بداية هذه “الشيعية” تستحضر تاريخاً دينياً وليس سياسياً. الديني عنوانه انقسام المسلمين بين “أهل خلافة” وبين “أهل إمامة”. السياسي سيحمل عناوين كثيرة سنداً على الأول. واضطرابات أكثر. ستبلغ الأمور حداً جنونياً. الإنقسام سيصبح بين “روافض” وبين “نواصب”. هم قرروا أن يضعوا خلافاتهم جانباً في مواجهة “الخطر الشيوعي”. لكنهم سيختلفون في أوطانهم على كل شيء، حتى على جنس الملائكة. وسيستحضرون تراثاً تاريخياً يُغذي رواياتهم عن ذواتهم. هذا يوطّد كراهيات عتيقة جداً ما تزال تتصاعد. وستسيل دماءٌ كثيرة من لبنان إلى اليمن مروراً بسوريا والعراق.
مع نهاية سبعينيات القرن الماضي، يمكن تأريخ نهاية شهر العسل الشيعي ـ السني في لبنان والمنطقة. يستعيد أبناء المذهبين إصطفافهم التاريخي، بعد فوز الإمام الخميني بثورته الاسلامية في إيران. الحدث تاريخي وكبير وزلزالي. تقوم أول دولة شيعية في التاريخ الحديث. اعلان هذه الدولة كان تحت ظلال كتاب “الحكومة الإسلامية” الذي أصدره قائد الثورة الإسلامية الإمام الخميني. الكتاب سيتشابه مع “الحاكمية” في كتاب “في ظلال القرآن” لسيد قطب. يتفرع عن الكتابين وليّان شبه متشابهين: الولي الفقيه للشيعة وولي الأمر للسنة.
إعلان الخميني إيران دولة إسلامية يتأتى مصدر تشريعها من الإمامية الإثني عشرية، لن يكون أول دولة إسلامية شيعية في التاريخ. لقد أقام الشيعة الاسماعيليون من قبل الدولة الفاطمية. لكن ثورة الخميني إرتدت طبيعة خاصة وجاءت لتكلّل تاريخاً سياسياً. فالشيعة ـ على كثرة تنويعاتهم ـ كانوا أسرى عقيدة “انتظار” الإمام المهدي، وذلك منذ القرن الميلادي التاسع حتى مطلع القرن الخامس عشر. حينها، سيُهزم الشاه اسماعيل الصفوي وينكفىء الى بلاد فارس ليؤسس دولة قوامها عنصران اثنان: اللغة الفارسية، والمذهب الشيعي الإثني عشري.
معركة القادسية
من مفارقات التاريخ أن الدعامة الثانية لـ”الدولة الفارسية” استجلبها الشاه اسماعيل الصفوي من جبل عامل في لبنان. وتمثلت برجلي دين: بهاء الدين العاملي والمحقق محمد الكركي. عالمان نشرا المذهب الإثني عشري وثبّتا دعائمه. هذه المفارقة ستجد مداها الأوسع والعريض مع انتصار ثورة الخميني في إيران. سيكون الصدى الأول للثورة الإسلامية في أرض الفينيقيين حيث بدأ التبشير بالحرف. من لبنان، ينطلق هذه المرة التبشير بـ”الشيعية السياسية”. أولى الإختبارات وأشدها وطأة كانت في الحرب التي باشرها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في خريف العام 1980 ضد إيران، بدعوى “الحق التاريخي” على شط العرب. سبق ذلك سنوات من التوتر قبيل وصول صدام للسلطة وبعده.
نكأ صدام حسين التاريخ، فاستخرج لحربه عنوان “معركة القادسية”. كان هذا العنوان في متن “عروبة البعث”. وسيستدعي نقاشاً على “الشيعية السياسية” وعنها، ساعد فيه إعلان الخميني نظرية “تصدير الثورة”، ما جعل صدام حسين حارساً للبوابة الشرقية، قبل أن يعود ويستدير ضد الخليج نفسه ويحتل الكويت ليعلن انحطاطاً جديداً يُضاف إلى مسلسل الخيبات العربية.
في المقابل، راحت إيران تُسجل انتصاراً تلو الآخر جراء تطورات عسكرية وأمنية سببها “جهاد إسلامي سُني”. فكان أن سقطت أفغانستان. وبعدها العراق. حصل ذلك تحت عنوان الحرب على الإرهاب التي شنتها أميركا بقيادة جورج بوش الإبن الذي قسّم العالم إلى قسمين اثر استهداف برجي مركز التجارة العالمي في 11 ايلول/سبتمبر 2001. ولاقى زعيم تنظيم “القاعدة” أسامة بن لادن الرئيس الأميركي بتقسيم العالم إلى فسطاطين.
الإنتظار.. والخميني
بدايات الإسلام السياسي الشيعي كانت من طبيعة إجتماعية، لكن بغلاف ديني. أولى تجلياته تمثلت بفتوى تحريم التنباك وأصدرها من النجف العراقية المرجع محمد حسن الشيرازي بمواجهة الشاه القاجاري الذي اعطى شركة بريطانية امتياز التنباك. هذا الظهور على وجه التحديد سيكون أول إصطدام بين “الشيعية السياسية” وبين مكون من مكونات الغرب، سيتخذ أشكالاً عدة لاحقاً وعلى كل المستويات (لاحظوا مثلاً أن نواب حزب الله صوتوا في مجلس النواب، قبل حوالي الشهر، ضد تشريع القنب الهندي (الحشيشة) إنسجاماً مع رؤية دينية وأخلاقية).
العراق ـ ولسبب لا يعرفه إلا الله ـ سيكون دوماً هو “واسطة العقد” في قراءة “الشيعية السياسية”. وفي تبلورها، تحالفاً أو حرباً، مع دول قديمة، وأخرى جديدة وأهمها الولايات المتحدة الأميركية
كانت “الشيعية السياسية” منذ النهاية الخائبة للدولة الفاطمية تتستر بـ”الإنتظار”. انتظار ظهور الامام المهدي الذي سيقيم دولة العدل. وسيبقى كذلك إلى حين نجاح الثورة الخمينية. حينها انقلب مفهوم ومعنى “الانتظار” من الحيز السلبي إلى عكسه الإيجابي. فالخميني هو اول من نسف قصة الانتظار – انتظار الامام الغائب – واخذ المبادرة ونفذ فكرة الحاكمية وانتقى من كثيرين فكرة التأسيس لمشروعه وقدّم “ولاية الفقيه” بالشكل العملي. الخميني نفسه، شحن النفوس بالوجدان الكربلائي، مُعلناً أن “كل ما لدينا هو من عاشوراء”.
باستثناء الإمام المهدي والذي سيقتل بعد ظهوره وإقامة دولته على ما ورد في روايات الشيعة، فإن سائر أئمة هذه الطائفة قضوا قتلاً واغتيالاً. لكن المفارقة أن الشيعة سيستوقفهم على الدوام: اغتيال امامهم الأول علي بن أبي طالب. ثم قتل ابنه الثاني الامام الحسين في كربلاء. هكذا سيتحرك تاريخ ثأري لـ”الشيعية السياسية” في بحثها عن حقها بـ”حُكمٍ سياسي” وتحت شعار يُنسب لنجل الحسين، الإمام علي الأكبر وفيه “لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا”.
العراق واسطة العقد
العراق ـ ولسبب لا يعرفه إلا الله ـ سيكون دوماً هو “واسطة العقد” في قراءة “الشيعية السياسية”. وفي تبلورها، تحالفاً أو حرباً، مع دول قديمة، وأخرى جديدة وأهمها الولايات المتحدة الأميركية. فعلى أرض بلاد ما بين النهرين، سيتخادم “نظام الملالي” الإيراني مع “الشيطان الأكبر”، وهو الولايات المتحدة الاميركية ضد الإرهاب “المُتسنن” بعناوين كثيرة من “القاعدة” بزعامة بن لادن، إلى “تنظيم التوحيد والجهاد” بقيادة ابو مصعب الزرقاوي، ثم “تنظيم داعش” تحت راية أبو بكر البغدادي.
وعلى أرض العراق، ستنفذ واشنطن غارة في مطلع العام 2020، فتغتال الحاج قاسم سليماني قائد قوة القدس في الحرس الثوري الذي قاد شراكة الحرب على الارهاب، من البقاع في شرق لبنان مروراً بسوريا متخادماً مع فلاديمير بوتين وصولاً إلى العراق متحالفاً مع كل دول الغرب، وعقدها على معادلة: الأرض لنا والسماء لكم. والتحالف في العراق بين “الملالي” وبين “الشيطان الأكبر” سبقته صولات وجولات كان عنوانها بيروت التي اتسعت لكل أشكال الصراع وعناوينه، وبين مختلف المحاور والدول ورايتها الكثيفة التي غطت لبنان زهاء عقد ونصف (2005ـ 2020).
كانت “الشيعية السياسية” دائماً تتحرك بتأثير من “مظلومية” سبّبتها “منظومة أموية” طبعت الدول الإسلامية والعربية ولم تقر بالمساواة على قاعدة المواطنة. وهذا شمل إلى الشيعة، كلاً من المسيحيين واليهود. وهذا النقص الدولتي سيكون أساساً سياسياً للحديث لاحقاً عن حلف أقليات تديره موسكو وطهران ويرعى، الى الشيعة والمسيحيين، قوميات وهويات دينية أخرى عديدة على امتداد مساحة الإقليم.
كان الذهاب إلى سوريا بالوعي “الشيعي السياسي”، هو خوض لمعركة تأخر عنها الشيعة قروناً وهم يهتفون في مجالسهم العاشورائية “لبيك يا حسين”
سوريا.. العمق الديني
وفي معنيّي “المظلومية” و”الظالم”، يُصبح مفهوماً انضمام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله إلى الحرب في سوريا، تحت شعار “لن تُسبى زينب في الشام مرتين”، بعدما سبقه إليها مئات بل آلاف التنظيمات الجهادية (الإرهابية)، ناهيك عن “أمم” كثيرة. كان قصير النظر من لم يتمكن من فهم “المعنى المُقدس” ـ إذا جاز التعبير ـ لهذا الإنخراط الحزبللهي في الحرب السورية، من دون التقليل من الأبعاد الأخرى، وهي إستراتيجية بإمتياز.
وإذا كان انخراط حزب الله في الحرب السورية له وقائع سياسية محلية، إقليمية، ودولية. لكن ذلك لا يمنع على الإطلاق، ولا يُسقط “العُمق الديني” لهذه الحرب بالنسبة للحزب الولائي. كان الذهاب إلى سوريا بالوعي “الشيعي السياسي” هو خوض لمعركة تأخر عنها الشيعة قروناً وهم يهتفون في مجالسهم العاشورائية “لبيك يا حسين”. فإلى هذه الأرض سُبيت السيدة زينب بعد واقعة كربلاء. وهناك وقفت تدافع عن حق أبيها وأخوتها وأولادهم بالولاية على الأمة من بعد النبي. لكن الأهم، هو البعد الاستراتيجي الكلاسيكي لهذا الوجود، وهو دفع “الخطر” والدفاع عبر الهجوم، أي الانتقال الى المواجهة برغم جسامة اتخاذ قرار بهذا الحجم في شرق أوسط يشتعل. الانتقال بحد ذاته هو الذي دفع بخطر وصول النار الى لبنان، برغم الثمن الذي دفعه حزب الله من خيرة شبابه ورجالاته.. ومن رصيده السياسي، حيث صار كثيرون ينظرون إليه في العالم العربي، على غير الصورة التي رسمها لنفسه. لا ينفي ذلك ما راكم الحزب من خبرات، يمكن أن يستثمرها في أية حرب مع إسرائيل، ولكن هذا ميدان خارج هذا البحث.
ولعل الصواب السياسي في قراءة “الشيعية السياسية” يكون من حيث هي الآن. لا من حيث ابتدأت. راهنها وما اثارته حيثما وُجدت. أو حيث استطاعت التأثير. وهذا بالتحديد ما يجعل نقاش “النهاية” أو “الراهن” أهم بالمعنى السياسي. فقد صارت هذه “الشيعية السياسية” تتصدر النقاش السياسي اللبناني العام. حضورها القوي في لبنان، بدءاً من الإستقلال، له نوافذ كثيرة. أما أبوابها، منذ ستينيات القرن الماضي، فكثر، وبينهم: الامام موسى الصدر باعتباره الأساس لا بل العَلَم المؤسس. السيد محمد حسين فضل الله التنويري الذي لا يتناقض ومجتمع الحرب الذي يجب بناؤه. الشيخ محمد مهدي شمس الدين “وديموقراطيته العددية”، قبل أن يتراجع عنها قبل رحيله.
شيعة الدولة وشيعة الثورة
كل ذلك ترافق مع سردية حركة أمل برئاسة نبيه بري وحكاياها الكثيرة في الاشتباك مع الكُل اللبناني، من دون استثناء، وكذلك في تمييز نفسها بوصفها تمثل “شيعة الدولة”، بينما يمثل حزب الله “شيعة الثورة”. والمعنيان للقوتين الشيعيتين “الدولة” و”الثورة” انطويا على مفارقات هائلة اختزنت حروباً عديدة تقاتل فيها ابناء الطائفة بشراسة وضراوة، بلغت حد استعمال “السلاح الأبيض” في إحدى تلال إقليم التفاح الذي سيتحول قاعدة للمقاومة الإسلامية، ببعدها الإيراني الأنتي سوري (في ثمانينيات القرن الماضي)، قبل أن يستقر اتفاق الطائف نظاماً سياسياً في مطلع تسعينيات القرن الماضي وتتوقف “حرب الأخوة”.
آنذاك، دخلت حركة أمل إلى الدولة تطالب بما إعتبرته حقوقاً للطائفة على الدولة، وعلى قاعدة “عالسكين يا بطيخ”، على ما ينسب للرئيس نبيه بري قوله، في معرض رده على المحاصصة والتحاصص بين الطوائف. وانصرف حزب الله إلى قتال إسرائيل في الأودية والجبال، مفتتحاً وجهة عريضة بالسياسة والأمن والعسكر. والوجهة التي افتتحها جعلته في وضعيتين متناقضتين. واحدة جيدة. والثانية سيئة. الأولى، كانت في مكاسرته إسرائيل وإخراجها من الجنوب عام 2000 مُسجلاً انتصاراً فريداً من نوعه عبر كل تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي. ثم ما لبث أن ألحق انتصاره هذا بآخر عام 2006 اثر صموده 33 يوماً على التوالي مانعاً الدولة العبرية من تحقيق أيٍ من أهداف عدوانها.
أما الوضعية الأخرى لحزب الله، فكانت في التعامل معه كمادة جرثومية ينبغي عزلها، أو كإشعاع نووي تسربت من مكان ما وصار يُهدد العالم. فكان أن كشفه بعض العرب في حرب تموز ضد إسرائيل. واتُهم باغتيال الرئيس رفيق الحريري، بعدما كان مطلوباً منه التعاون لكشف القتلة الفعليين. وأيضاً بعدما كان الاتهام موجهاً ضد النظام السوري تخطيطاً وتنفيذاً. لكن معادلة ما تم تدبيجها بوهم فصل النظام السوري عن تحالفه مع إيران وشاع تسميتها بالـ”سين ـ سين” قلبت الإتهام ضد الحزب. فكان ما كان من اضطرابات طبعت الاستقرار اللبناني حتى وقتنا الراهن وصار فيها حزب الله “صانع انتصارات”، من وجهة جمهوره ومؤيديه؛ و”صانع أزمات” على حد تعبير خصومه.