مؤتمر المنظمة المغربية بصفته قياديا في الجمعية الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان التي كان المحامي يحيى عبد النور رئيسا لها (قبل أن يتولى رئاستها حسين زهوان سنة 2007). لكن قوة كلمات زهوان وأسلوبه الارتجالي الثوري باللهجة الجزائرية المميزة، حاز على إعجابي ودفعني لأفتش عنه في اليوم الموالي لأجالسه من أجل إجراء حديث صحافي. التقيت به في فندق “الموحدين” في شارع الحسن الداخل. وكانت فرصة أيضا حاورت فيها المحامي يوسف فتح الله، هذا الأخير كان مطلعا وملما بتفاصيل المشهد السياسي المغربي، وفاجأني بمعرفته الدقيقة لأبرز القادة والمناضلين اليساريين بالأسماء والصفات.

بعد نهاية اللقاء الذي تم في غرفة حسين زهوان، نزلنا إلى صالون الفندق، وصادفنا الاتحادي العائد من الاغتراب محمد آيت قدور، فقدمته إلى الضيف الجزائري. خلالها، سألني زهوان عن موقع مدينة القنيطرة وكم تبعد عن الدار البيضاء. ثم طلب مني أن أصحبه إلى القنيطرة ليلتقي بواحد من أصدقائه الجزائريين المقيمين في المغرب. ولم يكن صديقه الجزائري غير محمد بوضياف، أحد آباء الثورة الجزائرية.

كان المناضل اليساري حسين زهوان، المعتقل السياسي السابق في عهد الرئيس الهواري بومدين، محملا برسالة شفوية خاصة إلى الرجل الذي يقيم بفيلا صغيرة بزنقة الإمام علي في القنيطرة.

 أثناء هذه الفترة، عرفت القنيطرة تباعا وصول عدد من الموفدين من الجزائر، متنكرين بأسماء مستعارة وبجوازات سفر مزورة، من بينهم جنرال لمقابلة نفس الشخص. وكان الموضوع هو التأكيد على عودته إلى الجزائر لإنقاذها. لكن بوضياف ظل متشبثاً برأيه في عدم جدية العسكر ونيتهم في وضع البلاد على سكة المسار الديموقراطي الصحيح. وبعدما تفاقمت الأوضاع السياسية بشكل خطير، عاد وزير الدفاع الجنرال خالد نزار للاتصال عبر قنوات خاصة بمحمد بوضياف، طالبا منه بإلحاح العودة في أقرب وقت، ووصل به الأمر أن عرض عليه العودة لمدة يوم فقط ليرى بأم عينه، “فمن رأى ليس كمن سمع”، وبعدها يقرر بوضياف ما يريد. وسيرسل الجنرال إلى بوضياف من أجل إقناعه والتأثير عليه أحد أصدقائه القدامى، وهو مناضل سابق في صفوف جبهة التحرير هو المحامي علي هارون. قال هارون لبوضياف إنك الوحيد المعول عليه لإنقاذ الجزائر اليوم من النفق المظلم الذي تختنق داخله، وأن الحرب الأهلية بالباب إن لم تعد.

لقد بادرت اللجنة الاستشارية، التي كانت تضم رئيس الحكومة سيدي أحمد غزالي، ووزير الخارجية الأخضر الابراهيمي، ووزير الداخلية الجنرال العربي بلخير، ووزير الدفاع الجنرال خالد نزار، إلى تشكيل رئاسة جماعية للدولة تحت مسمى “المجلس الأعلى للدولة”، وتكون من خمسة أعضاء: محمد بوضياف رئيسا وخالد نزار وعلي كافي وعلي هارون والتيجاني هدّام أعضاء. بالرغم من كون اللجنة مجرد هيئة استشارية دستوريا، كما يدل على ذلك اسمها. وجاء الاستنجاد بمحمد بوضياف كبديل يمثل الشرعية التاريخية، في مواجهة الشرعية الانتخابية التي أسقطها الجيش بعد فوز الحركة الاسلامية في الاستحقاقات البرلمانية.

 لما أخبر بوضياف زوجته فتيحة وأولاده، حاولوا ثنيه عن قبول الدعوة. لكنه سيقرر المغامرة من أجل الجزائر واستقرارها.

***

محمد بوضياف المعارض الجزائري كان يتجول بحرية في شوارع مدينة القنيطرة “كأيها الناس”، يجلس في مقاهيها ليرتشف القهوة ويقرأ جرائد اليوم، مثل مقهى “تاغازوت”، أو رصيف مقهى “لوفيلاج” المملوكة ليهودي مغربي. “السي الطيب” (إسمه الحركي إبان الثورة الجزائرية)، وهو اللقب الذي اشتهر به بين القنيطريين في القنيطرة، عاش حياته بشكل طبيعي وآمنٍ، من دون احتياطات أمنية أو حراس.  لقد أصر محمد بوضياف أن يبتعد عن حياة الأضواء، واحتفظ بصلة صداقة مع قلة من السياسيين المغاربة من زمن الكفاح من أجل استقلال الأقطار المغاربية، علما أن بوضياف ظل محط رعاية العاهل المغربي الحسن الثاني، لكنه رفض تلقي هدايا أو راتباً من الدولة المغربية. شكر المبادرة السامية باحترام، وقال إن عمله يكفيه للعيش الكريم والمحترم مع أسرته.

بعد وفاة الرئيس الهواري بومدين (كانون الأول/ديسمبر 1978) أخذ بوضياف يبتعد عن العمل السياسي، وقام بحل الحزب المعارض الذي أسّسه في فرنسا عام 1964 تحت اسم “حزب الثورة الاشتراكية”، ليتفرغ لعمله كصاحب وحدة صناعية مختصة في صناعة آجور البناء، اشتراها من صديق اسباني. وكان المصنع يقع بطريق جماعة المناصرة في إقليم القنيطرة.

لم تمر أيام على لقاء بوضياف مع الوزير علي هارون عضو المجلس الأعلى للدولة، في مستهل كانون الثاني/يناير 1992، حتى حزم بوضياف حقيبة صغيرة، وما هي إلا ساعات قليلة، حتى كان يمشي بقامته المديدة فوق البساط الأحمر في مطار “الدار البيضاء” في العاصمة الجزائرية، على أنغام موسيقى مارش عسكري، ومراسم بروتوكولية، مستقبلا من قبل قيادات الجيش ومن الشخصيات السامية التي تمسك بالجزائر، وقد هبّت للاستغاثة بالمنقذ، مستنجدة بأحد الوجوه التاريخية لثورة بلد المليون ونصف شهيد. هكذا سيتم تنصيب محمد بوضياف رئيسا للمجلس الأعلى للدولة الجزائرية في نفس يوم وصوله للعاصمة الجزائر، المصادف يوم الأربعاء 15 كانون الثاني/يناير 1992.

عن قبوله بالعودة، صرح بوضياف للصحافي المغربي الكبير محمد باهي، وكانت تجمعهما صداقة قديمة، يوم السبت 22 شباط/فبراير 1992، لما استقبله في القصر الرئاسي في المرادية: “إن الاتصالات معي لإقناعي بالرجوع إلى الجزائر، لم تنقطع منذ سنوات، وقد تكثفت هذه المحاولات، بعد أحداث الأسبوع الأول من شهر تشرين الأول/أكتوبر 1988، وكانت من أوساط وجماعات وفئات مختلفة، وهي ذات طابع إعلامي وسياسي وشخصي، وكانت تتم بمناسبة ومن دون مناسبة. لقد زارني الصحافي محمد عباس، عندما كان محرراً بجريدة الشعب، وأجرى معي حديثاً نشره في الزاوية التي كان يشرف عليها تحت عنوان “منبر التاريخ”، ثم زارني صحافي من التلفزة وأجرى معي مقابلة حول ثورة أول نوفمبر، وأحضرت للمشاركة في تلك الحصة صديقي الدكتور عبد الكريم الخطيب ليتحدث عن دور المغرب والمقاومة الوطنية المغربية في تحقيق استقلال الجزائر…”.

عاد بوضياف ليعانق من جديد سماء الوطن، الذي اضطر لمغادرته قسرا، بعد صدور حكم الإعدام في حقه من طرف رفيقه في الثورة، الرئيس أحمد بن بلّة باعتباره “عنصرا خطيرا يهدد الأمن القومي الوطني”. ولولا التدخلات الدولية على أعلى المستويات، لما تمكن من الخروج من السجن ومغادرة الجزائر.

ويوم وصوله إلى الجزائر رئيسا للدولة، صرح بوضياف: “جئتكم اليوم لإنقاذكم وإنقاذ الجزائر، وأستعد بكل ما أوتيت من قوة وصلاحية أن ألغي الفساد، وأحارب الرشوة والمحسوبية وأهلها، وأحقق العدالة الاجتماعية من خلال مساعدتكم ومساندتكم، التي هي سر وجودي بينكم اليوم وغايتي التي تمنيتها دائما”.

إقرأ على موقع 180  كيم فوك فان ثي.. و"أقوال في اللّاعنف"

لم تمر أيام على وصوله من المغرب، حتى فاتح محمد بوضياف قادة المجلس الرئاسي الجماعي، كما تكلم مع بعض زعماء الأحزاب السياسية حول “قضية الصحراء” التي تعيق تنمية وتطور واتحاد منطقة المغرب العربي، مطالبا بضرورة تغيير الموقف الجزائري الرسمي، وإيجاد حل مناسب يرضي كل الأطراف المعنية، وإسقاط كل الأطروحات التي لا تجني منها المنطقة، والمغرب والجزائرالشقيقان والجاران سوى المزيد من التأزيم والتباعد والتطاحن، ومراكمة الخسارات على الجانبين. هذا الاقتراح الذي تقدم به بوضياف سيعتبره قادة الجيش خطرا كبيرا مهددا لمصالحهم.

الاقتراح الذي تقدم به بوضياف بشأن “قضية الصحراء” اعتبره قادة الجيش خطراً كبيراً مهدداً لمصالحهم

لم تكن قضية الصحراء هي الوحيدة التي أرعبت قادة المؤسسة العسكرية من شخص بوضياف، وبينت لهم خطأهم عندما اعتقدوا أنهم جلبوا شخصا يمكنهم التلاعب به وتسييره مثل “الماريونيت”. فإذا به يفصح عن نيته ويشرع من اليوم الأول في محاربة وكشف الفساد والمختلسين ومبددي المال العام وثروات الشعب الجزائري.

 في تصريح لمجلة أسبوعية مصرية، اتهم بوضياف السلطة العسكرية بإطاحتها بالرئيس الشاذلي بن جديد، وأن ما وقع بالجزائر هو انقلاب عسكري.

 وبعد مدّة قصيرة من عودته، أخبر الرئيس بوضياف ابنه ناصر بأن “الوضع معقد للغاية في الجزائر”. لم يتوقف بوضياف عن مهاجمة رؤوس الفساد في خطبه وتصريحاته، بل إنه شرع في توقيف بعض الأسماء النافذة وإحالتها إلى التحقيق، مثل الجنرال مصطفى بلوصيف المتهم في قضية اختلاس أموال طائلة من وزارة الدفاع. كما قدم مئات الملفات المتعلقة بناهبي أموال الشعب الجزائري، كما ظل بوضياف ينتقد بقوة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأيضا حزب جبهة التحرير الوطني.

لما أبلغ بوضياف قادة الجيش بعزمه على السفر إلى المغرب لزيارة عائلته التي بقيت في القنيطرة، منعه الجنرال خالد نزار من السفر. حينها سيدرك صانع الآجور أنهم لن يتركوه لبناء وتشييد الجزائر التي يريدها ويتصورها لمصلحة وفائدة الشعب، وأنه واقع بين مخالب وأنياب ذئاب، بين أسنان فكي فخ يراد له أن يكون ضحية إطباقهما.

وقبيل اغتياله بأسبوع تمت مداهمة مكتب الرئاسة في عملية هدفت إلى سرقة عدد كبير من الملفات المتعلقة بالفساد. عندئذ، أدرك بوضياف أن الاشخاص الذين كان ينوي إبعادهم ومحاسبتهم، سيفعلون المستحيل للإفلات من العقاب. “وفي اليوم الذي توجه فيه بوضياف إلى مدينة عنابة في زيارته الأخيرة، اقتحم الجنرال العربي بلخير بصحبة أخيه عبد القادر مكتب الرئاسة وأخذ بحوزته مجموعة وثائق”.

لم يكن أمام محمد بوضياف أي خيار آخر يناقض المبدأ والشعار الذي آمن وجاهر به، “الجزائر قبل كل شيء”. وكان الشارع الجزائري يؤيده ويعده قائدا ثوريا، ويطالبه بالتسريع في محاسبة الفاسدين، مناديا بالإنصاف في حق ضحايا أحداث تشرين الأول/أكتوبر 1988. كان بوضياف يدرك أن تحقيق العدالة ليس أمرا سهل المنال. لكنه لم يستسلم، وعوّل على بعض المقربين منه، ممن يشاطرونه الرأي والاستعداد للمهمة “المستحيلة”.

قبيل اغتيال بوضياف بأسبوع تمت مداهمة مكتب الرئاسة في عملية هدفت إلى سرقة عدد كبير من الملفات المتعلقة بالفساد

أحس بوضياف بما ينتظره، حسب رواية مقربين، فأسر لزوجته: “إن كلّ هذه الحفاوة لن تمنعهم من اغتيالي.. فلا ثقة لي في هؤلاء”. وعندما ردت عليه فتيحة أن عودته هي بمثابة انتحار. أجابها بكل إيمان المجاهدين: “إنه الواجب.. كل أملي أن يمهلوني بعض الوقت”.

لكنهم لم يمهلوه.. فقد حل سريعا ظهر يوم الاثنين 29 حزيران/يونيو 1992، حين توجه الرئيس محمد بوضياف إلى مدينة عنابة (شمال شرق الجزائر) حيث جلس على طاولة بسيطة في قاعة المركز الثقافي المستحدث ليشرح في خطاب رئاسي مشروعه وتصوره الديموقراطي لإنقاذ البلاد. عندما وصل إلى القول: “إحنا نشوف الدول اللي فاتتنا.. لماذا فاتتنا؟ لقد فاتتنا بالعلم”، ظهر جندي أمام بوضياف يحمل رشاشاً أفرغ رصاصه في الجسد النحيل للسيد الرئيس. سقط بوضياف قتيلا، وانقطع البث. وبعد ساعة، في الواحدة زوالا تم الإعلان رسميا عن اغتيال بوضياف وتم تنكيس العلم الوطني وإقرار الحداد.

شاهد الجزائريون والعالم ممن كانوا يتابعون بث قناة التلفزيون الجزائري مشهد الاغتيال مباشرة على الهواء. كان الجمهور يتابع باهتمام خطاب الرئيس محمد بوضياف، لما سمع صوت انفجار بسيط في القاعة، سبقه صوت دحرجة، حيث رمى مبارك بومعرافي قنبلة يدوية مفتوحة تدحرجت من تحت الستار، ثم برز من وراء الستار في الوقت نفسه ليطلق زخات طلقات لإلهاء عناصر الحماية، فظن هؤلاء أنه هجوم من الخارج لما شاهدوا بومعرافي يضرب بالنار، “غير أن هذا الأخير نصب سلاحه الرشاش (من نوع باريتا 9 مليمتر ومن طراز بارابيلوم، أي سلاح خطير) في اتجاه رأس بوضياف مرسلا زخات طلقات أخرى متتالية طويلة. وفجأة ساد جو من الفزع والرعب وبدأ عناصر الأمن الرئاسي يطلقون النار صوب الستار، مما أسفر عن جرحى في عداد فرقة الحماية نفسها. والصورة الوحيدة التي بقيت في أذهان الجميع هي مشاهدة بومعرافي وهو يفر من الباب الخلفي.

هكذا شاهد الشعب الجزائري أحداث مأساة اغتيال رئيسه مباشرة على الهواء. أما بومعرافي فعند بلوغه الفناء الخلفي، تسلق جدارا يبلغ طوله حوالى المترين بسرعة فائقة، ولم يشاهد هذه اللقطة سوى بضعة رجال شرطة ومارة كانوا على مقربة من مكان الحادث.

توجه بومعرافي نحو أقرب مبنى سكني، وفي الطابق الأرضي طرق على باب أول شقة وجدها. حيث فتحت له امرأة الباب عندما شاهدت البذلة الخاصة والسلاح في يده معتقدة أنه من رجال الشرطة. لم يطلب منها بومعرافي سوى الاتصال بالشرطة وإبلاغهم أن قاتل بوضياف “يريد أن يسلم نفسه”.

وسيفضي التحقيق في ملف الاغتيال إلى أنه كان قرارا معزولا متخذا من قبل منفذه. ليتم التستر على العصابة التي كانت وراء هذا الاغتيال السياسي الواضح المعالم والأهداف، والمعروف أصحابه ومن خططوا له من المؤسسة العسكرية الجزائرية.

انتهت مغامرة الزعيم التاريخي محمد بوضياف بعد 166 يوماً، لتؤكد نهايته ما ذهب إليه أؤلئك الذين عارضوا عودته وشككوا في نجاحه في مهمته، ووصفوه بـ”الرجل المناسب في الوقت غير المناسب”.

***

خبر اغتيال “السي الطيب”، كان له وقع الصاعقة على “بور ليوطي” الاسم القديم لمدينة القنيطرة، حيث خيم جو من الحزن الشديد على المدينة، وكانت تعتبره واحدا من أهلها وأبنائها، توافدت أعداد من السكان على منزل بوضياف، وبكاه الناس وتقاسموا العزاء مع عائلته، التي لا زال أفراد منها يعيشون بالمدينة حتى اليوم.

***

أعود إلى المحامي الجزائري يوسف فتح الله الذي حاورته في فندق “الموحدين” في الدار البيضاء في كانون الأول/ديسمبر 1991. ستكون صدمة عندما بثت إذاعة البحر الأبيض المتوسط “راديو ميدي آن” خبر مقتله في مكتبه مع سكرتيرته يوم 18 حزيران/يونيو 1994. لأن خلفيات اغتيال فتح الله ذات صلة وثيقة بملف اغتيال الرئيس محمد بوضياف، فقد رفض القاتل مبارك بومعرافي الحديث والإجابة عن أسئلة القضاة في محاكمته، كما رفض المحامي الذي تم تعيينه للدفاع عنه، وطالب باختيار محاميه بنفسه. ثم قام بومعرافي بتسليم القصة الكاملة لاغتيال بوضياف إلى المحامي يوسف فتح الله رئيس رابطة حقوق الإنسان في الجزائر، ولم تمض بضعة أيام على تسلم فتح الله الرسالة المشار إليها حتى لقي مصرعه الدامي.

***

عندما وقعت حادثة الاغتيال، كانت دورة الألعاب الأولمبية تجري أطوارها في الجارة الاسبانية في مدينة برشلونة. لا زالت ذاكرتي تحتفظ بصورة ملأت شاشات التلفزيون، وجه بنت جزائرية، لن أنسى دموعها وهي تعتلي منصة التتويج، دموع كانت ستذرف من مآقي فرح يؤرخ لفوز أول امرأة جزائرية بالذهب الأولمبي (ميدالية ذهبية في سباق الـ1.500 متر)، فإذا بها تغمر وجه البطلة الأولمبية حسيبة بولمرقة بدموع حزن وأسى شديدين من ألم فقدان رئيس بلدها الذي اغتالته رصاصات الغدر. واعتبرت حسيبة بولمرقة يومها فوزها انتصارا ضد التطرف والإرهاب الإسلامي، كما صرحت لمراسل وكالة “رويترز”. فقد شاركت البطلة الجزائرية في دورة برشلونة تحت حراسة أمنية مشددة، بعد التهديدات التي تلقتها بالقتل من طرف الجماعة المسلحة، الفصيل المسلح لجبهة الإنقاذ، بسبب لباسها الرياضي القصير الكاشف لجسدها. وصرحت أنها تهدي ميداليتها للرئيس الشهيد محمد بوضياف.

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  كتاب عن "لافارج" يفك شيفرة الإقتصاد الجزائري