

كان شغور منصب الحاكمية نتاج فراغ أكبر في رئاسة الجمهورية منذ خريف العام 2022، ولم يكد يمضي شهران ونيف على انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية وملء الفراغ الحكومي مع تشكيل حكومة الرئيس نوّاف سلام، حتى أقدمت السلطة السياسية الجديدة على ملء أبرز المراكز الشاغرة في جميع المؤسسات العسكرية والأمنية التي كانت تُدار على مدى العامين المنصرمين إما بالانابة أو بالتمديد القسري لشاغلي المنصب.
ودشّن تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان مساراً خطّت حروفه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي وجهّت رسائل واضحة إلى رئاستي الجمهورية والحكومة في لبنان بوجوب تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان وإلغاء السرية المصرفية بمفعول رجعي وإقرار قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي في لبنان قبل الحادي والعشرين من نيسان/أبريل المقبل، تاريخ بدء إجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في العاصمة الأميركية.
غير أن هذا التدشين خلّف وراءه ندوباً في جسم الحكومة ورئيسها القاضي نوّاف سلام. اذ أظهرت عدم تجانس الفريق الحكومي، وهو مطلب أساسي كان في صلب تحديد هوية الوزراء الـ24 الأعضاء في الحكومة الجديدة، وأظهر أيضاً عدم انسجام بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، بعكس جو الوئام الذي يسود علاقة الأخير برئيس مجلس النواب نبيه بري الذي بدا “منتصراً” بتعيين كريم سعيد على عكس سلام الذي بدا منكسراً بعد أن تعذّر التوافق بينه وبين الرئيس عون على اسم مرشح للمنصب، فكان أن ذهب مجلس الوزراء إلى التصويت على عملية التعيين فخرج سلام في هذه العملية مهزوماً كونه حصد تأييد 7 أصوات مقابل 17 صوتاً من أصل 24 لمصلحة المرشح سعيد، وهو الأمر الذي أظهر ضعف رئيس الحكومة في أول اختبار من خارج التعيينات الأمنية والعسكرية التي قيل إنها ستكون بمعظمها متناغمة مع رؤية رئيس الجمهورية لهذه المواقع.
وهنا يُطرح السؤال كيف تمكن عون من جمع الأضداد في تأييد كريم سعيد؟
ينبغي هنا تحديد القوى التي أيّدت تعيين سعيد في مجلس الوزراء وهي: ممثلو ثنائي حزب الله – حركة أمل؛ وزراء حزب القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وحزب الكتائب بالإضافة إلى الوزراء المحسوبين على الرئيس عون. وهنا تتجه الانظار الى الدور الذي لعبه رئيس مجلس النواب في تحشيد تركيبة غير متجانسة، بالنظر لما هو معروف من خصومة بين “الثنائي” من جهة والقوات اللبنانية من جهة أخرى.
ولأجل فهم هذا الدور، لا بد من الإشارة إلى أن عرّاب وصول عون وسلام إلى موقعهما هو الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية، والأحب إلى قلب هاتين الدولتين هو الرئيس عون بطبيعة الحال، إذ أنّه ومنذ شغور منصب الرئاسة بانتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون قبل أكثر من عامين كان قائد الجيش جوزاف عون هو المرشح الوحيد لهاتين الدولتين. أما منصب رئيس الحكومة فقد طرح اسم سلام في الساعات الأخيرة، وشكّل مفاجأة لكثيرين بينهم رئيس الجمهورية الذي كان متناغماً مع فكرة إعادة تكليف نجيب ميقاتي برئاسة الحكومة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة دخلت على خط تعيين كل القادة الجدد على رأس المؤسسات الأمنية والعسكرية، ولكنها لم تكن لتتساهل أبداً مع من سيتم تعيينه في حاكمية مصرف لبنان، وقد كان نافراً جداً التدخل الأمريكي إلى حد إجراء مقابلات مع المرشحين للحاكمية في مقر السفارة الأمريكية في بيروت، كما أوردت وكالة “رويترز” نقلاً عن مصادر معنية بالملف، وبالتالي كانت موافقة الولايات المتحدة هي الممر الإلزامي قبل اخضاع لعبة الاختيار بين هذا وذاك للتوازنات السياسية والطائفية في لبنان.
ومنذ اليوم الأول لوصوله إلى رئاسة الجمهورية، كان جوزاف عون يدعو إلى إبعاد منصب الحاكمية عن اللعبة السياسية الداخلية حتى لا يتكرر سيناريو رياض سلامة، أي تسخير مقدرات المصرف المركزي لأجل طموحات رئاسية. من هذه الزاوية، كان فريق رئيس الجمهورية يُدقّق في السير الذاتية ويُجري مقابلات مع العديد من المرشحين، إلى أن استقر الإسم على كريم سعيد، شقيق النائب اللبناني الأسبق فارس سعيد.
ولأن موقع حاكم البنك المركزي من نصيب الطائفة المارونية، ونظراً لتركيبة لبنان الطائفية، كانت الأولوية في الاختيار للرئيس بعد أخذ موافقة الأميركيين. وعندما دخل الرئيس سلام على خط المنافسة مع الرئيس عون، فإنّه قرّر الدخول في معركة خاسرة سلفاً وزاد في احتمالات خسارته أنه لم يضع في حسبانه أن الرئيس عون باق في القصر الرئاسي لست سنوات (ما لم يُمدّد لاحقاً) فيما هو باق رئيساً للحكومة، في أحسن أحواله، حتى موعد الانتخابات النيابية المقبلة بعد سنة وشهرين. وكون الرئيس بري كان أمام خيار التحالف مع رئيس سيبقى في سدة الحكم ست سنوات وآخر سيرحل بعد عام ونيف فإنه بطبيعة الحال سيختار التحالف مع الأول لا سيما أن المرشحين للحاكمية كلهم صناعة أمريكية ولا مفاضلة بين هذا وذاك بالنسبة لبري الذي كان سابقاً يُجاهر بتأييد ترشيح جهاد أزعور لمنصب الحاكم، قبل أن يتبين له أن رئيس الجمهورية وضع “فيتو” على اسم أزعور، فقرّر الانحياز للخيار الرئاسي المتمثل بكريم سعيد.
وإلى جانب موقف بري، هناك عوامل أخرى لعبت دوراً في هذه النتيجة، فالرئيس بري سلّف عون موقفاً ثميناً لا بُد أن يحصل على ما يعادله في المستقبل، كما أنه وجّه رسالة غير مباشرة لـ”التيار الوطني الحر” الذي يرأسه النائب جبران باسيل والذي خرج من نعيم السلطة بعد انتخاب جوزاف عون رئيساً وتشكلت الحكومة من دون تمثيل “التيار” فيها. وهذه الرسالة مفادها أن “ثنائي” حزب الله – أمل يُمكنه أن ينفتح في الانتخابات النيابية المقبلة على كل القوى الموجودة في البلاد، وهو غير محكوم أبداً بسقف التحالف مع “التيار الوطني الحر” الذي تخلى عن تحالفه مع حزب الله وعجز بالمقابل عن نسج تحالفات جديدة.. والرسالة الثانية للرئيس سلام جاءت رداً على التصريح الذي أدلى به خلال الأسبوع الماضي وقال فيه إن معادلة “جيش، شعب، مقاومة” التي عمل عليها “ثنائي” حزب الله – حركة أمل في الحكومات التي تعاقبت على الحكم منذ عقدين من الزمن باتت من الماضي، ما أغضب “الثنائي”، وقد ردّ عليه رئيس الكتلة النيابية لحزب الله محمد رعد بعنف يوم أمس الأول بقوله إن هذه المعادلة ستبقى راسخة أما الحكومات فهي التي تزول.
لا شك أن الرئيس سلام خرج بعد تجربة شهر من عمر حكومته، بعد نيلها ثقة مجلس النواب، ضعيفاً جداً.. وهناك من قال إن نتيجة التصويت أظهرت أنه لا يملك الثلث المعطل في الحكومة، علماً أن رئيس الحكومة لا يحتاج لمثل هذا الثلث لأن الحكومة تعتبر مستقيلة بمجرد استقالة رئيسها، وبالتالي بيَّنت هذه التجربة ضعف فريق المستشارين في السراي الكبير الذين نصحوا سلام بمواصلة المعركة مع الرئيس عون حول حاكمية مصرف لبنان.
ورُبّ قائلٍ إن خطوة ارسال طائرة ملكية سعودية لاصطحاب نوّاف سلام لتأدية صلاة العيد إلى جانب وليّ العهد محمد بن سلمان، في رحاب المسجد الحرام في مكّة المكرّمة، “لا يُمكن صرفها إلا في خانة إعادة تعويم سلام سياسياً، لا سيما وأن رئيس الجمهورية لم يفِ بالعديد من الالتزامات المقدمة للسعوديين، وأولها التزامه بعدم تمثيل حزب الله في الحكومة، فضلاً عن تبرئة حزب الله مرتين من أمر اطلاق الصواريخ في الجنوب (في المرة الثانية من قلب الإليزيه) وتناغمه مع “الثنائي” في قضية التعيينات العسكرية والأمنية كما في تعيين حاكم مصرف لبنان المركزي”.
منذ تعيينه رئيساً للبعثة اللبنانية في الأمم المتحدة، في العام 2007، كان يحرص نوّاف سلام على أن لا يغيب كلياً عن بلده لبنان، لكن طوال هذه الفترة فاته أن يتعرف إلى أي مدى بلغت حرفية اللاعبين في مسرح السياسة اللبنانية. وكما يقول المثل الشعبي في لبنان “الضربة التي لا تقتلك تُقوّيك”، عسى أن يستفيد نوّاف سلام من الأخطاء التي حصلت ويتدارك الوقوع في المزيد منها مستقبلاً.